يتحدث المغاربة بيأس عن قطاعي الصحة والتعليم. وللحق، هما قطاعان يعيش معهما المغاربة في تماس يوميا ويلمسون أعطابهما، لذلك يتراكم الإحباط بشأنهما، لأن المنجز دون المأمول، بل وأقلّ بكثير من الإمكانات المرصودة. لن نكرر "لطْميات" انتقاد القطاعين، فأمام باب كل مستشفى أو مصحة لن تنتظر طويلا حتى ترى مواطنا "يُعرّق" للدولة والوزارة والأطباء والممرضين، وحتى حارس الأمن الخاص. لكن دعنا من هذا، ولنتحدث عن "جزئية" لفتت انتباهي بعد أسبوع طويل من التعامل مع المصحّات والمستشفيات: مركز تحاقن الدم. عشرات الأشخاص يحتشدون (ولا تحدثني عن إجراءات التباعد الجسدي هنا) في انتظار كيس دم أمام مركز تحاقن الدم في الدارالبيضاء، لصالح أحد الأقارب الذي ينتظر الخضوع لتدخل طبي مستعجل، لكن المركز لا يمكن أن يلبّي كل الطلبات بالسرعة المطلوبة والكفاءة التي يتوقعها الجميع، لتسأل: أين المشكل؟ بعد حين تفهم أن قريبَك يُمكن أن تتأجل عمليته الجراحية المستعجلة جدا أياما، بعدما جرى تجهيزه للجراحة، والأطباء مستعدون، وقاعة العمليات جاهزة، وحالته الصحيّة لا تحتمل تأجيلا وهو ينازع الموت في كل لحظة، وأن كيس دم يمكن أن يعرقل كل شيء، وأن معاناة مريضك، وكل المرضى، ستستمر، وأن حياتهم مهددة، لأن مركز تحاقن الدم لا يستطيع تأمين احتياجات الجميع وبالوتيرة المطلوبة (وتحت الضغط تمرّ الساعات كأنها أيام)، علما أن بعض الحالات المرضية تصير فيها الحياة والموت مسألة دقائق. تلاحظ جيدا وتدرك أن الدم لا يمكن تصنيعه، كما لا يمكن استيراده، وأن الحلّ بين أيدي المواطنين أنفسهم الذين يطالبون به في ظروف بالغة السوء. لا اعتراض على انتقاد تدبير الدولة للأمور، فمن حقّ الناس أن تطالب بما تراه أنه مستحقّ، ولا اعتراض كذلك على الضغط بكل الوسائل المشروعة لتغيير هذا "المنكر" الحاصل في مستشفياتنا المعطوبة أعطابا مزمنة، لكن هذا المواطن الغاضب، والذي يحتجّ همسا أو جهرا، يجب أن يفهم أن مقابل الحقوق هناك واجباتُ مواطَنةٍ يجب أن تُؤدّى، وأنه حين يحتجّ أمام مركز تحاقن الدم، لأجل الاستفادة لصالح مريض، يجب أن يسأل نفسه: هل سبق له التبرع بالدم؟ وهل يتبرع بانتظام لتجديد احتياطي بلادنا من هذه المادة الحيوية؟ وهنا لا أقيم علاقة بين الحق في الاستفادة من احتياطي بلدنا من هذه المادة وبين التبرع، لكن عدم لفت الانتباه إلى هذا الأمر سيجعل الجميع يطالب، وقلّة من يتبرعون ل"السداد" عن الأغلبية. الأمر يرتبط بالصحة العامة في "جزئية" لا تنفع معها تمويلات ولا خطط ولا برامج، بل الحاسم فيها تطوع الناس، وتحول سلوكهم المواطِن بالتبرع إلى عادة يقدمون عليها بالتزام عال، لأن القصة مع أي أحد قد تنقلب من متبرع لمستفيد. لحظة كنت أنتظر الاستفادة من الدم أدركتُ أنني سآخذ معي دم مواطن مغربي لن يكون بالإمكان التعرف عليه، أحسست أنه "جندي مجهول" في معركة حياة قريبتي، وأنه لن يعرف أيضا مصير دمه، لكنه ساهم في إنقاذ حياة إنسان، ولولا تبرعه لاستحال إجراء التدخل الطبي.. الأمر بهذا المعنى يصير "بطولة" باعتبار النتيجة النهائية. كثيرون تبرعوا بالدم ووجدوا صعوبات عندما أرادوا الاستفادة، وهذه قصة أخرى تهمّ طرق تدبير هذا المجال، لكن مواطنين أكثر منهم لم يتقدموا يوما للقيام بالواجب مع قدرتهم على فعل ذلك، وهم لا يدركون أن قصّة احتياطي البلد شأن مجتمع أكثر منه شأن دولة ووزارة، وأمر تدبير. وعند الخصاص الذي يترتّب عليه الموت أتصور أن التبرع يصير "فرض عين" ل"من استطاع إليه سبيلا" وليس "فرض كفاية" يقوم به البعض ويسقط عن الكل. إن العشرات من المرضى في هذه اللحظة يعانون، ومعاناتهم يمكن أن تطول، لأن الاحتياطي من الدم لا يلبي كل الاحتياجات. يؤلمك ألمُ مريضك والوضعية التي يوجد فيها وهو معلّق بين الحياة والموت فيما الأمر متوقفٌ على كيس دم، وأيضا تؤلمك نظرات موظّفة ملزمة بالتحدث واستقبال طلبات الناس المتوترين، لكن ليس بإمكانها في كل مرة أن تمنحهم ما يريدون وفي الوقت المناسب. طيلة اليوم، تحاول الموظفة التهدئة لأنها تتفهّم الوضع، ومرات تُوصد النافذة الصغيرة في وجه الجميع وتتركهم للفراغ بلا أجوبة، قبل أن تفتحها من جديد لتنادي على أسماء قليلة ضمن لائحة طويلة ولاتزال تطول، لأنه في كل دقيقة تودع طلبات استفادة جديدة. لا تجد الموظفة (العاجزة) من سبيل إلا أن تطلب من المنتظرين مزيدا من الانتظار، قبل أن تنسحب وهي تدرك أنها رمت من جديد قنبلة في وجه الجميع، وحين يكاد ينتهي اليوم يخاطب حارس الأمن الخاص (الذي يصلح لكل شيء في إداراتنا) الجموع المحتشدة: "الدم سالا... رجعو غدا، واللي بغا الدم يجيب ربعة يتبرعو". هذا المشهد المؤلم يتكرر كل يوم، ومعه تتكرر المآسي، التي ينتهي بعضها بموت المريض. تتأمل جيدا، وتقتنع أنه ليس في كل مرة تنفع إقامة "حفلات السبّ" للدولة، كما أن الانتقاد لا يعفي المجتمع من تحمل المسؤولية. وفي هذا الموضوع، تقتنع أيضا أننا مجتمع كسول، وبخيل، وأنه لا يُعطي كفاية، ولذلك ألف تفسير، ولا تبرير. ولأجل ذلك، يصلح القول إنه يجب تغيير "أُصبع الاتهام من السبّابة إلى الإبهام". لعلّ ذلك ينفع وينقذ أرواحا. تبرّعوا رحمكم الله.