محمد فارس، باحث ودارس، يعمل مفتشا في التعليم الثانوي بالمندوبية الإقليمية للتربية والتكوين بولمان- ميسور. خبر مجال التعليم، سواء من خلال اشتغاله أستاذا لسنوات طويلة، أو عبر متابعة مهام التفتيش الميدانية، التي انتهت به لمعرفة أوضاع التعليم عن قرب، خاصة في العالم القروي، أو باستثماره في مجال التقييم عبر المقابلات والاستمارات، آخرها محاولته التعرف على مدى استجابة الأساتذة والتلاميذ لما يسمى ب»التعليم عن بعد». نتوقف معه في هذا الحوار لنتعرف أكثر عن أهم المشكلات المطروحة اليوم على نساء التعليم ورجاله. في البداية، كيف تنظر إلى القرار الوزاري الأخير، القاضي بالاختيار بين «التعليم الحضوري» و»التعليم عن بعد»؟ هل ترى أن اعتماد هذا الاختيار ممكن؟ أم أن القرار استجابة لمطالب المدارس الخاصة؟ كانت المزاوجة بين "التعليم الحضوري" و"التعليم عن بعد" سيناريو من السيناريوهات الممكنة في الظرفية الحالية؛ ذلك أن الحالة الوبائية لم تكن واضحة بالشكل الذي يمكن به ترجيح سيناريو على آخر. وربما يكون ذلك هو السبب الذي دفع الوزارة إلى تأخير إصدار المقرر الوزيري الذي ينظم السنة الدراسية 2020/2021 إلى 05 غشت 2020، الذي نحا نحو موسم دراسي "طبيعي"، مع إدراج بعض المستجدات المرتبطة بآلية "التعليم عن بعد" التي تم اعتمادها في الموسم السابق كبديل للتعليم الحضوري. ولأن الوضعية الوبائية تطورت بشكل مقلق في الأسبوعين الأخيرين، ما يشكل خطرا عاما على المتعلمين وأسرهم، فإن اختيارات الوزارة تقلصت إلى أحد الأمرين: إما اعتماد صيغة "التعليم الحضوري" مع تحمل محاذيره، وإما صيغة "التعليم عن بعد" مع تحمل تكلفته. وللحسم في أي من الصيغتين أنسب للمنظومة التربوية المغربية، أصدرت بلاغ السبت 22 غشت 2020؛ حيث نصت فيه على اعتماد "التعليم عن بعد" كصيغة تربوية في الموسم الدراسي المقبل، مع توفير "تعليم حضوري" للمتعلمين الذين سيعبر أولياء أمورهم عن اختيار هذه الصيغة. إذا، فالصيغة المعتمدة هي "التعليم عن بعد"، مع فتح المجال أمام "التعليم الحضوري" حسب الإمكانات المتاحة القادرة على مواجهة الوباء. وبما أن حجم العدوى يختلف حسب المناطق والجهات والمدن والأحياء، وتوفر الإمكانات والموارد البشرية واللوجستيكية الضرورية لتوفير مستلزمات الحماية، يختلف أيضا بين التعليم العمومي والخصوصي من جهة، والمجال القروي والحضري من جهة ثانية، وبين المؤسسات من جهة ثالثة، فإن اعتماد إحدى الصيغتين سيتخلف تبعا لذلك. كل ذلك سينتج عنه تقسيم المتعلمين إلى ثلاث فئات على الأقل: فئة تتعلم عن بعد، وهو الغالب نظرا للتطور الوبائي في الأفق القريب. وفئة تتعلم حضوريا. وفئة ستمزج بينهما؛ إما تعلم عن بعد ثم حضوري، وإما حضوري ثم عن بعد حسب تطور الحالة الوبائية. وهذه القسمة ستطرح صعوبات عملية وإجرائية كثيرة ومتشعبة ومعقدة؛ انطلاقا من تكوين مجموعة القسم، إلى تقديم الدروس، انتهاء بالتقويم التربوي، مرورا عبر ضبط الغياب ومختلف العمليات الإدارية الأخرى.. وهي صعوبات ذات طابع ازدواجي بازدواج صيغة التعلم المعتمدة في المدرسة/ المؤسسة الواحدة. (بمعنى قسم حضوري وآخر عن بعد، درس حضوري وآخر عن بعد، تقويم حضوري وآخر عن بعد، غياب حضوري وآخر عن بعد...). وهي صعوبات جدية تتطلب وقتا للتغلب عليها، ما يجعل انطلاق الموسم الدراسي في وقته المحدد (07 شتنبر) صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا. هذا من جانب التنظيم، وأما من جانب اللوجستيك الضروري لصيغة التعليم عن بعد، ففيه تحدٍّ آخر مرتبط بتوفر الوسائل التكنولوجية الكفيلة بذلك لدى جميع المتعلمين (لوحات إلكترونية / صبيب أنترنت مناسب)، وهو أمر مرهق للأسر عامة، وللأسر التي تقلص دخلها بسبب الجائحة خاصة، مع تقدير إمكانية للأسر الميسورة التي تدرس أبناءها في المدارس الخاصة أو مدارس البعثات. وبعض هذا النوع من المدارس قد يكون قادرا على توفير ما يلزم للتعليم الحضوري. يتضح من ذلك أن طبيعة التطور الوبائي وإمكانات المنظومة التربوية المغربية، هي التي كانت وراء اختيار الوزارة بشكل كبير، وإن كان هذا لا ينفي وجود ضغوطات محتملة من طرف جهات أو لوبيات أخرى. في هذا السياق، هل تشاطر رأي من يقولون إن الوزارة تريد بهذا القرار أن تتنصل من مسؤوليتها وتحمل الآباء تبعات الاختيار؟ ليست المسألة، في نظري، مسألة تقاذف المسؤولية بين الوزارة والآباء؛ فالكل مسؤول في دائرته التي يتحرك فيها ومن خلالها، وكلا الطرفين ازدادت مسؤولياته في هذا الوباء. فالمعادلة الصعبة بالنسبة للجميع في هذه الوضعية هي الحفاظ على استمرارية التعلم لجميع المتمدرسات والمتمدرسين، تعلم منصف وذي جودة. ولعل الشعار الذي اختارته الوزارة لهذا الموسم يعبر عن الوعي بذلك (من أجل مدرسة متجددة ومنصفة ومواطنة ودامجة). بناء على ذلك، أعتقد أن الوزارة والأسر ليس من مصلحتهما الدخول في صراع في هذه الظرفية، لأنها ليست مناسبة. أقول ذلك وأنا أستحضر النزاع المستعر بين الأسر وبعض المدارس الخاصة نهاية الموسم السابق حول استخلاص التكاليف المالية بشكل أساسي؛ التي اعتبرتها بعض الأسر مجحفة، ورأت فيها المدارس الخاصة ضرورية لعدم إفلاسها وغلق أبوابها، ما سينتج عنه التحاق أفواج كبيرة من المتعلمين بالمدرسة العمومية، وتسريح أفواج من العاملين بها.. كل ذلك سيزيد الوضع تعقيدا واحتقانا نحن في غنى عنه. وعليه، فإنه يبدو من موقف الوزارة أنها اختارت التوازن في التعامل مع هذه القضية؛ وذلك بتلبية طلبات الأطراف جميعها ما أمكن، مع الحذر من تعريض سلامة المتعلمات والمتعلمين للخطر. وليس هناك من هو أحرص على سلامتهم من آبائهم، لذلك فوضت لهم التقدير حسب وضعيتهم الاجتماعية والمادية والصحية. بالعودة إلى الشهور القليلة الماضية، كيف تقيم تجربة ما سمي ب"التعليم عن بعد"، من حيث مردودية الأساتذة والتحصيل لدى التلميذات والتلاميذ؟ في الحقيقة هذا السؤال يفرض الجوابُ عنه تفكيكَه إلى دوائر ثلاث؛ الأولى خاصة بماهية هذا "التعليم عن بعد"، والثانية خاصة بمردودية الأساتذة، والثالثة خاصة بتحصيل المتعلمين. فأما الدائرة الأولى الخاصة بماهية "التعليم عن بعد" الذي خُتم به الموسم السابق، فإني أقول فيه، انطلاقا من الواقع الميداني لا من التوصيف النظري، إنه دروس تم تقديمها باعتماد وسائل لم تكن في حسبان أحد، كالتلفزة والهاتف! فهو لم يكن بحسبان أحد، سواء أطر التأطير ولا الأساتذة ولا الإدارة التربوية ولا الوزارة الوصية؛ فلم يكن في المقرر الوزاري المنظم للموسم السابق ما يشير إليه، ولا ضمن برامج العمل ولا مشاريع المؤسسات. بل هو أمر فجائي كفجأة الوباء الذي خيم على العالم، والذي لم يخطر ببال أحد أنه سيدخله في حجر صحي صارم. لذلك فقد اكتسى طابع الحفاظ على "الاستمرارية البيداغوجية"، تفاديا لانقطاع المتعلم ومساعدة للسلطات الصحية على إشغال الأطفال وأسرهم في بيوتهم. لذلك تم بما توفر من الإمكانات لدى رجال ونساء التعليم من جهة، والأسر من جهة أخرى، وهي إمكانات يمكن وصفها ب"البدائية" إذا ما قورنت بما يتطلبه هذا النوع من التعليم. أما الدائرة الثانية الخاصة بمردودية الأساتذة، فإني أسجل فيها أمرين أراهما ضروريين: أولهما أن جمهرة نساء ورجال التعليم انخرطوا في التعليم عن بعد– تحت إشراف السيدات والسادة أطر التأطير والمراقبة التربوية- بما توفر لديهم من خبرة ووسائل؛ فأنشؤوا أقساما افتراضية ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي (واتساب/ فيسبوك/ يوتيوب/ تليغرام..)، وقدموا دروسا مصورة عرضت على شاشة التلفزة، ما راكم موارد تعليمية جيدة يمكن الانطلاق منها وتطويرها. مع الإشارة هنا إلى ضعف استعمال منصة ال"تيمس" (teams) لأسباب لا يسمح المجال بتفصيلها. أما ثانيهما، فهو أن هذه المجهودات المشكورة قللت من نجاعتها عوامل موضوعية كثيرة؛ أذكر منها اثنين لأهميتهما الحاسمة؛ أولا: ضعف التكوين الأساسي والمستمر في مجال التعليم عن بعد؛ وذلك أن مراكز التكوين (والمدارس العليا من قبل..) أهملت، وتهمل، التكوين في البيداغوجيات المناسبة للتعليم عن بعد، وهذا خلل ينبغي تصحيحه عاجلا بإعادة بناء هندسة التكوين بما يلبي هذه الحاجة الضرورية. والأمر نفسه ينطبق على التكوين المستمر، الذي ينبغي أن يرجع بزخم أقوى مركزا على سد هذه الثُّلمة. ثانيا: ضعف الإمكانات التقنية؛ فالهواتف والحواسيب وصبيب الأنترنت ذات الاستعمال الخاص لا يمكن أن تلبي حاجات التعليم عن بعد. وهذا الأمر لا بد من البحث عن حلول مادية له. أما دائرة تقويم مكتسبات المتعلمات والمتعلمين من التعليم عن بعد، فهي دائرة كفيلة بإلقاء الضوء على هذه العملية ككل؛ لأن تقويم مكتسبات المتعلم مدخل لتقويم مردودية الأساتذة والهيئات الأخرى المتدخِّلة، وتقويم نجاعة الوسائل التقنية المستعملة، ونجاح الاختيارات الديداكتيكية المعتمدة.. وبما أن التقويمات الإشهادية ونقط المراقبة المستمرة استثنت مرحلة التعليم عن بعد ولم تغطها، فإن الحكم على مكتسبات المتعلم خلالها سيكون مجرد تخمين! إلى أي حد يمكن ربط إخفاق تجربة "التعليم عن بعد" بالعائق اللوجيستيكي؟ بداية، أتحفظ على استعمال مصطلح "الإخفاق" في هذا السياق لسببين على الأقل؛ أنه يحيل على معنى العجز التام، الذي يحيل بدوره على عدم القيام بشيء وعدم تحقق شيء. وقد بينت سابقا أن كثيرا من الأشياء الجيدة اكتسبتها المنظومة التربوية من هذه التجربة، وحققت إنجازات لا بأس بها، وبينت عن جاهزية المنظومة لمواجهة الطوارئ، يدلك على ذلك نجاحها في تنظيم امتحانات البكالوريا في دَوْرتيها العادية والاستدراكية، وما سبقهما أو رافقهما أو تلاهما من إجراءات. وأما السبب الثاني لتحفظي على هذا الاستعمال، فهو مرتبط بالهدف المحدد من التعليم عن بعد الذي فرض جراء الحجر الصحي، وهو هدف جعلت الوزارة "الاستمرارية البيداغوجية" سقفا له. وقد بينت في الجواب السابق أيضا أن هذه الاستمرارية البيداغوجية تحققت في مستويات معينة؛ فالمتعلمات والمتعلمون استمروا في تلقي الدروس، والأستاذات والأساتذة استمروا في إلقاء الدروس، والمفتشات والمفتشون أتمموا برامج عملهم السنوية وكيفوها مع الوضعية الجديدة، وأطر التوجيه أتمموا برامجهم... بمعنى أن الاستمرارية البيداغوجية تحققت لدى المستفيدين والمتدخلين في مستويات متعددة وبنسب متباينة. أرجع إلى سؤالكم فأقول إن العامل اللوجيستيكي، إضافة إلى عامل التكوين كما سبق، كان له دور حاسم في التقليل من نجاعة العملية، وتمثل ذلك في مظهرين: أولهما بالنسبة للأساتذة وقد بينته سابقا. وثانيهما بالنسبة للمتعلمين وهو الذي سأفصل فيه شيئا ما. تختلف وضعية المتعلمات والمتعلمين بحسب الوسط الأسري والمجال الجغرافي والمستوى العمري، وهذه المتغيرات الثلاثة، في نظري، مؤثرة بالنسبة للمتعلم. فأما الوسط الأسري فيظهر تأثيره في مدى قدرة الأسرة على توفير الحاسوب/ اللوحة الإلكترونية/ الهاتف/ للواحد من الأبناء المتعلمين عن بعد، وهو أمر وإن كان شاقا على الكثير من الأسر، فهو متعذر على أغلبها. وهنا لا بأس أن أذْكر تجربة لأحد الأساتذة الذي يشتغل في منطقة نائية تابعة لمديرية يغلب عليها الطابع القروي؛ ذلك أنه كان يقدم دروسه عن بعد لفائدة المتعلمين بعد 18:30، فلما سألته عن مبرر ذلك، أخبرني أن المتعلمين لا يملكون هاتفا خاصا، وأنهم ينتظرون عودة آبائهم من العمل ليتعلموا بهواتفهم! فهذه الحالة تبين وضعية الأسرة المغربية في هذا الجانب، إضافة إلى جانب المصاحبة والمتابعة التي هي ضرورية في هذه الفترة، والتي تحد من قيمتها الأمية أو الارتداد إليها. أما تأثير الوسط الجغرافي فيتجلى في انعدام الوسائل اللوجيستيكية؛ من أداة وصبيب الأنترنت.. في الوسط القروي خاصة الموغِل في البداوة، الذي لا تتوفر فيه شبكات الاتصال أصلا، وهذه بالمناسبة تحرم آلاف المتعلمين من هذه العملية للأسف! وكذلك بعض الوسط الحضري الموغل في الهشاشة. جدير بالذكر أن الوزارة استهدفت هذه الأوساط "المبعدة" بالبث التلفزي للدروس، ولكن نسبة متابعتها تدعو للتساؤل والتشاؤم. أما تأثير المستوى العمري في متابعة التعلم عن بعد؛ فقد أظهرت المتابعة الميدانية أن المتابعة المستمرة للتعلمات عن بعد تقل كلما صغر سن المتعلمات والمتعلمين؛ ففي المستوى التأهيلي، تكون نسبة الاستمرار في المتابعة مرتفعة بالمقارنة بالإعدادي، وهذه بدورها مرتفعة بالمقارنة مع الابتدائي، وهي بدورها مرتفعة مقارنة بالأولي. ينضاف إلى ذلك طبيعة الشعب؛ فنسب المتابعة في المسالك العلمية، خاصة الرياضيات، مرتفعة مقارنة بغيرها من الشعب. فالحاصل أن العامل اللوجيستيكي حاسم في تمكين المتدخلين والمستفيدين معا من الاستمرارية البيداغوجية؛ لذلك فمن المناسب الآن البحث عن طرق لتمويل برامج تمكن المتعلمين والمشتغلين من العُدة اللوجيستيكية اللازمة للقيام بواجباتهم التربوية. في رأيك، من هم الفرقاء والمتدخلون الرئيسيون القادرون على مساعدة قطاع التربية والتعليم على تجاوز العائق اللوجيستيكي؟ في الحقيقة توفير عُدة العمل من مسؤوليات المشغِّل؛ وبما أن المشغِّل في هذه الحالة هي الوزارة، فإن توفير العُدة للمشتغلين من واجباتها. لذلك لا بد من الاجتهاد في إيجاد صيغ لتمويل هذا الورش الكبير، مع الاستعانة بمساعدة بعض الجهات الداخلية والخارجية، وهو أمر صعب في ظل الوضعية الحالية المتأزمة اقتصاديا. في المادة 3 من الباب الثاني الخاص بمبادئ منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي وأهدافها ووظائفها من القانون الإطار، نجد تنصيصا على أن من مسؤوليات الدولة "تحسين جودة التعلمات والتكوين وتطوير الوسائل اللازمة لذلك، لاسيما من خلال تكثيف التعلم عبر التكنولوجيات التربوية الحديثة..". وفي المادة 4 نجد "التحسين المستمر لجودة التربية والتكوين والبحث العلمي لضمان نجاعة المنظومة وتحقيق أهدافها والمردودية المتوخاة منها". وفي المادة 6 نصت على ما يلي: "ومن أجل ذلك، يتعين على الدولة أن تتخذ، طبقا لأحكام هذا القانون، ما يلزم من تدابير تشريعية وتنظيمية وإدارية ومالية وغيرها، لتحقيق الأهداف المذكورة والسهر على تنفيذها، كما يتعين أن تساهم الجماعات الترابية والقطاع الخاص ومختلف الهيئات العامة والخاصة الأخرى.. وتقديم أشكال الدعم من أجل بلوغها". فهذه النصوص تبين التزام الدولة أساسا بتوفير كل أشكال "التدابير التشريعية والتنظيمية والإدارية والمالية" للصيغ التعليمية التي تختارها، ومنها التعليم عن بعد. ونحن نترقب وفاءها بهذا الالتزام بتوفير ما يحتاجه التعليم عن بعد من لوجيستيك ناجع. إضافة إلى ذلك، نرى في النصوص القانونية السابقة التنصيص على "إسهام الجماعات الترابية والقطاع الخاص ومختلف الهيئات العامة والخاصة الأخرى وتقديم أشكال الدعم"، وهي عبارة تحتاج إلى أجرأة متوقِّفة على الجواب عن أسئلة: من؟ وكيف؟ وما قدر الإسهام وطبيعته؟ وهي أسئلة ننتظر الإجابة عنها بنصوص تنظيمية. في الآونة الأخيرة، أثار كثيرون مسألة غياب السند القانوني الذي يشرعن "التعليم عن بعد". في رأيك، لماذا أغفل المشرع المغربي هذا الجانب في القانون الأساسي المنظم للعملية التربوية، سواء في شقها التكويني، أو في جانبها العملي المتصل بالتعليم في الأقسام وبالعمل الإداري؟ صدر المرسوم رقم 2.02.854 الذي هو بمثابة النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية سنة 2003، وفي ذلك الوقت، كانت وسائل الاتصال ما تزال في بدايتها، وكان الحديث عن "التعليم عن بعد" في الأوساط التربوية لا يتجاوز حد التنظير، أو التجريب المحدود. وانعكس ذلك على النظام الأساسي؛ بحيث لم يتحدث عنه لا تصريحا ولا تلميحا في المواد التي تحدد مهام موظفي الوزارة (يرجع إلى المواد رقم 10-15-21-26-48-..). حاول القانون رقم 51.17، الذي هو بمثابة قانون إطار لمنظومة التربية والتكوين، التمهيد لتجاوز هذا النقص، بتنصيصه على "تكثيف التعلم عبر التكنولوجيات التربوية الحديثة". كما خصص الباب الخامس منه للتكنولوجيات، وفي المادة 33 نص على "تعزيز إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في النهوض بجودة التعلمات وتحسين مردوديتها؛ وإحداث مختبرات للابتكار وإنتاج الموارد الرقمية، وتكوين مختصين بهذا المجال؛ وتنمية وتطوير التعليم عن بعد، باعتباره مكملا للحضوري؛ وإدماج التعليم الإلكتروني تدريجيا في أفق تعميمه". فأنت ترى أن هذه المادة واضحة وصريحة في تنصيصها على إدماج التعليم عن بعد تدريجيا في المنظومة باعتباره مكملا للحضوري، في أفق تعميم التعليم الإلكتروني. إلا أنه غير كاف، فلا بد من إعادة تدقيق صياغة مهام موظفي وزارة التربية الوطنية، وإدماج هذه المستجدات في المهام الخاصة بكل إطار من أطر الوزارة بما يلائم مهامه الأساسية، ولعل هذا ما وعد به السيد وزير التربية الوطنية مؤخرا مع الدخول الحكومي المقبل. ولا شك أن الحالة الوبائية الحالية فرصة مناسِبة لتسريع هذا الورش القانوني والتنظيمي، وتمكينه من الأدوات اللوجستيكية الكفيلة بإنجاحه.. إلى جانب، أهمل النظام التعليمي المغربي، على امتداد زمانه، التكوين الخاص ب"التعليم عن بعد". ورغم أن الوباء الفيروسي فرض أهميته اليوم، إلا أن الوزارة مازالت تهمله لحد اليوم. ما أسباب هذا الإهمال؟ وهل بمقدور الوزارة تجاوز الخصاص في هذا الباب؟ وهل من اقتراح لإدراج ما يسمى ب"بيداغوجيا التعليم عن بعد" ضمن طرق التدريس؟ يرتبط مجال التكوين بتوصيف الكفايات المهنية المراد توفرها في المكوَّن، وهذه المهارات المهنية، وإن كان جزء منها يستهدف الإلمام بالتكنولوجيات الحديثة واستخداماتها التربوية، لم ترتق إلى مستوى الضبط البيداغوجي والديداكتيكي للتعلم عن بعد؛ وذلك لأنه لم يكن يخطر على بال أحد من المتفائلين تجاه تطور المنظومة التربوية المغربية على الأقل في الأفق القريب. فبقي التركيز على امتلاك تقنيات وكفايات التعليم الحضوري بصعوباته وتحدياته التي لا تخفى على الممارسين. بقي الأمر على ذلك حتى حل هذا الوباء فقلب الأمور وخلط الأوراق، وصارت التوصيفات المطلوبة في الأستاذ أو الإداري أو المؤطر التربوي غير كافية لمسايرة الوضع الجديد، ما يتطلب مراجعة جذرية للأوصاف الكفاياتية المطلوبة، وإعادة ترتيب أولوياتها بما يناسب راهنية التعليم عن بعد، وهو الأمر الذي يستدعي مراجعة هندسة التكوين بمراكز التكوين على اختلافها وتعددها. ثم إن هذا التغيير الجذري في هندسة التكوين، بما يقتضيه من ترتيبات وتنظيمات وأدوات، لا يحدث بين عشية وضحاها، بل يحتاج وقتا غير متاح في هذه الظروف. وكان يمكن أن يحدث ذلك لو تم إدماجه تدريجيا، وهو الأمر الذي لم يتم إلا في مستويات لا تسعف في تحقيق الجودة المطلوبة. وبما أن الأمر كذلك، فلم يبق أمامنا إلا المسارعة إلى التخلي المدروس عن تكوين الأطر للتدريس والاشتغال الحضوري لفائدة التعليم عن بعد بالنسبة للأفواج التي ستدخل إلى مراكز التكوين هذا الموسم، في أفق تخريج دفعة قريبة من الأطر قادرة على تطعيم المنظومة في هذا المجال. ثم برمجة تكوينات للأطر التربوية (مخططين وموجهين وإداريين وأساتذة ومفتشين) قادرة على تدارك النقص لتأهيلهم للانخراط المهني في هذا الورش. ولا يتحقق كل ذلك ما لم يتم إعداد هندسات بيداغوجية ومصوغات تكوينية جدية، مع توفير المستلزمات الضرورية لإنجاحها. فالحاصل أن الأمر ليس سهلا، بل هو تحدٍّ حقيقي، كما أنه فرصة للعبور بالمنظومة التربوية المغربية من مرحلة كانت انتقالية! إلى مرحلة الرقمنة الحقيقية. وما ذلك على أولي العزم والصدق بعزيز..