تفيد التقارير الإخبارية أن عددا كبيرا من حالات الإصابة من جراء وباء "كورونا" حدثت في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. ومن المفيد التذكير أن هذا الوباء يمثل حلقة ضمن سلسلة كوارث وآفات طبيعية شهدتها هذه الدول منذ القدم، توزعت بين مجاعات وأوبئة وهزات أرضية وسيول؛ ومن بينها وباء منتصف القرن الرابع عشر الميلادي/ القرن الثامن الهجري، الشهير باسم "الطاعون الأسود"، الذي شكل موضوع عدد كبير من الأبحاث والدراسات في تلك الأقطار، وما زالت بعض جوانبه موضوع نقاش إلى اليوم. ويبدو أن هذا الاهتمام يتماشى مع حجم الكارثة البشرية التي ترتبت عنه؛ وخلافا لذلك، لم يخضع للبحث من قبل المهتمين بتاريخ الغرب الإسلامي، رغم أنه فتك بعدد هائل من السكان. ودليلنا فيما نذهب إليه أن بيبليوغرافية الأبحاث التي تناولته لا تتعدى بضعة عناوين، فضلا عن كون بعض النصوص الأساسية التي تهمه ظلت مخطوطة حتى السنين الأخيرة، ولم تعتمد إلا في نطاق محدود جدا. وانطلاقا من هذه الاعتبارات، تسلط هسبريس عبر أربع حلقات الضوء على هذا الوباء وعلى نتائجه الديموغرافية في الأندلس. 2- انتشار وباء منتصف القرن الثامن أعراض الوباء لم يقتصر وباء منتصف القرن الثامن الهجري على الأندلس، بل انتشر كما ذكرنا في مناطق شاسعة من العالم القديم. وأودى بالملايين من عامة الناس وخاصتهم. ولذلك اهتم به الأطباء والمؤرخون والرحالة. منهم من تحدث عنه في صفحة أو صفحات. ومنهم من خصه بمقالة مستقلة. وقد باتت أعراضه معروفة اليوم. خلافا للأوبئة الأخرى السابقة التي لم تجد من يكتب عنها بإسهاب باستثناء نماذج قليلة منها، نتوفر اليوم على معلومات مقتضبة حول طبيعتها وحول أعداد ضحاياها. ويتضح من خلال مقالتي ابن خاتمة وابن الخطيب، أن وباء منتصف القرن الثامن الهجري كان عبارة عن "حمى خبيثة" أو "حمى وبائية". وهذه الحمى "هي حرارة غريبة (...) تتصل بالقلب ثم تنتشر منه دفعة في سائر البدن". وقد نشأت عن فساد الهواء. وبما أن عامة الناس كانوا يستنشقون ذلك الهواء، ف2ن المستعدين منهم للإصابة، كان يؤذي قلوبهم. فيتغير مزاجها. وفي اليوم الموالي، يصيبهم اضطراب عام وتشنج وصداع في الرأس وغثيان وقيء وعطش وثقل في الصدر وضيق في التنفس ونفث دم وسواد في اللسان وتورم في الحلق واختناق في البلعوم. فلا يستطيعون بلع الطعام. وقد تتطور هذه الأعراض، فتبدو على أبدانهم "عقد وطواعين تحت الإبطين أو في الأربيتين أو خلف الأذنين". وقد تنتشر قروح سوداء في مواضع من أجسامهم. وخاصة في الظهر والعنق والأطراف. وفي ضوء ما قيل عن هذه الأعراض، وخاصة ما تعلق منها بما سماه ابن خاتمة ب"العقد والطواعين" التي تظهر على أجساد المصابين. وهي التي سماها ابن الخطيب ب"الخراج من جنس الطواعين"، ف2ن الأمر يتعلق بما يسميه الباحثون المحدثون والمعاصرون ب"وباء- طاعون" (Une épidémie de peste). وقد سبق لأطباء الإسلام القدامى أن تحدثوا عن طبيعة هذه "العقد" أو "الخراج" وعن خطورتها. فذكر الرازي في معرض حديثه عن الدماميل والبثور والدبيلات الظاهرة والباطنة، أن "الطاعون ورم يحدث في اللحم الرخو. منه ما يحدث في أصل الأذن وهو من فضول الدماغ. ولذلك فهو بارد ساكن. ومنه ما يحدث في الإبط. وهو نوع خبيث حاد لأنه من فضول القلب (...) يقتل في خلال أربعة أو خمسة أيام". وكان ابن سينا أكثر دقة. فربط الطاعون بالوباء من خلال قوله إن "الطواعين تكثر في الوباء وفي البلاد الوبئية". وعرف "الطاعون" على غرار الرازي، بكونه "ورم حار قاتل. لأن جوهر مادته يتحول إلى سم يفسد العضو ويغير لون العضو الذي يليه. وقد يرشح دما أو صديدا ويؤذي القلب عن طريق الشرايين". وإن تأثير مادة الورم في القلب، هي التي تحدث القيء والغثيان والاختناق. وحين تشتد أعراضه، يفتك بالمصاب. ولا بأس من الإشارة إلى أن ابن سينا ميز في "الطاعون" بين ثلاثة أنواع: نوع أحمر وآخر أصفر وثالث أسود. "وهو أشدها فتكا لا يفلت منه أحد" إذا أصيب به. ويبدو أن هذا النوع هو الذي سبب تلك الأعراض التي تحدث عنها ابن خاتمة وابن الخطيب رغم أنهما لم يستعملا مصطلح "طاعون" في عنواني مقالتَيهما. كما لم يصفا الوباء بأي لون. فقد استعمل الأول عبارة "المرض الوافد". واستعمل الثاني عبارة "المرض الهائل". ولم يذكر ابن خاتمة كلمة "طاعون" إلا في الورقة 14 من مقالته، حين شرع في الحديث عن "السبب الخاص" الذي أدى إلى حدوث الوباء. كما لم يورد ابن الخطيب كلمة "طاعون" إلا في آخر فقرة من الصفحة السابعة من مقالته، حين ذكر، وهو يتحدث عن انتقال العدوى بين الناس، أن آلافا من الأسرى المسلمين القابعين في قبضة المسيحيين بسجن إشبيلية، "لم يصبهم الطاعون. وقد كاد يستأصل المدينة". لذلك حرصنا منذ مقدمة هذا البحث على استعمال عبارة "وباء منتصف القرن الثامن الهجري" خلافا للباحثين المحدثين والمعاصرين، وخاصة منهم الإسبان، الذين يستعملون كثيرا عبارة "الطاعون الأسود" في أبحاثهم. طرق انتشار العدوى على هامش إشارتنا لمسألة العدوى، تجدر الإشارة إلى أن الوباء الذي نحن بصدد الحديث عنه أودى بحياة كثير من الناس ليس فقط بالنظر لقوة فتكه، ولكن أيضا بالنظر لانتشاره في رقعة ترابية شاسعة. وقد ذكر ابن خاتمة العدوى بالاسم، وخصها بحيز مستقل "كمسألة رابعة" في مقالته بعد "مسألة حقيقة الوباء" و"مسألة أسباب الوباء العامة والخاصة" و"مسالة إصابة قوم بالوباء دون قوم". وأقر في مستهل حديثه عنها، أن "العادة والتجربة" أبانتا أن الوباء معد للغاية. فإذا أصيب أحدهم، ينتقل الداء إلى الذين يعيشون في محيطه، عن طريق ما سماه ب"الملابسة". أي المعايشة والاحتكاك اليومي. ووضح بأن عملية الانتقال تتم عبر 3 طرق هي: أولا: الأبخرة الفاسدة المنبعثة مع أنفاس المريض عند استحكام الداء. وخاصة عندما يلفظ أنفاسه الأخيرة. فإنها تلحق الأذى بمن يعيشون في محيطه. حيث يستنشقونها. ويكون تأثيرها على السليم "على قدر كمال استعداده. وسرعة انفعاله". أي تبعا لقوة مناعته كما يقال اليوم. ولم يفت ابن خاتمة أن ينبه في هذا المقام، إلى أن قوة المناعة قد لا تحمي الشخص من الإصابة مع دوام مساكنة المريض. ثانيا: الأبخرة الفاسدة المنبعثة من بدن المريض. وإن كان مفعولها أقل من مفعول الأنفاس. ثالثا: استعمال ألبسة وفراش المريض. فيكون للباس تأثير على صحة السليم إذا ارتداه مباشرة على بدنه. ويكون للفراش تأثير إذا داوم السليم على استعماله واستنشاق ما ينبعث منه. وأكد ابن خاتمة صحة ما ذهب إليه في كون عدد كبير من باعة سوق "الخلق" بمدينة المرية لقوا حتفهم في خلال شهر، لأنهم كانوا يبيعون ألبسة وأفرشة من ماتوا بفعل الوباء. كما أن أهل بعض البلاد الذين منعوا الوافدين من بلد به الوباء من دخول بلادهم، ظلوا بمنأى عن هذه الآفة لمدة طويلة. خلافا لبعض أهالي الحصون الواقعة بمحاذاة ألمرية. فقد سمحوا بدخول وافدين إليها كانوا مصابين وماتوا بين أظهرهم. فانتشر بينهم الوباء. وأنهى ابن خاتمة حديثه عن مسألة العدوى بالقول إن التجربة أبانت عن أن الأفراد الذين يعايشون المصاب حتى وفاته، لا تنتقل إليهم العدوى فقط. وإنما ينتقل إليهم الداء بنفس المواصفات الفيزيولوجية التي كانت بادية على المصاب. فإذا نفث قبل وفاته دما، ينفثون دما. وإذا ظهر على جسده ورم في مكان معين، يظهر عليهم الورم ذاته وفي نفس المكان أيضا. فكأن الداء يستنسخ بين أفراد الأسرة إذا أصيب أحدهم. حتى أنه إذا كتبت له النجاة، نجوا جميعا. وإذا هلك، يشتركون معه في المصير. وأثار المؤرخ-الشاعر الشامي، ابن الوردي، الذي أودى الوباء بحياته، مسألة العدوى في جملة وجيزة من رسالته عن هذا الوباء، ذكر فيها أن العليل إذا "بصق دما" ينتقل الدّاء إلى "الباقين من الأحداث". فيلقون حتفهم بعد ليلتين أو ثلاث. وتوقف ابن الخطيب بدوره مطولا عند مسألة العدوى. فذكر، استنادا إلى "التجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة"، أن الإصابة تنتقل من المريض إلى السليم عن طريق المعايشة والمساكنة. وعن طريق استعمال آنية المريض وثوبه. كما قال بذلك ابن خاتمة. بل أكد على شدة العدوى بالقول إن شيئا بسيطا "كالقرط"، إذا أخذته امرأة سليمة من مصابة ووضعته في أذنها، يلحقها الداء. وجهة نظر أوروبية من المفيد الإشارة إلى أن بعض الأطباء المسيحيين المعاصرين للوباء لاحظوا على المصابين، في بعض مدن أوربا، مجمل الأعراض التي تحدث عنها ابن خاتمة وابن الخطيب. ومن بين أولئك الأطباء، ﯕيدو دو كولياكو (Guido de Cauliaco)، الذي عاين عددا من الحالات في بلدة أﭬنيون (Avignon) الفرنسية. ولكنه لم يتحدث عن تلك الأعراض بقدر من التفصيل كما فعل ابن خاتمة. وأكد الباحثون الغربيون المعاصرون، من مؤرخين وأطباء، ما قال به أطباء العصر الوسيط عن أعراض الداء. وربطوا تلك الأعراض بالطاعون الذي يمكن أن يأخذ شكلا دمليا أو شكلا رئويا. أما فيما يتعلق بمسألتي انتقال "الطاعون" من العليل إلى السليم، ودور العدوى في سرعة انتشاره، فقد تبنى بعضهم وجهة نظر مختلفة. فقد نفت الباحثة والمؤرخة فردريك أودوان- روزو (Frédérique Audoin-Rouzeau) مسألة العدوى المباشرة بين الأشخاص. ودافعت عن فكرة مفادها أن البراغيث والقمل العالق بالملابس، هي التي قامت بدور الناقل للداء بين الناس عن طريق الوخز. وليست البراغيث المحمولة على ظهور الجرذان كما ظل يقول بذلك عدد من الباحثين. واستندت في ذلك إلى أمرين. أولهما الخلاصات التي انتهى إليها بعض علماء البيولوجيا، أمثال جورج بلان (Georges Blanc) ومارسيل بالتزار(Marcel Baltazard) ، اللذان قاما بتحريات حول بعض حالات الوباء. وأثبتا دور البراغيث والقمل في نشر البكتيريا. وثانيهما حقيقة عدم وجود الفئران السوداء في مناطق البحر المتوسط حين تفشى "طاعون جستنيان". وأن هذه الكائنات لم تنتشر في أوروبا إلا بعد مطلع القرن الثاني عشر للميلاد. ومال الطبيب جون- نويل بيرابن Jean-Noël Biraben ، إلى تأييد ما قالت به أودوان روزو بخصوص الفئران. وذكر في هذا الشأن أن المؤلفات التي تحدثت عن وباء 1348 في العالمين الإسلامي والمسيحي، لا تتضمن إشارات إلى الفئران. ونؤكد من جهتنا أن علماء الطب الإسلامي الذين خصوا الوباء بحيز، أو أولئك الذين تناولوه بإسهاب، لم يشيروا من قريب أو من بعيد إلى هذه الكائنات. باستثناء ابن النفيس الذي ذكرها في معرض حديثه عن المؤشرات "الأرضية" الدالة على قرب ظهور الوباء. فتحدث عن تكاثر الحشرات والضفادع. وتحدث عن هروب اللقلاق، وعن "هروب الفأرة من جحرها". ونعتقد أنه لو كان "للفأرة" دور في انتشار الوباء بين الناس، لما جعلها "تهرب قبل حدوث الوباء". وهو العالم والطبيب المتمكن. وعلى كل، فقد بدا بيرابن وكأنه ينفي دور الفئران رغم أنه لم يحسم الأمر بشكل قاطع. خلافا لمسألة العدوى، التي نفى أن يكون لها دور في انتقال الداء من العليل إلى السليم. ورأى أن هذا الدور لا يكون حاسما، في جميع حالات الطاعون، إلا في وسط مناخي رطب، وفي درجة حرارة منخفضة. لأن الجرثومة المسببة له تعيش طويلا تحت الأرض، أو فوق التربة حين تكون درجة الحرارة منخفضة جدا. ويمكن أن يكون دورها حاسما كذلك، ولو نسبيا، في وسط مناخي معتدل خلال فصل الشتاء، حيث ترتفع نسبة الرطوبة وتنخفض درجة الحرارة. وفي هاتين الحالتين، ينتقل الداء من العليل إلى السليم عند السعال وليس من خلال الأنفاس كما قال بذلك ابن خاتمة. ف2ن السعال يسمح بانبعاث جراثيم من العليل، يستنشقها الشخص السليم الذي يعيش في محيطه. فيلحقه الأذى في خلال يوم أو يومين. ويكون ما ذهب إليه بيرابن أقرب إلى ما قال به ابن الوردي عن دور "البصق" في انتقال العدوى بين أفراد الأسرة. وأكدت فردريك أودوان- روزو وجون – نويل بيرابن ما قال به ابن خاتمة في موضوع انتقال العدوى عن طريق الثياب والفراش. فأوضحا بأن التجارب التي قام بها الطبيب بول لويس- سيمون Paul-Louis Simond، أبانت فعلا عن أن ملابس الشخص الذي توفي من جراء الطاعون تسمح بانتقال العدوى إلى السليم إذا ارتداها. وكذلك الملابس التي تغطي جسد شخص يحتضر من جراء الإصابة. وتؤكد هذه الخلاصة ما ذكره ابن خاتمة عن وفاة باعة ملابس الموتى بسوق ألمرية. ومهما يكن من أمر، ف2ن وباء منتصف القرن الثامن الهجري الذي كان له كل هذا التأثير على صحة الناس، كان مجرد "مرض وافد" على الأندلس وعلى شبه جزيرة إيبيريا. ورغم ذلك فتك بالآلاف من سكان المدن التي وجد فيها استعدادا للإبادة كما سنبين ذلك في فقرة لاحقة. فأين ظهر؟ وكيف وصل إلى الأندلس؟ وما هي حصيلته الديموغرافية؟ *أستاذ جامعي متقاعد