نستهل هذا المقال بأحكام الكاتبة أمينة التوزاني على السياسة الثقافية في المغرب، قبل العودة إلى مضامين فصوله الأولى. ترى التوزاني، في مقام أول، أن المغرب لم يفلح في أن يرسم سياسة ثقافية واضحة المعالم، تبتعد عن الضبابية والالتباس، مشيرة إلى أن الوزراء المتعاقبين لم ينجحوا في «صوغ هوية خاصة بوزارة الثقافة». كما تؤكد أن هذه الوزارة لم تستطع، منذ تأسيسها بشكل رسمي سنة 1974، أن تبلور برنامج عمل رسمي ذي أسس وغايات قابلة للتنفيذ بشكل عقلاني وفعلي، موضحة أن وزارة الثقافة أبانت «عن عجزها عن الإحاطة بالرهان الثقافي وفهمه.» قد تبدو هذه الأحكام عامة، لكنها متأتية من متابعة تاريخ العمل السياسي حول الثقافة في المغرب، ونابعة من استقراء نصوص تشريعية مؤسسة، من قبيل الظهائر والمراسيم والقوانين التنظيمية، وأدبيات أخرى، مثل التقارير والأبحاث والمقالات الصحافية والنقدية التي تتابع عمل الحكومة عموما. إن أول ما تطالعنا به مؤلفة الكتاب نبذة تاريخية عن الثقافة، منذ عهد الحماية، مرورا بسنوات الاستقلال الأولى، وانتهاء عند تأسيس وزارة الثقافة سنة 1974، وما طبع السياسة الثقافية والإدارة الثقافية وتدبير الشأن الثقافي منذ ذلك إلى الحين إلى عهد الوزير السابق بنسالم حميش. إذ تستحضر المحطات الأولى لهذه السياسة، تلك المتمثلة في ما سمي ب»مديرية التعليم العمومي والفنون الجميلة والتحف»، التي تغير اسمها بعد ذلك إلى «مصلحة الفنون الجميلة والمعالم التاريخية»، والتي كانت غايتها المحافظة على التراث بمختلف أشكاله. وتتابع التوزاني هذا السرد التاريخي خلال عهد الاستقلال، خاصة سنواته الأولى التي شهدت تغيير هذا الاسم مجددا، ليصبح «وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة». لكن أول هيأة خاصة بالشؤون الثقافية ستظهر، كما تقول الكاتبة، سنة 1968 تحت مسمى الوزارة المكلفة بالشؤون الثقافية والتعليم الأصيل. إلا أن إدارة الفنون الجميلة ظلت ملحقة بوزارات أخرى، مثل التعليم العمومي، ثم السياحة، فالإعلام، والتربية الوطنية، وأخيرا الشبيبة والرياضة. في هذا السياق، يمدنا الكتاب بجملة من المعطيات التاريخية التي تكشف أن الحكومات المغربية المتعاقبة بعيد الاستقلال لم تبلور تصورا واضحا حول مفهوم الثقافة، التي ظل يُنظَر إلى وظيفتها بوصفها أداة للمحافظة على التراث أساسا. إذ تكرس هذا التصور أكثر، خاصة في الستينيات والسبعينيات، مع تفاقم حدة الصراع السياسي والإيديولوجي بين المخزن من جهة، والتيارات اليسارية والتقدمية آنذاك. من جانب ثان، ترى التوزاني أن بداية السبعينيات كانت مرحلة مهمة، وإن اتسمت باحتشام كبير على المستوين التشريعي والعملي، حيث ستشهد السياسة الثقافة تحولات جنينية، كان أولها الانتقال، على المستوى المفهومي، من «الشؤون الثقافية» إلى «الثقافة». إذ ظهرت معها وزارة تشمل مجالات كثيرة، تحت اسم وزارة شؤون الثقافة والتعليم العالي والثانوي والأصيل وتكوين الأطر، تقلد منصبها أحمد العسكي، بمساعدة محمد شفيق بصفته كاتب دولة- مساعد، قبل أن تسند إلى وزير آخر هو الحبيب الفهري. وقد تميزت هذه المرحلة بتدخل الدولة الواعي في الشأن الثقافي، رغم أنها لم تكن مدرجة ضمن المخططين التنمويين الأولين بالمغرب. أما إحداث وزارة الثقافة بشكل رسمي سنة 1974، فتربطه أمينة التوزاني بالحركات التقدمية، المنبثقة من رحم الحركة الوطنية، المطالبة بتحديث المغرب وتغيير نظام إدارته، وبين المخزن التقليدي الساعي إلى الإبقاء على الأساليب التقليدية، سواء في الحكم وتدبير شؤون البلاد، أو في العقليات والذهنيات، إلخ. أدى هذا الصراع، على المستوى الثقافي، إلى بروز حركة ثقافية حداثية قوية أرستها قوى اليسار، مجسدة على سبيل المثال لا الحصر، في الجرائد (التحرير، المحرر، البيان، أنوال، إلخ.) والمجلات الثقافية (أنفاس، آفاق، الثقافة الجديدة، أقلام، جسور، إلخ.) والجمعيات والمنظمات الثقافية (اتحاد كتاب المغرب مثلا). على النحو، بادر الطرف الآخر إلى مواجهة هذا المد، بتأسيس جرائده ومجلاته وجمعياته ومهرجاناته، بل وأحزابه ومنظماته السياسية والاجتماعية والثقافية... هكذا، أدى هذا الصراع، رغم توتراته العنيفة وانعطافاته الخطيرة، إلى حصول حركة ثقافية متنوعة في الرسم والمسرح والموسيقى والسينما ومجالات أخرى ترصدها التوزاني على امتداد فقرات طويلة معززة بإحالات مأخوذة من مصادر تلك الفترة. وكان لهذا الصراع، بالطبع، أثر واضح في الارتقاء بقطاع الثقافة إلى مرتبة وزارة مستقلة بذاتها ومكلفة بالشؤون الثقافية. هنا، تتوقف الكاتبة عن كل ولاية وزارية، موضحة ما تميزت به مرحلة كل وزير، مقدمة نبذة عن سيرته وانتمائه السياسي والفكري، مفصلة القول في برنامجه ومنجزاته، منتقدة بعض قراراته، ومبينة إخفاقاته وتعثراته، الخ. إذ تكشف ما تحقق للثقافة، من داخل العمل الحكومي، منذ أول وزير لها الحاج امحمد با حنيني، مرورا بسعيد بلبشير ومحمد بنعيسى ومحمد علال سيناصر وعبدالله أزماني وعزيزة بناني ومحمد الأشعري، وانتهاء إلى ثريا جبران وبنسالم حميش، سواء فيما يتعلق بالتدابير والإجراءات التشريعية والقانونية والتنظيمية، أو بالبنيات التحتية، أو المشاريع الثقافية، أو الميزانية المرصودة للعمل الثقافي، إلخ. ورغم أن التوزاني تعترف بوجود زخم في العمل الحكومي، يرمي إلى النهوض بالثقافة المغربية، إلا أنها لا تغفل عن الوقوف عند مدى التهاون الذي يسم الانتقال من الفكرة النظرية إلى أرض الواقع؛ أي ما يتصل بتنفيذ المشاريع، وكذا عند البطء الذي يطبع هذا التنفيذ في حالة قرر هذا الوزير أو ذاك تحقيق ما تنص عليه قرارات الحكومة أو الوزارة المعنية. وتضرب مثالا على ذلك ببعض البنيات التي وجدت على الورق منذ السبعينيات، لكنها لم تتحقق على أرض الواقع إلا بعد عقود، ومنها المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي والمكتبة الوطنية للمملكة المغربية. ويبقى أهم ما يثيره هذا الكتاب وقوفه، في فصل أخير، عند العلاقة بين الثقافة والديمقراطية ودور الدولة. وإذ تنتقد الكاتبة ميل الدولة إلى «التنميط والتوحيد»، فهي ترى أن الثقافة تحتاج إلى أن تكون مجالا مفتوحا أمام الجميع، لأنها المقوم الوحيد الذي ينبع من الشعب كله ويمثل جميع مكوناته. من هنا، تؤكد أنها تمثل حقا أساسيا من حقوق الإنسان، رغم أنها تميز في هذا المستوى بين حق الثقافة بما يعنيه من حق في هوية ثقافية والانتساب إليها، وبين الحق في الثقافة الذي يحيل إلى الحق في الولوج إلى الثقافة والمشاركة فيها والاستفادة من أدوات التواصل والتعبير والإبداع. كما ترى أن دور الدولة هنا يجب أن يشمل ضمان هذه الحقوق المختلفة، وفي مقدمتها ولوج التعليم والاستفادة من التربية الفنية ونتاجات الإبداع الثقافي والاستفادة من البنيات التحية (أي دور الشباب والثقافة، المكتبات، الأروقة، المعارض، المسارح، إلخ). تخلص أمينة التوزاني، بعد استعراض مختلف مجالات تدخل الدولة في المجال الثقافي، إلى أن السياسة الثقافية لا تعاني نقص الإمكانيات والوسائل، وإنما من ضحالة الفكر وضعف التصورات النظرية والعملية التي من شأنها أن تؤطر هذا التدخل. إلا أن ما يثير الانتباه في بعض مقاطع هذا الكتاب ليونة الموقف تجاه بعض الوزراء، رغم أنهم كانوا حريصين على المنصب أكثر من حرصهم على الثقافة؛ في مقابل حدة النقد الموجه إلى البعض الآخر، رغم أنهم ساهموا- حسب الإمكانيات والوسائل المتاحة لهم- في ململة السياسة الثقافية ووضع اللبنات الأولى لما يمكن تسميته ب»السياسة الثقافية». أضف إلى هذا سكوت الكتاب عن الطرف أو الأطراف التي تحول دون تبني هذه السياسة، وتقاوم بقوة الآمال والطموحات الساعية إلى الانتقال بالمغرب إلى زمن الحداثة.