شرعت وزارة الداخلية في الترتيب للانتخابات المقبلة، من خلال لقاءات أولية بالأحزاب الممثلة وغير الممثلة في البرلمان يومي 8 و13 يوليوز الجاري. خطوة وزارة الداخلية أكدت أنه بالرغم من الآثار التي خلّفتها جائحة كورونا، إلا أن الحكومة ماضية نحو الالتزام بما وعد به رئيسها، سعد الدين العثماني، في اجتماعيه مع ممثلي الأحزاب السياسية في بداية مارس الماضي، حيث أعلن انطلاق المشاورات حول الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، بُغية الوصول إلى توافق سياسي حول المنظومة القانونية التي ستؤطر الانتخابات المقبلة في 2021. خطاب وزير الداخلية أمام الأحزاب الممثلة في البرلمان في لقاء 8 يوليوز الجاري تضمن رسائل واضحة؛ أكدت حرص الدولة على الالتزام بالآجال الدستورية للانتخابات، ما يعني أن سنة 2021 ستكون سنة انتخابية أساسا، وهو موقف حكومي ينتصر للاختيار الديمقراطي إزاء المواقف التي دعت إلى تأجيل الانتخابات عن موعدها، بحجة واقع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية جراء فيروس كورونا، علاوة على احتمال الانحدار القوي لنسبة المشاركة الانتخابية، ما يعزز مشكل الثقة في السياسة وفي المؤسسات، بحسب بعض المحللين، الذي قد تتغذى منه المواقف السياسية الجذرية. انتصار الطرح الديمقراطي الانتصار للمقاربة الديمقراطية معناه أن سنة 2021 ستشهد تجديد كافة المؤسسات المنتخبة وطنية ومحلية ومهنية، من مجالس جماعية ومجالس إقليمية ومجالس جهوية وغرف مهنية، علاوة على انتخابات ممثلي المأجورين، إضافة إلى مجلسي البرلمان: النواب والمستشارون. وزارة الداخلية عقدت، في هذا السياق، لقاءين لحد الآن؛ الأول في 8 يوليوز الجاري، مع الأحزاب الممثلة في البرلمان، تناول الإطار العام للانتخابات المقبلة، حيث وعد عبدالوافي الفتيت ب"ضمان وحماية التعددية الحزبية، والإنصات إلى الفاعلين السياسيين"، كما وعد "بالحياد التام إزاء كافة الأطراف المتنافسة، سواء خلال مرحلة الإعداد لمختلف العمليات الانتخابية أو بمناسبة إجرائها". لكنه ألقى بجزء من المسؤولية على الأحزاب كذلك، في قوله: "إن التزام جميع الأطراف بأخلاقيات الانتخابات، وواجب النزاهة والتنافس الشريف، والتحلي بقيم الديمقراطية، أمر ضروري لمساعدة القائمين على الشأن الانتخابي، وعلى التصدي الصارم لكل التجاوزات". اللقاء الثاني، كان في 13 يوليوز الجاري مع الأحزاب غير الممثلة في البرلمان، وبحسب بلاغ لوزارة الداخلية، فإن اللقاء تناول مقترحات ومطالب هذه الأحزاب، التي أكدت على "ضرورة إجراء مراجعة شاملة لمدونة الانتخابات، خصوصا فيما يتعلق بنظام الاقتراع والعودة إلى الاقتراع الفردي وإلغاء العتبة". من الواضح سعي خطاب وزير الداخلية إلى طمأنة الأحزاب السياسية، خصوصا حين استعماله عبارات "الحياد التام" و"الإنصات" للأحزاب، و"التحلي بقيم الديمقراطية" و"التزام أخلاقيات الانتخابات"، وهو خطاب يكشف في جانب منه، عن رهانات جديدة للسلطة في المرحلة المقبلة، يبدو أنه ليس من بينها هاجس ضبط الإيقاع الانتخابي لهذا الحزب أو ذاك، خصوصا وأنه ليس لديها حزب مفضل لحد الآن للمرحلة المقبلة، كما أن الحساسية المفرطة التي كانت لديها من حزب العدالة والتنمية تبدو آخذة في الاختفاء التدريجي، وهي رهانات كانت مؤثرة في انتخابات سابقة، ويبدو اليوم أنها تراجعت لتفسح المجال أمام رهانات جديدة، على رأسها تعزيز المسار المؤسساتي والديمقراطي. من جهتها، لم تكشف الأحزاب السياسية عن تصوراتها للانتخابات المقبلة حتى الآن، لكن البلاغ الثاني لوزارة الداخلية حول اجتماع 13 يوليوز مع الأحزاب غير الممثلة في البرلمان، كشف عن بعض الهواجس التي قد تسيطر على النقاش الانتخابي، خصوصا لما طرحت بعض الأحزاب لمطالب تخص تجديد اللوائح الانتخابية والتقطيع الانتخابي، والاقتراع الفردي، وإلغاء العتبة، والتمويل، والحق في الولوج إلى الإعلام العمومي، والتصويت ببطاقة التعريف الوطنية. وهي قضايا مثيرة للخلافات، وقد تبرز بقوة على جدول النقاش الانتخابي، مثل العودة إلى الاقتراع الفردي الذي تطالب به بعض الأحزاب مثل الاتحاد الاشتراكي والحركة الشعبية وأحزاب صغيرة عديدة، لكنها تلقى رفضا من طرف أحزاب أخرى مثل العدالة والتنمية وحزب الاستقلال. لكن من المرجح أن يكون الانتصار للمقاربة الديمقراطية موقفا مؤطرا لكل المراجعات والتعديلات التي قد يجري إدخالها على القوانين الانتخابية، وهو توجه تغذيه، أيضا، عوامل ضاغطة على الدولة والأحزاب معا، من أبرزها تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية جرّاء فيروس كورونا، والتي قد تكون لها نتائج سلبية في الغالب، سواء على مستوى التشغيل أو البطالة، أو على القدرة الشرائية للمواطنين والمواطنات، كما قد يكون لها تأثير على دينامية الاحتجاجات في السنوات المقبلة. كل تلك العوامل دفعت البعض إلى اقتراح حكومة تكنوقراط، بحجة أن مواجهة تلك الأزمة تتطلب حكومة قادرة على اتخاذ قرارات سريعة تعود على الناس بالنفع، لعلها تخفف قليلا من أوضاعهم الاجتماعية الصعبة. لكن يبدو أن هذا الاقتراح لم يقنع صناع القرار في الدولة، الذين يفضلون الانحياز إلى الدستور وإلى الاختيار الديمقراطي، ولأن الانتخابات قد تكون هي نفسها أحد الحلول الأقل كلفة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بالنظر إلى وظائفها باعتبارها سوقا مفتوحا في الحالة المغربية على الأقل، ولكونها فرصة للتنفيس والتفريغ كذلك، ناهيك عن وظيفتها السياسية الأساس، التي لها صلة بالشرعية والمشروعية. علاوة على ذلك، تبدو رهانات الانتخابات المقبلة بالنسبة إلى المغرب أبعد من أن تكون خاصة بالمغاربة، كما قد يتصور البعض، ففي نظر محمد مصباح، مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات، أرادت السلطة من خلال قرار تنظيم الانتخابات المقبلة في وقتها أن تقول للداخل والخارج بأن "المغرب دولة مؤسسات، يمكنها أن تشتغل بشكل طبيعي حتى في ظل ظروف غير طبيعية، مثل جائحة كورونا وآثارها الوخيمة على الاقتصاد والمجتمع، والدليل على ذلك الانتظام الحاصل في عمل المؤسسات خلال فترة جائحة كورونا، وهو أمر يُحدث انطباعا سواء لدى المواطن المغربي، أو لدى المراقب الخارجي، بأن المغرب ليس دولة هشة كما قد يتوهم البعض، بل دولة مؤسسات يمكنها أن تعمل بانتظام وسلاسة في كل الظروف". ويتعلق الرهان الثاني، حسب مصباح، ب"الحاجة إلى نخب جديدة لتنزيل النموذج التنموي الجديد، الذي يجري إعداده منذ أشهر من قبل لجنة عينها الملك محمد السادس، وقد يكون هذا النموذج جاهزا للنقاش العمومي في بداية السنة المقبلة". ومعلوم أن النموذج الجديد يُشكل في حد ذاته رهانا مستقلا بذاته، كونه يحتاج، في نظر مصباح، إلى "نخب جديدة وكُفأة، قادرة على تنزيل مضامين النموذج التنموي، الأمر الذي قد توفره الانتخابات المقبلة في حال جرى الإعداد السياسي والقانوني باستحضار رهان تجديد النخب". علاوة على ذلك، يبدو الرهان التقليدي لأي انتخابات حاضرا، كذلك، ضمن رهانات السلطة، كما يؤكد ذلك الانحياز السياسي إلى تنظيم الانتخابات في موعدها الدستوري، ويتعلق بالحاجة إلى تجديد شرعية المؤسسات المنتخبة، ابتداء من الجماعات المحلية إلى مجلسي البرلمان، وهو رهان يعوّل على تعزيز القاعدة الاجتماعية للمؤسسات، وتقوية شرعية المؤسسات المنتخبة إزاء باقي المؤسسات في الدولة، وهو رهان قد تنجح فيه الدولة والأحزاب في حال استطاعت استقطاب شرائح جديدة إلى العملية الانتخابية، والرفع من نسبة المشاركة الانتخابية، وهو الهدف الذي يبدو صعبا، ويشكل تحديا ثابتا في كل الاستحقاقات الانتخابية منذ سنة 2002. إكراهات متكررة لكن الراجح أن بعض الإشكالات باتت أحد الثوابت الملازمة للممارسة الانتخابية في المغرب، فهي إكراهات تتكرر باستمرار دون حل جذري، ومما يُطرح في هذا السياق، احتمال ارتفاع العزوف السياسي وضعف المشاركة الانتخابية بسبب ضعف الثقة في الأحزاب وفي السياسة، وهو إشكال ليس بالجديد، لكنه قد يتعمق في انتخابات 2021 بالشكل الذي قد يعيد شبح سنة 2007 إلى الأذهان. وقد بّرر بعض المحللين طرحهم بخصوص الدعوة إلى تأجيل الانتخابات، بالحجتين معا: احتمال ضعف المشاركة، وانحدار مستوى الثقة في المؤسسات التمثيلية، وهما حجتان مترابطتان، إذ إن انحدار مستوى الثقة من شأنه أن يؤدي إلى ضعف المشاركة الانتخابية، كما أن ضعف المشاركة يؤكد مشكل الثقة في العملية الانتخابية، ويطرح شرعية المؤسسات التمثيلية على المحك. يصعب المجادلة في الحجتين معا، لأن ضعف المشاركة الانتخابية أصبح واقعا لا يرتفع منذ الانتخابات التشريعية لسنة 2002، حيث لم تتجاوز النسبة 51 في المائة، لتنخفض إلى أقل من ذلك في جميع الانتخابات التشريعية التي نظمها المغرب بعد ذلك. ففي الانتخابات التشريعية لسنة 2007 لم تتجاوز نسبة المشاركة 37 في المائة، ما شكل صدمة قوية للدولة وللأحزاب السياسية. وإذا كانت النسبة ارتفعت قليلا في سنة 2011 إلا أنها لم تتجاوز 45 في المائة، رغم السياق السياسي الذي تميّز بوضع دستور جديد جعل من الحكومة شريكة بقدر معين في السلطة، في محاولة للتجاوب مع الرهانات التي فرضتها احتجاجات ما يسمى ب"الربيع العربي". ويُلاحظ أن نسبة المشاركة انخفضت مرة أخرى إلى 43 في المائة في الانتخابات التشريعية لسنة 2016 رغم حالة الاستقطاب السياسي والإيديولوجي الذي تميزت به تلك الانتخابات، ورغم الأموال الهائلة التي روّجت في السوق الانتخابية تلك السنة. تبدو نسب المشاركة في الانتخابات الجماعية والجهوية أفضل حالا من نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية، ففي انتخابات 2015 بلغت النسبة 53,6 في المائة، وهي نسبة أفضل قليلا مقارنة مع نسبة المشاركة في الانتخابات الجماعية لسنة 2009، والتي بلغت 52,4 في المائة، أما في الانتخابات الجماعية لسنة 2003، فقد بلغت النسبة ذاتها نحو 54,16 في المائة. ولعل أقوى الخلاصات الممكنة حول تلك النسب، أن نسب المشاركة في الانتخابات الجماعية تبقى مستقرة أكثر مقارنة مع نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية. يميل العقل السياسي المغربي، عموما، في تفسير المشاركة الانتخابية، إلى الفصل بين الاستحقاقين؛ كالقول مثلا إن الانتخابات التشريعية تكون انتخابات سياسية، والمشاركة فيها من عدمها تنطوي على موقف سياسي من المؤسسات القائمة، بحيث يجري الربط آليا بين نسب المشاركة وشرعية المؤسسات، وهو طرح رائج ويكاد يكون ثابتا في التحليل السياسي حول الانتخابات. بالمقابل، يميل العقل السياسي نفسه، إلى القول بأن الانتخابات الجماعية انتخابات يحضر فيها القرب أكثر من الجانب السياسي، أي إنه يحضر فيها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي أكثر من السياسي. لكن يبدو أن مثل هذه التفسيرات المتوارثة تحتاج إلى إعادة تحيين ومراجعة، خصوصا وأن الانتخابات الجماعية والجهوية لسنة 2015 يظهر أنها خلخلت بشكل جدي بعض تلك التفسيرات المتوارثة، لأنها كانت "انتخابات محلية برهانات سياسية"، حسب العبارة التي بلورها الأستاذ حسن طارق في مقالة له تحمل العنوان عينه. ثم إن إشكال المشاركة يبدو تحديا متوارثا منذ أن قررت الدولة المغربية القطع مع تجربة إدريس البصري في هندسة الانتخابات ونتائجها، بالرغم من الجهود السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جرى بذلها في عهد الملك محمد السادس، والتي لا يمكن القفز عليها. والسؤال المطروح، هو لماذا لا تؤدي التنمية إلى توسيع المشاركة السياسية والانتخابية في الحالة المغربية؟ سؤال يحتاج إلى دراسة معمقة، لأن الملاحظ هو تكرار التحليلات المفسرة عينها لهذه القضية منذ الستينيات والسبعينيات، وكأن المغرب لازال يعيش في ذلك الزمن، أو كأنه يتقدم إلى الوراء، بينما الحقيقة الواقعية هي خلاف ذلك. في انتظار ذلك، لا يبدو أن نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية لسنة 2021 قد تشهد انعطافة حادة في أي اتجاه. إذ تشير استطلاعات الرأي التي أجريت أن النسبة ستظل قريبة مما سجلته الانتخابات التشريعية السابقة. ففي الاستطلاع، الذي أجراه المعهد المغربي لتحليل السياسات حول "مؤشر الثقة وجودة المؤسسات" في دجنبر 2019، أظهرت نتائجه حول نوايا التصويت أن ما بين 38 و42 في المائة من العينة المستجوبة ينوون الذهاب إلى صناديق الاقتراع في حال نظمت الانتخابات. رغم ذلك، لا يعني التسليم بالأمر الواقع، لأن عددا من الأحزاب تعي المشكل في جوهره، ويبدو أنها على صواب حين تدعو إلى مبادرات سياسية تساهم في تلطيف المناخ السياسي الحاد، والرفع من منسوب الثقة في العملية السياسية، وفي الفاعلين السياسيين كذلك. في هذا الصدد، مافتئ نبيل بنعبدالله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، يدعو إلى "إيجاد مبادرات تدفع المواطنين للإقبال على صناديق الاقتراع"، مضيفا أن "هناك فراغا وهوّة حقيقية بين المواطن والشأن السياسي، إلى حدّ أن المجتمع يبدو في واد، والفضاء المؤسساتي والسياسي والحزبي، في واد آخر". ويلفت بنعبدالله الانتباه إلى أنه "في ظل هذا الوضع، لا يمكن مباشرة النقاش حول الانتخابات، من دون مناقشة أزمة الثقة الموجودة في المجتمع، ومن دون أن نرى ما هي الإجراءات التي من شأنها أن تفضي إلى انفراج سياسي ومصالحة بين الشأن السياسي وبين المواطن". بنعبدالله يرى أن إحدى المبادرات العاجلة التي قد تسهم في إحداث انفراج سياسي، هي الإفراج عن المعتقلين في أحداث الريف والصحافيين، مشيرا في هذا السياق إلى أن "الأحزاب السياسية يجب أن تكون حاضرة بكل استقلالية، وأن تملأ الساحة وتفيق من سباتها، وتعيد النظر في أساليبها، وأن تفتح أبوابها للجديد وتجد صيغا للانغماس أكثر في المجتمع". وهي دعوة تجد صداها لدى أحزاب سياسية أخرى مثل حزب الاستقلال، وحزب الأصالة والمعاصرة، وحزب العدالة والتنمية. سليمان العمراني، نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، يرى أن تطوير التشريع الانتخابي الوطني للحد من الفساد الانتخابي، وتوسيع المشاركة المواطنة، خصوصا مشاركة مغاربة العالم في الاستحقاقات المقبلة، وضرورة أن تتحمل كافة الأحزاب السياسية مسؤولياتها في تقديم عرض يزرع الثقة وينمي الأمل، من شأنه أن يساعد في إيجاد حل لمشكل الثقة وضعف المشاركة الانتخابية. تبدو تلك الاقتراحات مهمة، ففي حال إعمالها قد تساعد في تحسين الممارسة السياسية والانتخابية، وليس الرفع من نسبة المشاركة الانتخابية فقط، لكن السياق يفيد أن هذه القضية ستظل أحد أهم التحديات التي ستواجه الدولة في المرحلة المقبلة، اللهم إلا إذا اختارت الحكومة تنظيم الانتخابات الجماعية والجهوية والانتخابات البرلمانية في يوم واحد، بحيث يمكن للناخب التصويت مرتين في وقت واحد، بعد تخصيص صندوقين للعمليتين الانتخابيتين معا، وهو خيار قد يساهم في رفع نسبة المشاركة الانتخابية، علاوة على تخفيض الكلفة المالية والمادية للعملية الانتخابية برمتها، وتوفير مزيد من الجهد لأولويات أخرى. سيناريوهات محتملة إذا تأكد انتصار الدولة للمقاربة الديمقراطية، وتبّين أن رهانات السلطة، ربما، تتجاوز اللحظة الانتخابية نفسها، فإن التفكير في السيناريوهات الممكنة تبدو مطروحة بقوة في النقاش المتصاعد حول الانتخابات المقبلة، خصوصا التشريعية منها التي لها صلة بتشكيل الحكومة ومجلسي البرلمان. السؤال الذي يتكرر على كل لسان يتعلق بما إذا كان حزب العدالة والتنمية، الذي قضى عشر سنوات في رئاسة الحكومة، سيستمر لولاية ثالثة. بعض المحللين يرون أن الانتخابات المقبلة قد تكون، بل يجب أن تكون، فرصة لإبعاد حزب العدالة والتنمية عن قيادة العمل الحكومي، لا لشيء إلا رغبة في تجديد النخب الحكومية والبرلمانية، بل إن بعض الفاعلين يرون أن انتخابات 2021 قد تكون فرصة للسلطة لدفع حزب العدالة والتنمية إلى موقع المعارضة من جديد. يبقى هذا السيناريو واردا ومحتملا، خصوصا إذا لم يحصل حزب العدالة والتنمية على المرتبة الأولى، لكنه سيناريو يظل مستبعدا في رأي محمد مصباح، مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات، لأن حزب العدالة والتنمية لازال أداة مفيدة للنظام، بحكم أنه حزب منظم وذو قواعد شعبية، ومشاركته الفاعلة في الانتخابات تُعطي لها مضمونا ومعان سياسية هي بحاجة إليها في السياق المغربي، كما أن حزب العدالة والتنمية لازال التنظيم السياسي والحزبي الأكثر دينامية وقربا من المواطنين، وبسبب ذلك يمكنه أن يكون "بارشوك" للنظام السياسي، كون هذا الحزب له القدرة على الصمود أمام أي احتجاجات مقبلة، كما يمتلك قدرات في امتصاص الغضب الاجتماعي والسياسي، وحتى لو كانت هناك احتجاجات قوية ضد النظام، فإن وجود حزب فاعل مثل البيجيدي يقود الحكومة سيكون ورقة مقنعة يمكن التضحية بها، ويخلص مصباح إلى أن حزب العدالة والتنمية يبقى أفضل اختيار للسلطة في المرحلة المقبلة. ما يعزز هذا السيناريو، هو صعوبة تقبل السلطة وجود حزب العدالة والتنمية في موقع المعارضة، خصوصا وأن أغلب التوقعات تشير إلى أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحالي، قد تتولد عنه، في الغالب، احتجاجات شعبية مقبلة، بمعنى أن المعارضة المقبلة ستتشكل في الشارع أساسا، وستكون مسنودة من قبل قوى المعارضة الموجودة خارج المؤسسات مثال: أحزاب اليسار الجذري وجماعة العدل والإحسان، وفي حالة جرى دفع حزب العدالة والتنمية إلى موقع المعارضة البرلمانية، فمعناه أنه سيكون قريبا من معارضة الشارع، وهو خيار قد يضع الحزب والسلطة معا في موقع قابل للتوتر والإحراج والنزاع بينهما، ولا يبدو أن كل ذلك سيكون من مصلحة الدولة في المرحلة المقبلة. لكن هناك سيناريو ثان، قد تلجأ إليه السلطة، يتمثل في تنظيم تنافس انتخابي نزيه يسمح للأحزاب الأكثر تنظيما وتجذرا بتصدر المراتب الأولى في الانتخابات التشريعية المقبلة. وفي هذا تشير الأصابع، أساسا، إلى ثلاثة أحزاب هي: العدالة والتنمية، الاستقلال والأصالة والمعاصرة. معنى ذلك أنه إذا كانت السلطة لا تراهن على حزب محدد، فهي تراهن على فوز أحد الأحزاب الثلاثة، وفي حال تصدر حزب الاستقلال أو حزب الأصالة والمعاصرة، يمكنه تشكيل الحكومة على أساس إشراك حزب العدالة والتنمية ليكون الحزب الثاني في الحكومة المقبلة، وهكذا تضمن السلطة وجود الحزب بعيدا عن المعارضة وقريبا من السلطة في الوقت عينه. يقوم هذا السيناريو على فرضية أن السلطة، وعلى خلاف انتخابات 2016، لم يعد لديها حزب مفضل، وأن التحفظ الذي كان قائما على حزب العدالة والتنمية قد زال أو في طور الزوال، في ظل قيادة سعد الدين العثماني للحزب، ولم يبق مطلوبا من وزارة الداخلية سوى الحفاظ على التوازنات التي تضمن للسلطة تفوقها على باقي القوى الفاعلة في المجتمع، بما في ذلك الأحزاب. هنالك سيناريو ثالث حظي بجاذبية أكبر من قبل، لكن يبدو أنه فقدها اليوم، ويتعلق بالرهان على عزيز أخنوش وحزبه التجمع الوطني للأحرار، وهو السيناريو الذي ساد لفترة، خصوصا بعد تشكيل حكومة سعد الدين العثماني في ربيع 2017، بعد بلوكاج دام ستة أشهر لرئيس الحكومة عبدالإله بنكيران وانتهى إلى إقالته. صعدت أسهم أخنوش في البورصة السياسية باعتباره صديق الملك، والرجل الذي وقع عليه الاختيار لتنفيذ خطة إزاحة بنكيران من الوسط السياسي، لكن ما إن استقر الأمر للرجل، وظن أنه "ضابط الإيقاع" الجديد، حتى هوت على رأسه ضربات ثقيلة لا يبدو معها اليوم، أنه قادر على المنافسة الانتخابية، مثل حملة المقاطعة لسنة 2018 التي استهدفت شركاته للمحروقات، ثم ضربات أخرى من داخل حزبه التجمع الوطني للأحرار ومن خارجه، ويبدو أنه أُنهك ماليا وسياسيا سواء قبل جائحة كورونا أو خلالها، بشكل لم يعد قادرا معه سوى الاضطلاع بالدور التقليدي لحزب الأحرار في المشهد السياسي، كونه ورقة تلعب بها السلطة في ترتيب المشهد كلما رأت أنها فقدت التحكم في أحد لاعبيه. علاوة على أنه الحزب الذي يشكل واجهة لقوى المال والتجارة والفلاحة، تجد فيه قناة مقبولة للدفاع عن مصالحها، ولا يبدو أن هذا المعطى قد يتغير في الانتخابات المقبلة. لكن على خلاف 2016، حيث أدى حزب الأحرار دور الكومبارس بالنسبة إلى السلطة ضد بنكيران، يصعب تصور قيامه بمهمة مماثلة في الانتخابات المقبلة، لأن حزبا آخر، هو حزب الأصالة والمعاصرة، يرى أن صراعاته مع حزب العدالة والتنمية كان يستفيد منها حزب الأحرار، الوضع الذي يسعى الأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة إلى وضع حد له، من خلال محاولات التقارب التي يبنيها مع حزب العدالة والتنمية، والتي تشير إلى احتمال وجودهما في حكومة واحدة خلال الفترة المقبلة. وتظل باقي الأحزاب، خصوصا حزب الحركة الشعبية وحزب الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية، مجرد عجلات احتياط، قد يستعان بهم أثناء الفراغات في البناء الذي تشيده السلطة مع الحزب الفائز أساسا.