مازالت الدارالبيضاء مدينة الضجيج وزحمة السير والتناقضات، رغم كل الجهود التي تبذل لردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، وكسر إيقاعها العشوائي، وتسهيل حركة السير، واحتواء البشاعة العمرانية! هناك أشياء تتحسن في كازا وأخرى تزداد سوء، والمدينة تكبر كل يوم، والمباني الرديئة تتكاثر كالفطر، دون مراعاة لأبسط معايير الجمال، أو احترام الحد الأدنى من الشروط البيئية. تنام وأنت تطل على حديقة، وتصحو لتجدها مزبلة أو سوقا شعبيا أو بناية سكنية، تحدق فيك بلا خجل ولا روح، كأنها تقول لك بلا حياء: "إذا لم يعجبك الحال، غادر!" تسافر وتترك فيلا محترمة بالجوار، وعندما تعود تجدها عمارة من ثلاثين طابقا، مجرد النظر إليها يصيبك بالاختناق. لكِ الله أيتها المدينة. السماسرة في كل مكان. يتعهدون البشاعة وينكّلون بما تبقى من جمال. المعاول لا تتوقف. حتى في عز الحجر الصحي، لم يسلم التراث المعماري البيضاوي من الهدم، حيث فوجئ السكان، الأحد الماضي، بالجرافات تجهز على "ڤيلا موڤيليي" (Villa Mauvillier)، التحفة المعمارية التي تقع في تقاطع شارعي أنفا والزرقطوني، وتعد من جواهر الهندسة الكولونيالية في المدينة، مع عدد من المباني التي أنجزها المعماري غوستاڤ كوتي (Gustave Cottet) في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، والتي أعطت للمدينة روحها وهويتها، وجعلت منها "كازابلانكا" الساحرة، كما خلدها مايكل كورتيز، في رائعته السينمائية التي تحمل العنوان ذاته، عام 1942. التحفة المعمارية سُوّيت بالأرض، دون سابق إيذان، ولم يتجشم أصحاب المعاول حتى عناء وضع لافتة تشرح سبب الهدم ورقم الرخصة، كما يقتضي القانون، إذا كان هناك قانون يسري على الجميع في هذه البلاد. كل شيء جرى "حسي مسي"، من أجل وضع الجميع أمام الأمر الواقع. إنها جريمة كاملة الأركان، خصوصا حين نعرف أن ثمة مخططا إنمائيا يمتد لخمس سنوات (2015-2020)، رُصد له مبلغ 33,6 مليار درهم، يهدف إلى إعادة تأهيل المدينة، وفقا لعشر اتفاقيات وقعت أمام الملك، إحداها تتعلق ب"حماية وتثمين تراث الدارالبيضاء الكبرى"... 33 مليار درهم كي يتم، في النهاية، هدم تحفة معمارية دون سابق إيذان، ودون توضيح أو إعلان؟! هادي هي "حماية وتثمين التراث" وإلا فلا!!! من أقدموا على هدم "ڤيلا موڤيليي" مطالبون بأن يشرحوا للرأي العام مبرراتهم التدميرية، ولماذا مسحوا تحفة فنية من الخريطة؟ هناك أسئلة عديدة تنتظر الجواب: من أعطى ترخيص الهدم؟ لماذا لم يأخذوا بعين الاعتبار القيمة التاريخية والفنية للبناية؟ ماذا سيشيد مكانها؟ من المستفيد من الصفقة؟ وكيف تمت المصادقة عليها؟ لماذا خرقوا اتفاقية "حماية وتثمين تراث الدارالبيضاء" التي وقعوها أمام الملك في 26 شتنبر 2014؟ ألم يكن حريا بالوكالة الحضرية – مادامت هي المسؤولة عن الهدم والبناء- أن تفتح نقاشا مع المعماريين والمهندسين، وأن تستشير الجمعيات والهيئات المعنية بذاكرة المدينة، وفي مقدمتها جمعية "كازاميموار"، التي يفترض أنها عضو في لجنة حماية وتثمين التراث المعماري والثقافي لمدينة الدارالبيضاء الكبرى، التي أحدثت عام 2015 بأوامر ملكية؟ في أكتوبر 2013، تساءل ملك البلاد مستنكرا: "هل يعقل أن تظل (الدارالبيضاء) فضاء للتناقضات الكبرى إلى الحد الذي قد يجعلها من أضعف النماذج في مجال التدبير الترابي؟" ما حدث الأحد الماضي، يؤكد أن "التدبير الترابي" الذي كان يشكو من الضعف عام 2013، أمسك معولا وارتكب جريمة معمارية عام 2020!