استغرب صديق من أيام العمل بتارودانت، التقيته أخيرا، ما اعتبره تحولا في خطابي، نحو ما نعته راديكالية، قد تكون مضرة في السياق الحالي. وعاد بالذاكرة إلى تأسيسنا جمعية «المغرب المتعدد» Maghreb Pluriel، وكيف اتهمنا مناضلو اليسار الحكومي واليسار الممانع بالمدينة، بعد استضافتنا أحمد حرزني، بخدمة أجندة الوزير المنتدب في الداخلية آنذاك عالي الهمة. وهي تجربة لم تعمر طويلا، وكانت تضم طيفا من مواطنين قادمين أو منتمين إلى تنظيمات مختلفة؛ التقدم والاشتراكية والعدل والإحسان والقاعديون، وحتى جبهة القوى الديمقراطية، والجزء الأكبر من اللامنتمين... كنا نشتغل كخلية نحل، مستفيدين من هامش كان في السنوات الأولى للألفية الثالثة، إلى درجة أننا أنتجنا وثيقة حول طموحنا إلى تأسيس تجربة جهوية على أساس مفهوم الجهة التاريخية لا الإدارية، وأن الحركات الاجتماعية يمكن أن تكون قوى ضاغطة نحو أفق دولة الأوطونوميات، وهو نقاش كانت جغرافيات أخرى بالبلد تخوض تمرين نقاشه (منتدى شمال المغرب لحقوق الإنسان، خاصة فرع الحسيمة آنذاك)، ولقد كنا من ضمن الأوائل الذين انتبهوا إلى استنفاد المجتمع المدني مهامه بفعل ضبطه دولتيا، أو هشاشة الحاضنات الحزبية، وضرورة الانتقال إلى رحابة الحركات الاجتماعية الجديدة. لماذا أعود إلى هذه التجربة التي مرت سريعا؟ يتعلق الأمر بالدلالة على أن هوامش الانفتاح التي فتحت في تلك المرحلة (وكان عاديا أن تكون مضبوطة على إيقاع سلطة تخشى المغامرة)، قد تُرجمت إلى بإمكانية تحول ديمقراطي ولو ببطء، وهذه الآمال بدورها ترجمت مبادرات وكتابات وآليات ضغط، وواكبها إعلام بجرعة جرأة زائدة عن المألوف. بدت السلطة، رغم تحكمها في هذا الانفتاح على قاعدة goutte à goutte، غير متضايقة كثيرا من الأصوات التي كانت تمثل أقصى المعارضة، فمثلا، كان عبد لله زعزاع والمحامي عبد الرحيم برادة يجريان حوارات مع الإعلام يعبران فيها عن قناعاتهما الجمهورية، وصرح المرحوم إدريس بنزكري في جريدة حزبية (المنظمة) بأن القصر هو من يتحمل مسؤولية اختفاء المهدي بنبركة، بل إن الحركة الحقوقية كانت لا تجد حرجا في مطالبة الملك بالاعتذار عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدثت في عهد والده، باعتبار أنه هو الذي يمثل الدولة، وقد تدوولت هذه النقطة حتى في مداولات هيئة الإنصاف والمصالحة التي خرجت من رحم مشاورات بين صديق الملك الهمة وجزء من قيادة المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وشخصيات معارضة أخرى. وعلى ذكر المنتدى، فقد كان يضم في صفوفه آنذاك أعضاء صحراويين من الذين لا يخفون مطالبهم بحق تقرير المصير في الصحراء، وهي المجموعة التي ستؤسس لاحقا الكوديسا (تجمع الصحراويين المدافعين عن حقوق الإنسان). في هذه المناخات، كنت مقتنعا بإمكانية المراهنة على التوسيع التدريجي لهذه الهوامش، التي قد تتحول بعد سنوات إلى متن، موقنا (ومازلت) بأن أي تغيير له كلفة، وأن البراغماتية النبيلة تقتضي تخفيض التكلفة ما أمكن، وألا تكون فاتورة الضحايا باهظ. إنه نوع من المقاومة المدنية الهادئة التي تحصن المتاح، وتسعى إلى مزيد من المكاسب، سواء بالضغط الذي لا يعيدنا إلى زمن المواجهات الحدية، أو بالتفاوضات والتسويات التي يكون من مخرجاتها توسيع إمكانات الفعل الموازي لحركة السلطة. وحيث إن الفضاء العام هو بطبيعته مجال للصراع بين السلطة وبين الحركات الاجتماعية المضادة أو الرافضة لتحكمها، فثمة إمكانية لتأمين عبور نحو امتلاك المجتمع/الشعب لسيادته على القرار والمقدرات، مع تأمين استمرارية النظام السياسي في شكله الملكي، ولا تعوزنا تجارب عالمية، فالجمهورية لا تعني الديمقراطية حتما، والملكية لا تستدعي لاستمرارها الاستبداد وجوبا. هكذا، فرض الواقع آنذاك بتشابك متغيرات دولية وأخرى محلية (أساسا وجود ملك جديد)، وانفتاح المجال العام غير المألوف على أصوات معارضة قديمة وجديدة، تنازلات مرغوبا فيها من طرفي الصراع القديم.. تنازلات نتيجة مفاوضات أحيانا، أو نتيجة تفاهمات ضمنية هي محصلة إشارات من الفوق أو التحت. لكن كل هذه الديناميات تكسرت، حين بدأت فتاوى سياسية تطفو فجأة، تعتبر أن الأولوية ليست للديمقراطية بل للاقتصاد، وبدأ ترويج نماذج البنعلية التونسية، وحتى تيار المستقبل اللبناني، وتوجت هذه الفتاوى التي ساهم فيها بتنظيرات سخيفة ما سيعرف لاحقا بيسار «التراكتور» بتأسيس حركة لكل الديمقراطيين، ثم البام، وبعدها سيكون التجريف التام لعبارات: الانتقال الديمقراطي، المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، لصالح «مشروع» عبئت له طاقات دولتية وحزبية وأكاديمية ومقاولاتية، وهو: استعادة الدولة لتحكمها التام في المجال العام، وقد اتخذ كذريعة لذلك شعار فرعي للتمويه هو: مواجهة الإسلاميين. هذا السياق الذي كان جديدا مع تأسيس ما سمي آنذاك بالوافد الجديد، مازال مستمرا، وإن بلاعبين جدد، رغم أنه لم يحقق تنمية ولا إقلاعا اقتصاديا ولا تحجيما للإسلاميين، والمتغير الوحيد هو «تتفيه» المؤسسات، مع استمرار ظهور كل مرة بعض الشخصيات التي تحاول أن توهم الفاعلين والرأي العام (تجاوزا لأن المواطنين لم يعودوا مهتمين بالسياسة كما تقترف فوقيا، وطوروا آليات لممارستها قاعديا) بأن ما تقوله في قنوات تصريف خطابها (أخبار، مقالات، تصريحات، تدوينات...) يعكس قرارات ومقترحات الدولة. رغم أن تحليلا بسيطا كافيا للدلالة على أن ما تروجه هو محض رغبة لوبي من لوبيات متعددة فقط، وسيكون هذا حديث الأسبوع المقبل إذا لم..