حلّ شهر أكتوبر، وعادت معه قضية الصحراء إلى الواجهة السياسية والإعلامية، الوطنية والدولية، وكشفت أغلبية الأطراف المعنية بهذا الملف أوراقها بعد اشتداد المخاض في الأسابيع القليلة الماضية. إجمالا، يمكن القول إننا بصدد إنهاء «سنة بيضاء» في عمر هذا الملف الأربعيني المعقّد، وذلك لسببين رئيسين، أولهما أنها سنة دون مبعوث شخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء، حيث عجز أنطونيو غويتريس عن تعيين خليفة للألماني هورست كوهلر الذي استقال أواسط العام 2019؛ وثانيهما أنها سنة «كورونية» بامتياز، حيث كاد التقرير، الذي قدّمه الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي، يلخّص مجريات السنة الماضية في تأثير وتداعيات الجائحة العالمية على الأوضاع، حيث وباستثناء بعض الملاحظات الروتينية حول تحركات هذا الطرف أو ذاك، وخروقات وقف إطلاق النار والاتفاق العسكري، تكاد الوثيقة الأممية الجديدة لا تقول جديدا أو تطورا ذا بال. في أية محاولة لقراءة فنجان ملف الصحراء، أياما قبيل اجتماع مجلس الأمن الدولي لاتخاذ قراره السنوي الجديد، لا بد من تسجيل عودة الملف إلى إيقاعه التقليدي السابق، والذي كاد مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، «الصقر» جون بولتون، يكسر قواعد اللعب المعتمدة في تدبير هذا النزاع، حيث فرض قبل سنتين إيقاعا ضاغطا تمثل في اكتفاء مجلس الأمن الدولي بتجديد ولاية بعثة المينورسو ستة أشهر فقط، موازاة مع التحركات المكثفة التي كان يقوم بها الرئيس الألماني السابق، هورست كوهلر، المبعوث الشخصي حينها للأمين العام للأمم المتحدة. ملف الصحراء الذي يعيش عقده الخامس من الوجود، دون احتساب المطالب المغربية المبكرة باسترجاع هذا الإقليم، لا يمكن حلّه بطريقة تدبير النزاعات الساخنة والجبهات المفتوحة. هذا ملف عابر للحقب الدولية، ولد في سياق سياسة المحاور العربية بين معسكري الملكيات والجمهوريات، والتقاطب الدولي المعروف باسم الحرب الباردة، وخصوصيات سياسية داخلية للنظامين السياسيين المغربي والجزائري، وبالتالي، لا يمكن أن يعالج بأسلوب الدبلوماسية المكوكية والوصفات الجاهزة ملثما اعتقد جون بولتون غير المأسوف على رحيله. بياض السنة الأخيرة من عمر هذا الملف ليس ناصعا تماما، بل يكاد يكون خادعا، لأن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، ويمكن، دون تحيّز أو انسياق لأي شعور مهما كان وطنيا، القول إن التيار صبّ في عمومه في مصلحة المغرب. فالمحاولات التي كان الطرف الآخر يسعى من خلالها إلى تحريك ورقة الاتحاد الإفريقي لصالحه في هذا الملف، انتهت إلى تحييد قرارات وهيئات ولجان البناية الصينية الشاهقة التي تحتضن مقر الاتحاد الإفريقي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وفي مقابل انشغال الجارة الشرقية بترتيب بيتها الداخلي بعد الحراك الشعبي الذي عاشته منذ أواخر العام 2019، كانت الدبلوماسية المغربية نشيطة وحقّقت ثقبا، وإن كان صغيرا، في جدار الاعتراف الدولي بالسيادة المغربية على الصحراء، حين افتتحت ما لا يقل عن عشر دول تمثيليات قنصلية لها في مدينتي العيون والداخلة. والأهم من كل ذلك، هو هذه الدينامية التي عرفها المستوى «السفلي» من تدبير النزاع، وما أفرزه مخاض طويل من النقاشات والتحضيرات من تأسيس لهيئة سياسية جديدة تحمل اسم «صحراويون من أجل السلام»، انعقد، عصر أول أمس السبت بمدينة العيون، مؤتمرها التأسيسي بعد مؤتمرات تحضيرية وبيانات إعلامية. وما كان قبل أيام مجرد تخمينات، بات الآن يقينا، من كون الخطوة الاستفزازية الأخيرة التي قام بها انفصاليو الداخل، وإقدامهم على إعلان تأسيس هيئة انفصالية في قلب الصحراء، كان محاولة يائسة لعرقلة تأسيس «صحراويون من أجل السلام»، والتي تتمتع بامتدادات شعبية تصل إلى قلب مخيمات تندوف، وتحمل تصورا أوليا يميل إلى مناصرة «حل ثالث» لا يعني في النهاية سوى دعم المقترح المغربي لمنح حكم ذاتي في الصحراء. وبما أن الإمساك بخيوط فهم ملف يشارف على إتمام الخمسين سنة من الوجود لا يمكن أن يكون خارج دائرة التوازنات والوقائع الدولية، فإن قراءة اللحظة الراهنة تؤدي مباشرة إلى الربط بين صدور تقرير الأمين العام للأمم المتحدة وإدراج الملف في أجندة مجلس الأمن الدولي، وبين المؤتمر التأسيسي لهيئة «صحراويون من أجل السلام» بحضور شخصي ورسمي لرئيس الحكومة الإسبانية السابقة، خوسي لويس ثباتيرو، وبين اللقاء الرفيع والاستثنائي الذي جمع وزير الخارجية المغربي، مساء يوم الجمعة الماضي بالرباط، بوزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر. كل ما سبق يؤكد بشكل واقعي وموضوعي أن كثبان الصحراء المغربية تتحرك بما تشتهيه سفن المملكة، لكن مهلا، هل يكفي أن ننتصر دبلوماسيا وعسكريا لننهي هذا الكابوس؟ دون تفكير طويل، الجواب هو حتما لا. وإذا كان أداؤنا الدبلوماسي، الخشن والناعم، يمكن وصفه بالجيّد، وإذا كان موقفنا العسكري والأمني قويا، وأوراقنا التفاوضية مع المحيط الإقليمي والدولي وازنة، فإن إحدى واجهات الاشتغال على الحسم النهائي لهذا النزاع تحتاج إلى اشتغال وعناية أكبر. فالتخلص النهائي من مشكلة الانفصال في الصحراء يتطلّب عرضا مؤسساتيا وسياسيا متينا ومقنعا. ومبادرة مثل «صحراويون من أجل السلام» ستنجح وتسحب بساط الشرعية والتمثيلية بالكامل من جبهة البوليساريو إذا كان الإنسان الصحراوي، المقيم في تندوف أو في جزر الخالدات أو في مدن الصحراء نفسها، على ثقة في أن الدولة المغربية ماضية بثبات نحو التمكين للمؤسسات وفتح قنوات التنخيب للوصول إلى مراكز القرار والمشاركة الفعلية في اتخاذه وتنفيذه. المواطن المغربي-الصحراوي سوف لن يتردد في ركوب قافلة الحل الثالث، إن كانت الدولة المغربية تضمن ممارسة جميع حقوق المواطنة والمشاركة السياسية والمساواة والتوزيع العادل للثروات، والتعبير الحر عن الآراء والمواقف، وحماية الإرادة الشعبية كما تعبّر عنها صناديق الاقتراع، بدل حصر مواقع ومناصب المسؤولية والقرار الحقيقي في دوائر تقنوقراطية مغلقة... أي أن جزءا كبيرا من الحل النهائي يوجد، في حقيقة الأمر، في الرباط.