الديمقراطية لا يمكن بناؤها إلا في ظل وجود أحزاب سياسية تمتلك قراراتها، ونخب حزبية مؤمنة بالديمقراطية كقيمة حقيقية، وليس كشعار. وقد أظهرت الأحداث الأخيرة بما لا يدع مجالا للشك، بأن معظم الفرقاء السياسيين، يفتقرون أولا: إلى ثقافة ديمقراطية حقيقية، وثانيا: إلى بعض الحياء الذي يعفي أصحابه من التلون والحربائية وتغيير المواقف بلا مبرر ولا وجه حق. مناسبة القول، هو ما أقدمت عليه الأحزاب، التي طالبت في مذكراتها بخصوص تعديل "القوانين الانتخابية"- على أقصى تقدير- ب"احتساب القاسم الانتخابي على أساس اعتماد الأوراق المعبر عنها، سواء الصحيحة أو الملغاة أو الأوراق البيضاء أو الأوراق المتنازع فيها"، لتتحول – ويا للعجب- بين عيشة وضحاها إلى المطالبة ب"احتساب القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية". صحيح، أن غاية الأحزاب التي غيرت مواقفها المكتوبة في مذكراتها المقدمة، واضحة وضوح الشمس، ويمكن القول إنها الغاية نفسها التي جمعت غالبيتها يوم 8 أكتوبر 2016، ل"الانقلاب" على نتائج السابع من أكتوبر التي بوأت حزب العدالة والتنمية صدارة الانتخابات آنذاك. ومؤكد أيضا، أن تضخيم القاسم الانتخابي، سيؤثر سلبا بالدرجة الأولى على حزب العدالة والتنمية، المرشح الأبرز لتصدر الاستحقاقات المقبلة، بحيث سيُفقده عددا من المقاعد المحتملة، لكن، ليس هذا هو المهم، فحسابات الخسارة والربح، ليست مرتبطة بعدد المقاعد البرلمانية، كما يمكن أن يتوهمه البعض، ولكنها مرتبطة بعملية قتل هادئة للسياسة بدأت، وسيجري تسريعها، حينما سيحس الناس بأنه ليست هناك أية أهمية لأصواتهم الانتخابية، وهم يرون أن مرشحا حاز على عشرات الآلاف من الأصوات (مثلا: 60 ألف صوت) متساو – بالمنطق الجديد- مع مرشح ثاني حصل على بضعة آلاف (مثلا: 3000 صوت)، بحيث سيحصل كل منهما على مقعد واحد داخل الدائرة الانتخابية ذاتها. وهذه هي الضربة التي ستقصم ظهر ديمقراطيتنا الفتية، وهكذا سنناقض خطاباتنا – دولة وأحزابا- الداعية إلى العمل على تعزيز المشاركة السياسية للمواطنين ومحاربة ظاهرة العزوف الانتخابي. ويبقى السؤال: كيف سنقنع المغاربة بأن أصواتهم لها معنى، وبأن المقاعد المتبارى حولها لن تخضع لمنطق "الوزيعة"، إذا عدلت القوانين الانتخابية، وتم تضخيم القاسم الانتخابي؟ ثم كيف سنقنعهم بجدوى المشاركة، وهم الذين لم يبلعوا بعدُ حقيقة أن الحكومة الحالية، بغض النظر عن نجاحاتها أو إخفاقاتها، ليست هي الحكومة ذاتها التي كانوا ينتظرونها حينما ذهبوا للتصويت يوم 7 أكتوبر 2016؟ فعلى الرغم من أن القضية الآن، ليست قضية حزب العدالة والتنمية، بقدر ما هي قضية كل الديمقراطيين، في مواجهة خصوم الديمقراطية الذين يحاولون في كل مرة، بعث رسائل الإحباط والتشكيك في فعالية الأصوات الانتخابية للمواطنين، بمساعدة مجموعة من الأحزاب المأزومة، والمسلوبة الإرادة والقرار، التي بعدما كانت بمثابة قلاع للنضال الديمقراطي، أصبحت مجرد أدوات تجيد الهدم فقط، وها هي اليوم بما تفعله تمعن في هدم ثقة الناس بها، غير مكترثة لصراخهم ونقدهم لعيوبها، إلا أنه وجب على "البيجيدي" أن يحذر من أن يُستدرج للقبول بمقترح "احتساب القاسم الانتخابي على أساس اعتماد الأوراق المعبر عنها"، تحت مبرر "التوافق"، والذي سيكون في الأصل توافقا مفترى عليه، وقبولا بالمطلب الأصلي لحزب "إدريس لشكر" المضمن في مذكرته. إن ما عابه المغاربة، على حزب العدالة والتنمية، ومنهم جانب من مناضليه، وأدى الحزب ثمنه سياسيا وشعبيا، هو قبوله، بشروط لم يكن يقبلها في السابق. وبالتالي، فاستمرار مسلسل التنازلات لم يعد مقبولا، وواجب الوقت، بعيدا عن أي حسابات سياسية ضيقة، هو الوضوح في المواقف والدفاع عنها، والتعريف بحقيقة المتلاعبين في الكواليس، وفضح خصوم الديمقراطية، وإخراجهم إلى دائرة الضوء ليظهروا للناس على حقيقتهم.