«قبيلة تلد أبناءها في قبر الصمم»، بهذه العبارة وصف مرافق «اليوم24» معاناة القرويين، فهنا أرحم للإنسان أن يولد من البداية أصم، حتى لا يصاب يوما على حين غرة بالصدمة، هكذا سيختصر على نفسه الكثير من المسافة مادامت قبيلة «أيت معلا» إلى اليوم محاصرة بالثالوث اللعين الذي يتّحد ضدها: الفقر والمرض والعزلة! الأسوياء أصبحوا عملة نادرة في هذه القبيلة، بل قل إن الحالات الشاذة هي التي تتمتع بنعمة السمع، لكن ما يستغربه أبناء القبيلة الواقعة على بعد 80 كلم من تاوريرت، والتابعة لجماعة سيدي لحسن بالشرق المغربي، هو كيف صمّت آذان المسؤولين عن سماع أنين وآهات المرضى، والإنصات إلى نبض المجتمع هنا، فلا فرص لرعاية المصابين، ولا جهود بذلت لوقاية الأجيال الصاعدة من الوقوع في براثين الصّمم، الذي أعاق قبيلة بأكملها عن الانخراط في الحياة بشكل طبيعي.
هذه «معاناتنا»! «هل تصدق أن أخي وثمانية من أفراد العائلة لا يسمعون؟ نعم إنها الحقيقية»، يقول المديني اليزيدي، أحد أبناء القبيلة الذي حكم عليه شظف العيش بترك القبيلة والهجرة إلى إسبانيا لتحسين وضعه المعيشي. اليزيدي يضيف قائلا، في تصريح ل«أخبار اليوم»: «الناس في أيت معلا تجاوزوا الآن مشكل الصمم الذي يعانونه، لأنهم ببساطة أصبحوا لا يثقون في أحد، وقد أخذ منهم اليأس مأخذه، حتى العامل عندما جاء إلى المركز هناك ذبحنا له مما ملكنا من ماشية، وحضر أمامه المرضى في خطوة لإثارة انتباهه وإعلامه بالمشكل، لكن لا حياة لمن تنادي». اليزيدي يرى أن المعاناة التي تواجه سكان هذه القبيلة الذين تقدر بعض الأرقام المتداولة عددهم بحوالي 600 نسمة، تكمن في غياب أي مؤشر على وجود تنمية أو نية لإحداث أي شيء قد يغير من واق هؤلاء المطحونين، «لا أحد يهتم بنا هنا، وهؤلاء الناس عرضة للضياع». محمد البلغيتي، وهو أيضا من أبناء القبيلة، يتفقد ملامح الناس ويسأل عن الأطفال في صفهم الدراسي، يقترب من أحدهم ويظهر أنه طفل لا يسمع منذ الولادة. رفيق البلغيتي، وهو ناشط جمعوي رفض الكشف عن هويته، بدأ يتجاذب أطراف الحديث مع الطفل المصاب، الطفل لم يفهم شيئا من لغة الإشارات، لكنه أبدى إعجابا كبيرا بهذه اللغة، التي وجدها أسهل من اللغة التي تتحدث بها معلمة القسم، التي لا يفهم منها شيئا، حيث يجلس في الصف كالصخرة الصماء. «يحتاجون إلى من يواكب تعليمهم بلغة تمكنهم من فهم دروسهم، وإلا فإنهم سوف لن يتعلموا شيئا، وسيلحقون بركب الآباء والأجداد»، يقول مرافق البلغيتي. البلغيتي يؤكد من جانبه أن المرض أثر في الأطفال بشكل جلي وواضح، خاصة على مستوى التمدرس، بل أثر حتى على طريقة أدائهم لشعائرهم الدينية، والأخطر من هذا كله هو «عدم تمكنهم من تلقي التجاوب المفترض لدى الإدارة». حال القبيلة لا يبشر بخير، حيث لا مؤشرات إلى حدود الساعة توحي للناس هنا بأمل يلوح في الأفق، «الخطير في الأمر أن المرض بدأ يكتسح»، يقول البلغيتي الذي حمل مسؤولية رعاية المرضى للدولة التي «تتعامل بلامبالاة تامة، فكيف إذن يريدون أن يتعايش هؤلاء المرضى مع الناس بدون رعاية ولا مصاحبة، حتى التلقيح الذي هو أبسط شيء لا يوجد، ولا يمكن أن ننتظر من أناس لا يملكون في رأسمالهم حتى حمار أن يقوموا بالشيء الكثير أو حتى أن ننتظر منهم أن يستقدموا الأطباء والباحثين هنا». غير بعيد عن المدرسة التي تفقد فيها البلغيتي ورفيقه أحوال التلاميذ يوجد محل تجاري لا هو بدكان ولا هو «كارو» بعامية أهل الشرق، المهم أنه يفي بالغرض.. خلف كومة من المواد الغذائية شاب في العشرينات من عمره يظهر شغفا كبيرا بتقديم المساعدة لأهل القبيلة، «يجب أن تعلم أنه لم يتفقد أحوالنا هنا أحد من المسؤولين لمعرفة حقيقة هذا المرض»، يقول علي اليزيدي، البقال الوحيد في القبيلة. علي تطوع لضبط عدد المصابين من الأهالي.. «هذه أوراق دونت فيها العائلة، الأب والأم وعدد الأبناء وحالة السمع بالنسبة إلى الجميع. انظر إلى هذه العائلة الجميع تقريبا لا يسمع»، مشيرا بيده إلى إحدى الاستمارات التي ملأها. وحسب علي، فقد تجاوز عدد المصابين 300 شخص، وقبل سنتين تقريبا تداول بعض النشطاء في مجال الصم والبكم رقما قريبا من هذا الرقم، إذ أفاد مصدر مسؤول بجمعية الغد الأفضل للصم والبكم بتاوريرت بأن عددهم كان 404 بالضبط، وربما قد يكون العدد قد تقلص بحكم الهجرة القروية التي تستنزف «أيت معلا»، وباقي المناطق القروية. الشعور بالإحباط ليس حكرا على المصابين من أهل القبيلة، فحتى الأسوياء ممن حكمت عليهم الظروف بالوجود هنا يحسون بالنقص، هذا على الأقل حال الإمام هنا، «أجد صعوبة كبيرة في تبليغ خطبة الجمعة للمواطنين هنا»، قبل أن يضيف: «لا أخفيك أني أشعر باليأس، وبسبب الصعوبة التي أواجهها في تلقين الدروس والخطبة صرت أكتفي بالصلوات».
الهولنديون أرحم! قبل سنة من الآن تقريبا قدمت إلى مدينة تاوريرت قافلة طبية من هولندا، مهمتها الأساسية استكشاف «أيت معلا»، «هذا المرض اللعين الذي أصاب القبيلة الذي وصل صداه إلى أمستردام، ولم يبلغ مكاتب المسؤولين في الرباط»، يقول أحد النشطاء الجمعويين الذين نسقوا عملية قدوم القافلة من هولندا إلى المغرب. بالإضافة إلى متخصصين في معظم التخصصات، كان بين القافلة أطباء هدفهم الوحيد فحص الناس وإجراء التحاليل وربما أخذ العينات اللازمة لإجراء التحاليل المخبرية اللازمة لتحديد المرض ونوعيته وكيفية تكوينه و«الجينوم» المسؤول عنه، في حالة ما إذا ثبت فعلا أنه مرض وراثي، لكن لم يكتب لهذه القافلة أن تبلغ مكانها، فكما هو شأن غالبية القرى المغربية يمكن لبضع قطرات من المطر أن تعزل دواوير عن العالم الخارجي، تماما كما حدث مع «أيت معلا»، إذ إن الأمطار التي هطلت حالت دون تمكن القافلة من العبور، والوصول إلى مبتغاها الأخير. «وقف الهولنديون مندهشين أمام مجرى الوادي، واستغربوا كيف لتلك القطرات المطرية أن تحطم حلمهم وحلم العشرات من المرضى الذين كانوا على الطرف الآخر، وحضروا كل وسائل الاحتفال بالمناسبة رغم قلة ذات اليد»، يقول أحد المرافقين المغاربة للقافلة. البنية التحتية التي حالت دون تمكن القافلة من الوصول إلى مبتغاها الأخير مازالت قائمة إلى الآن، وكلما سقطت الأمطار عُزل الناس هنا لأيام عن العالم الخارجي. رغم ذلك، وبعد أشهر من هذه المحاولة الفاشلة، عاد فريق طبي مصغر إلى المنطقة، وتمكن من أخذ عينات من لعاب السكان لإخضاعها في هولندا للتحاليل المخبرية للوصول إلى الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا المرض، ومازال السكان ينتظرون بشغف الإعلان عن تلك النتائج.
زواج الأقارب هو السبب «المرض وراثي، وكلما تم الزواج بين رجل وامرأة تربطهما علاقة قرابة وثيقة إلا واستفحل المرض»، يقول سعيد الإدريسي، المندوب الإقليمي لوزارة الصحة بإقليم تاوريرت، فهو يرجع أسباب المرض بشكل قطعي إلى زواج الأقارب الذي يحدث في هذه القبيلة، معتبرا أن المرض وراثي ولا يمكن علاجه إلا بالتحسيس بخطورة زواج الأقارب، وهي مهمة قال إن وزارة الصحة تقوم بها. زواج الأقارب هنا شائع بشكل كبير، فلا يمكن أن تحيا بين هذه الجبال وتتزوج من خارج القبيلة، بل من خارج العائلة الواحدة، وهناك أكثر من اعتبار يتحكم في هذا الزواج، ووفق إفادة بعضهم فإن للأمر علاقة ب«النسب الشريف».
علي لكحل:رئيس جمعية الغد الأفضل للصم والبكم بتاوريرت هذه حالة نادرة تحتاج إلى معاملة اسثتنائية
{ كيف تنظرون إلى الواقع المعاش لقبيلة «أيت معلا»؟ وما هي أسباب مرض الصمم الذي تعانيه؟ أولا، لا بد من الإشارة إلى أن اكتشاف «أيت معلا»، أو الحالة المرضية التي يعانيها السكان في هذه القبيلة، جاء في سياق بحثنا عن منخرطين لجمعيتنا التي أسسناها منذ 3 سنوات تقريبا، ومنذ ذلك الحين ونحن نحاول أن نساهم من مستوى الولوج إلى الخدمات الصحية، غير أننا نعتقد أن المرض الذي يعانيه هؤلاء المواطنون يحتاج إلى أبحاث ودراسات، ونحن ندفع في اتجاه التعريف بملفهم، خاصة أن حالتهم نادرة. لكن الوضع الحالي يجعلهم يعيشون واقعا مزريا، فبالإضافة إلى المعيقات التواصلية على المستوى المحلي، هناك نقص حاد في البنية التحتية تطرح مشاكل على مستوى الاندماج. باختصار، هم يعانون على جميع الأصعدة والمستويات. بالنسبة إلى الأسباب الكامنة وراء المرض، لا يمكن الجزم في الحقيقة بوجود سبب معين مسؤول عن هذا المرض النادر، ووزارة الصحة عن طريق المندوبية ترجع الأمر إلى أنه مشكل وراثي، غير أن هذا الرأي لا يستند إلى دراسات علمية، فلم تجر أبحاث علمية حتى نتمكن من قطع الشك باليقين، فربما الموقع الذي توجد به القبيلة هو السبب، أو ربما المياه، كل الفرضيات واردة.
كيف تتعامل الدولة مع سكان المنطقة؟ يمكن القول بأنه يتم التعامل مع هذا الدوار كباقي دواوير الجماعة الأخرى، حيث لا يبذل مجهود يواكب حالتهم الاستثنائية التي تحتاج إلى معاملة استثنائية، لأنه ببساطة الدواوير الأخرى لديها كفاءات تواصلية تمكنها من الدفاع عن مصالحها عكس هؤلاء. والغريب في الأمر أنه لا يتم التعامل مع المشكل، حيث يتم تجاهله ولا تعطاه الأهمية التي يستحقها باعتباره حالة خطيرة في هذه المنطقة المنسية.
إذن، ما هو الحل لإنقاذ من يمكن إنقاذهم من براثين الصمم؟ الحل في اعتقادي يكمن في الوقت الراهن في تكثيف الجهود بتدخل مختلف الأطراف المعنيين، سواء وزارة الصحة أو مختبرات البحث الطبية التابعة لكلية الطب والصيدلة بوجدة، وحتى المجتمع المدني، حتى نتمكن من وضع المرض في سياقه العلمي، وتتضح ماهيته وأصله وتأثيراته وإمكانية علاجه. وأعتقد أن هذا يجب أن يتم وفق برنامج استعجالي لأن وضعية السكان هنا لم تعد تحتمل أكثر بسبب معاناتها المتجسدة في مختلف المجالات..