في ظل جائحة كوفيد 19، اختارت «أخبار اليوم»، أن تنشر سلسلة من الحلقات من كتاب مرجعي بعنوان: «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19»، لمؤلفه المؤرخ الراحل محمد الأمين البزاز، الذي اشتغل أستاذا بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويعد الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، أشرف عليها المؤرخ جرمان عياش أشهرا قبل رحيله سنة 1990. تركت الأوبئة التي اجتاحت العالم بصماتها على الحياة الفكرية، كما تجلى ذلك في كثرة ما كرسه لها المفكرون المعاصرون من رسائل ومقالات، سواء في العالم الإسلامي أو المسيحي، واهتم الأوروبيون بجمع تراثهم في هذا المجال، نشرا وتحليلا، منذ مدة، كما انصب اهتمامهم على دراسة وترجمة أدب الطواعين الذي خلفه الكتاب العرب المشارقة منهم والأندلسيون، والذي يرجع في معظمه للعصر الوسيط. ففي عام 1863 نشر مولير رسالة ابن الخطيب بعنوان: “مقنعة السائل عن المرض الهائل”، وبعده بنحو 17 سنة، نشر ألفرد كرمر دراسة مفصلة عن تاريخ الأوبئة في العالم الإسلامي القروسطي، مستغلا للمرة الأولى رسائل الطواعين العربية المكتوبة بعد الطاعون الأسود. ثم تجدد الاهتمام بهذا النوع من الأدب في العقود الأخيرة، فترجم وايت إلى الفرنسية رسالتين عربيتين “السلوك” للمقريزي، و”النجوم”، لابن تغري بردي، بينما اهتمت جاكلين سوبليت، بدراسة رسالة ابن حجر العسقلاني “بذل الماعون في فوائد الطاعون”. وفي عام 1977 قام دولز باستغلال كثير من الرسائل العربية في كتابه الذي نشره بجامعة برينستون، حول الطاعون الأسود. وأخيرا انصب اهتمام لورانس كونراد على ترجمة رسالة ابن حجلة إلى الإنجليزية والتي تحمل عنوان: “دفع النقمة في الصلاة على نبي الرحمة”. لكن مقابل هذا الاهتمام بدراسة رسائل الطواعين المشرقية والأندلسية، بقيت الرسائل المغربية مهملة رغم أنها لا تخلو من فائدة. صحيح أننا لا نجد فيها إلا نادرا اهتماما بتاريخ الأوبئة أو محاولة لتحديد تأثيرها على حياة البلاد، على غرار ما فعله المقريزي وابن إلياس، لكنها تفيدنا على الأقل في معرفة منظور المعاصرين للطاعون، وأسباب ظهوره وعلاجه، والجدل الذي احتدم بين الفقهاء حول إشكالية العدوى ومشروعية الوقاية في الإسلام. ومن أمثلة هذه الرسائل، يمكن أن نذكر رسالة ابن هيدور في القرن 14 حول “ماهية الأمراض الوبائية”. واسمه الكامل علي ابن هيدور التادلي، نشأ بفاس وعاش في النصف الثاني من القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، أي في وقت بدأت شمس الحضارة الإسلامية في الأفول وعاش فترة اضطرابات سياسية بعد اغتيال أبي عنان المريني. في رسالته يعرف كلمة وباء، ويعتبره مرادفا للطاعون الأسود ويفسر ظهوره بظروف فلكية وأخرى مناخية، كما يفسره بفساد الأغذية المستعملة في زمن المجاعات، فهو يعتبر أن الغلاء يؤدي إلى المجاعة والمجاعة تؤدي إلى الوباء. ويقترح أنواعا من العلاج، منها ترديد دعاء “يا حي يا حليم يا حنان يا كريم” وأدعية أخرى، دون أن ينسى الجانب الطبي من قبيل الاهتمام بجودة الهواء، و”اتخاذ البيوت العالية ورشها بالرياحين الباردة.. ورشها بماء الورد الممزوج بالخل والتطيب به ومسح الوجه والأطراف بذلك والمواظبة على شم الأرنج، وأما الطعام والشراب فيكون موافقا للعادة والوقت والسن.. والحذر من إدخال الطعام على الطعام. وفي القرن 17 نجد رسالة محمد بناني، التي ألفها بفاس سنة 1744، وجاء فيها “هذه أوراق جمعت من أحكام الطاعون فوائد كثيرة.. لشدة الحاجة إلى ذلك لما وقع الطاعون في البلدة الإدريسية سنة ستة وخمسين بعد المائة والألف وقد عم في هذه السنة غالب بلاد المغرب”. ثم هناك رسالة “الحضيكي” وقد جاءت بناء على سؤال وجهه له أحد الفقهاء إبان طاعون 1747-1748. وهناك رسالة أحمد بن مبارك اللمطي، وهو يدافع عن بطلان حقيقة العدوى ويجيز المعاملات التجارية بين المناطق الموبوءة وغير الموبوءة. وهناك رسالة أحمد بنعجيبة “سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر”، وقد ألفها إبان طاعون 1798-1800، وكان يقيم في تطوان، حين قررت سلطات المدينة إغلاق أبوابها تحفظا من العدوى، وأيد العلماء ذلك. لكن حين داهمها الوباء نصح العلماء الناس بالفرار، إلا أن بنعجيبة رفض، وبقي في المدينة حيث مات جميع أولاده بالطاعون وألف رسالته ليهاجم أولئك العلماء الذين اعتقدوا إمكانية الإفلات بالفرار ويقول في مستهل رسالته إن ما حمله على تأليف رسالته “أني رأيت كثيرا ممن يشار إليهم بالعلم والعقل، قد ضل وجعل يدافع عن المقادير بما يقدر من الأسباب والحيل”. وهناك رسالة العربي المشرفي “أقوال المطاعين في الطعن في الطواعين”، حيث يستعرض فيها أقوال أطباء الإسلام في الطاعون كابن سينا، والأنطاكي، فيرى أنهم أرجعوه إلى أسباب طبيعية كتلوث الهواء وقلة الأمطار وإلى بعض الظواهر الفلكية، ويستعرض نصائحهم حول الوقاية والعلاج كتجنب الاختلاط في زمن الوباء واستعمال الخل عند الإصابة. وهناك رسالة محمد أبي القاسم الفلاني “رسالة فيمن حل بأرضهم طاعون”، ورسالة محمد بن يحي السوسي “تأليف في الطب”، وهو شخصية جمعت بين الطب والفقه، وينصح فيها بالابتعاد والعزلة والانفراد في حالة الإصابة بالمرض.