بعد بضعة أسابيع فقط، تنطوي سنة أولى على الإعلان رسميا عن ظهور فيروس كورونا في الصين، ومنها تفشيه في العالم كله. خلال هذه المدة الوجيزة، غير الفيروس المنطق، وقلب كل الموازين التي كانت تحكم العلاقات الدولية، وقطع الروابط الإنسانية، بل فرض نفسه حاكما عاما على العالم بالقوة، بعدما أزهق أرواح أزيد من مليون وربع مليون شخص، وأصاب زهاء خمسين مليون شخص. فما الذي حصل فعلا خلال هذه المدة الوجيزة للغاية في عمر الأمم؟ أولا، لم يكن ثمة فهم عقلاني علمي وعملي لهذه الظاهرة الفيروسية -إن جاز التعبير- من شأنه أن يساعد على الحماية والوقاية وإيجاد العلاج. لأول مرة يعجز العلماء والأطباء، ليس فقط عن تقديم تفسير شامل وواضح لهذا الوباء، بل أيضا عن تقديم وصفة دقيقة من شأنها أن تسهم في الحد من انتشار الفيروس وتقليل حالات الإصابات والوفيات... تترجم هذا التخبطَ العلمي البياناتُ المتناقضة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية طوال الشهور الماضية، كما يترجمه عجزُ أقوى المختبرات العلمية والطبية وأكثرها تقدما في العالم عن الإلمام الكلي بأسباب تفشي الفيروس من جهة أولى، وعن معرفة طرق تطوره وتناسله وانتقاله من جهة ثانية، وعن إنتاج دواء أو لقاح قادر على حماية المواطنين من جهة ثالثة. وإلى حد الآن، يبقى الغموض هو سيد الموقف في هذا السياق. ثانيا، لم توجد أي خطة حكومية، حتى الآن، في العالمين المتقدم والمتخلف معا، بمقدورها أن تحتوي انتشار الفيروس. فلا ديمقراطية العالم المتحضر، ولا دكتاتورية العالم المتخلف، نجحتا في كبح جماحه. ورغم أن بعض البلدان استطاعت، في وقت ما، بفضل وعي مواطنيها وحذرهم، أن تصارع الوباء وأن تصرعه في بعض الفترات، فإنه عاود الظهور وخلف نتائج أسوأ من السابق، كأنما ينتقم لنفسه. أما في بلادنا، فبعد «عزلة» صحية غير مجدية، وبعد سلسلة من القرارات الليلية المتسرعة والمتخبطة غير المدروسة، يبدو أن الحكومة استسلمت الآن أمام هذا الاستبداد الأكبر الذي يشبه القدر في فرض أحكامه، حيث لم تعد تفعل شيئا، سوى إعادة توقيع بلاغ تجديد إجراءات الطوارئ، وربما ترقب ما ستفعله «ماما فرنسا» كي تسير على خطاها. ثالثا، ما نشهده حقا، منذ ظهور الفيروس، هو محاولات طائشة لبعض الأنظمة لفرض هيمنتها على الآخرين، أو إخضاع مواطنيها داخليا. ثمة رئيس دولة يهدد بطائراته ودباباته جميع الجيران، محاولا استعادة إمبراطورية بائدة؛ وآخر اتهم حضارة بكاملها بأنها متخلفة ومتأزمة ومتطرفة، في سعي منه إلى تأسيس مشروع إمبريالي جديد، محتذيا بطريقة أسلافه قبل قرون؛ وثالث صاحب جميع المستبدين في العالم، وإن ادعى الانتماء إلى العالم الديمقراطي الحر، و«لهط» ملايير البترول الخليجي، وركّع بعض الزعماء أمام أوراق التطبيع، كما شن حربا طاحنة ضد العلماء، وشكك في وجود الفيروس، رغم أنه بات يصيب يوميا نحو مائة ألف من مواطنيه، ولم ينجُ هو نفسه منه، بل صار الآن يهدد مواطنيه بعدم تسليم المفاتيح إذا لم يفز في الانتخابات. يبدو أن تربع كورونا على عرش العالم لا يعني سوى مواصلة الترامبية عنجهيتها الجنونية الرامية إلى تملك كل شيء، وبعث الماكرونية مشروعها الإمبريالي الذي يبدو أنه لم يغير في الخطاب القديم أي شيء، واستغلال الأردوغانية ضعف الجيران وحروبهم الداخلية لإحياء إمبراطوريتها العثمانية، وشعور البوتينية بحنين جارف إلى القيصرية الأرستقراطية ما قبل الثورة البولشفية والشروع في استعادتها، الخ. هذه سيرة العالم اليوم. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فقط، بل أجج الحاكم الخفي الجديد الشوقَ في نفوس الطغاة الصغار إلى زمن السجون والمعتقلات والخوازيق، وإلى زمن التعذيب والتنكيل والقتل والاضطهاد والنفي والتهجير، مع رغبة عارمة في تجديد أساليبهم وأدواتهم وأفكارهم القمعية... وللأسف الشديد، فإن هذا الحاكم الجديد نجح، بخلاف الحكام الفعليين القدامى، في ترويض هذه الملايير من البشر بسرعة. لم يتمكن الأباطرة السابقون من إخضاع العالم إلا بعد قرون من الحروب الشاملة التي وظفت جميع الأسلحة الفتاكة وارتكبت مذابح مازالت تسير بذكرها الركبان، لكن الحاكم الجديد يفعل ذلك اليوم بفضل نقرة بسيطة على الشاشة؛ حيث يغذي هذه الحشود الهائلة بما يحلو له من أخبار زائفة وحكايات ملفقة... إذ صارت تدوينة واحدة من بضع كلمات كافية لأن تفعل في البشر ما لم تفعله جميع الكتب الدينية في أتباعها منذ عيسى إلى اليوم، وباتت أي كذبة، مهما ظهر زيفها وبطلانها، تنطلي حتى على أكثر الناس تعقلا ونباهة. وللأسف الشديد، مرة ثانية، لم يقتصر تربع هذا الحاكم الجديد -من سخرية القدر أنه يسمى بالفيروس التاجي- على العالم على نشر الخوف والرعب، بل عاد بالإنسان إلى سيرته الأولى؛ سيرة الخرافات والأباطيل والأكاذيب ونبذ العقل والعلم والمنطق العلمي... (أليس هذا ما تترجمه حملة ترامب الشرسة على علماء أمريكا؟).