تبتدئ اليوم مراسيم نقل السلطة من إدارة ترامب إلى إدارة بايدن، وسط ترقب عالمي، سيبقى يقظا عدة شهور متواصلة بعد انتقال السلطة هذا. يذهب محللون كثيرون للسياسة الأمريكية أننا بصدد تسريع وتيرة قطائع في مطبخ صنع القرار الأمريكي، فإذا كانت فترة ترامب قد دشنت بدايات تمرد مؤسسة الرئاسة على توجيهات «الإستبلشمنت»، ووصل هذا التمرد إلى ذروته بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، حيث عمد ترامب، بعد تيقنه من صعوبة عودته إلى البيت الأبيض، إلى سياسة فرض الأمر الواقع، عبر تفعيل صلاحياته الدستورية دون مراعاة في كثير منها للخطوط المألوفة التقليدية، خصوصا لجهة التوازن بين مصالح الولاياتالمتحدة ومصالح حلفائها التقليديين (الاتحاد الأوروبي أساسا)، فإن التوجهات المعلنة صراحة أو ضمنا من فريق بايدن تفيد الاتجاه إلى إعادة البيت الأبيض إلى بيت الطاعة (الإستبلشمنت)، لكن ببهارات تقيم اعتبارا لانزياح التيار اليساري في الحزب الديمقراطي عن هامشيته، نحو احتلال مواقع متقدمة سواء داخل الحزب أو وسط الإعلام، بفضل استفادته من تنامي قوة التيارات النسوية والجندرية وخطابات الدفاع عن الأقليات، التي هي بدورها لم تكن لتتنامى لولا البروز الراديكالي لقوة التيارات اليمينية البيضاء (الفعل ورد الفعل). لقد كان صنيع ترامب في عدة قرارات أشبه بوضع الحصى (وأحيانا الألغام) في طريق خلفه، لذلك، يترقب العالم تغييرات سريعة سواء في السياسة الخارجية أو الداخلية. إن الأمر هذه المرة غير متعلق بانتقال كلاسيكي من إدارة جمهورية إلى أخرى ديمقراطية، بل بانتقال للسلطة في أفق المحو.. محو «الترامبيزم»، ستكون له ارتداداته في مناطق كثيرة من العالم. لذلك، فحين ينبه البعض إلى أن المكتسبات التي حققها المغرب في الأشواط الإضافية لحكم ترامب يجب ألا تقود إلى تسييد خطاب الطمأنينة، وأن المرحلة الأصعب هي المقبلة لأنها مفتوحة على احتمالات كثيرة، بما يشبه «الضربات الترجيحية»، يتهمهم رعاة خطاب الطمأنة بأنهم غير مرتاحين للإعلان الرئاسي الأمريكي المعترف بمغربية الصحراء. والحال أن أي معارضة حتى ولو كانت راديكالية، سيكون من مصلحتها أن يحسم النزاع في الصحراء، بما يثبت سيادة المغرب الكاملة على صحرائه، كما سيكون من مصلحتها تحول البلاد إلى قوة اقتصادية، لأن أي انتصارات في معركتي الوحدة الترابية والتنمية تصب في صالح معركة الدمقرطة، إذ يفقد دعاة تأجيل تثبيت الديمقراطية كثيرا من المبررات التي تختبئ تارة خلف إكراهات تأمين حسم ملف الصحراء، وتارة خلف أولوية حل المعضلات الاجتماعية. وبالتالي، فإذا كانت ثمة قوى يضايقها حسم ملفي الصحراء والتنمية، فهي حتما القوى واللوبيات والمراكز المستفيدة من الوضع الحالي، وليست تلك التي تدافع عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمجالية. الخلاف، في الحقيقة، هو بين توجهين: توجه يعتمد البروباغندا، والخطاب العاطفي، الذي يصور للمواطن أن الدولة تتحكم في أوراق خارجية كثيرة، وأنها اللاعب الوحيد في مناطق شمال إفريقيا والحوض المتوسطي والقارة الإفريقية، وأن الجميع يخطب ودها، وأنها تفرض شروطها على الكبار، أمريكيين وصينيين وروس، إلى درجة تسييد منطق شوفيني غير عقلاني يوهم بأن اللوبي اليهودي، مثلا، يأتمر بأوامر مليون يهودي من أصل مغربي بإسرائيل (على فرض أن هذه الكتلة متجانسة، وأن ولاءها الأول للنظام المغربي). توجه ثان حذر، يتخوف من انقلاب الإدارة الأمريكيةالجديدة على «تعهدات» ترامب، ويتخوف من جعل قضية الصحراء بعد ربطها بالتطبيع مع إسرائيل رهينة تحالفات هي بدورها رهينة لصراعات شرق-أوسطية، ويعتبر أن أي حل لقضية الصحراء يجب أن ينطلق من براديغم «الإنسان قبل الأرض»، وأن الأصعب هو الآتي، في ظل مناخ دولي يغلب عليه اللايقين. إن الأوراق التي يمتلكها المغرب، مثل الموقع الجغرافي والاستقرار، هي أوراق مهمة، لكنها في ميزان المصالح غير كافية. إنها تشبه المواد الخام التي رغم أهميتها تبقى فعاليتها أقل من فعالية المواد المصنعة في بناء القوة. وإن أي نظر مستقبلي يجب أن يراكم نجاحات على الأرض مع ساكنها، وأن يتمثل أن قدر الجغرافيا يفرض، رغم كل الصعوبات، إيجاد منافذ لتصفية المشاكل، ما أمكن ذلك، مع الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية، لأن في تلك الامتدادات يكمن التكامل الاقتصادي والثقافي والحضاري. وحتى نختم مع بايدن، وبعيدا عن الصحراء وقريبا منها، يأمل كثيرون في العالم أن تنهج إدارته سياسات تنتصر لحقوق الإنسان، أما أنا فآمل أن يقتنع صناع القرار في بلدي بأن الإفراج عن كل معتقلي الرأي، والتوقف عن تسييد مناخ خنق الحريات، ضرورة وطنية، بغض النظر عن أي «شونطاج» خارجي.