تفيد التقارير الإخبارية بأن عددا كبيرا من حالات الإصابة من جراء وباء كورونا حدثت في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. ومن المفيد التذكير بأن هذا الوباء يمثل حلقة ضمن سلسلة كوارث وآفات طبيعية شهدتها هذه الدول منذ القدم، توزعت بين مجاعات وأوبئة وهزات أرضية وسيول؛ ومن بينها وباء منتصف القرن الرابع عشر الميلادي/ القرن الثامن الهجري، الشهير باسم "الطاعون الأسود"، الذي شكل موضوع عدد كبير من الأبحاث والدراسات في تلك الأقطار، وما زالت بعض جوانبه موضوع نقاش إلى اليوم. ويبدو أن هذا الاهتمام يتماشى مع حجم الكارثة البشرية التي ترتبت عنه؛ وخلافا لذلك، لم يخضع للبحث من قبل المهتمين بتاريخ الغرب الإسلامي، رغم أنه فتك بعدد هائل من السكان. ودليلنا فيما نذهب إليه أن بيبليوغرافية الأبحاث التي تناولته لا تتعدى بضعة عناوين، فضلا عن كون بعض النصوص الأساسية التي تهمه ظلت مخطوطة حتى السنين الأخيرة، ولم تعتمد إلا في نطاق محدود جدا. وانطلاقا من هذه الاعتبارات، تسلط هسبريس عبر أربع حلقات الضوء على هذا الوباء وعلى نتائجه الديموغرافية في الأندلس. الحلقة 1: "وباء الأندلس" بين السماء والأرض معنى الوباء أورد واضعو معاجم اللغة العربية كلمة "وبأ" (أو وباء) بمعنى "الطاعون أو كل مرض عام". وتفيد تلك التعاريف بأن ثمة تطابقا بين "الوباء" و"الطاعون". وقد ذهب واضعو كتب الإخباريات في ذات الاتجاه، فتحدثوا بدورهم عن الوباء وعن الطاعون دون تمييز. وخلافا لهؤلاء وأولئك، جعل جمهور الأطباء المسلمين الوباء مرضا عاما والطاعون نوعا من أنواعه؛ فماذا قالوا عن حقيقة الوباء؟. ربط رائدا الطب الإسلامي في المشرق، الرازي وابن سينا، الوباء بتغير طبيعة الهواء. وقد اكتفى الرازي ببضع ملاحظات تخص ظاهرة التغير، فأورد نقلا عن الطبيب السرياني جورجس ما مفاده أن: فساد الهواء يحدث من جراء تغير طبيعة الفصول. فقد يحدث أن يمر فصل الربيع قليل المطر وباردا، تتخلل أكثر أيامه رياح جنوبية، ثم يصفو الجو فجأة خلال عشرة أيام، يكون فيها النهار حارا والليل باردا، فذلك يعني تعفن الهواء، وينذر بحدوث وباء.. وخلافا له كان ابن سينا أكثر دقة في معالجة المسالة، فذكر أن "الوباء ينتج عن عفونة الهواء إذا خالط أبخرة رديئة، أو إذا خالط أبخرة طيبة بقيت راكدة، ولم تفرقها الرياح، فتتحول إلى أبخرة رديئة". وبما أن الهواء يمثل مادة أساسية يحتاج إليها الإنسان أكثر من غيرها فإنه يستنشق ذلك الهواء الفاسد الذي يؤدي إلى فساد مزاج القلب؛ ثم يلحق الفساد سائر أجزاء البدن لأنها تابعة للقلب. وعلى غرار الرازي وابن سينا، اتفق أعلام الطب الإسلامي في الأندلس على القول إن الوباء ينتج عن فساد الهواء، وكان من بينهم ابن زهر، الذي يبدو أنه تفطن لما يشبه الالتباس الذي وقع فيه سابقوه بخصوص طبيعة الوباء وأسبابه، فارتأى أن يخصه بكلام جامع مانع، فأفرد له فعلا حيزا مستقلا، في ذيل كتابه حول الأغذية، تحت عنوان معبر: "القول في الوباء وفي أصنافه"؛ فذكر أن "العادة جرت عند الناس بإطلاق اسم الوباء على الأمراض التي تصيب أهل بلد من البلدان، وتشمل أكثرهم؛ وهذا إنما يكون بما يشترك الناس في استعماله، فيصيبهم كآفة واحدة حسب استعدادهم لقبولها"، وأضاف أن "الأشياء التي يشترك الناس في استعمالها هي الهواء.. كل إنسان يستنشقه ويدخله إلى بدنه عن طريق التنفس، فيقبض العروق الضاربة".. وانبرى بعد ذلك للحديث عن أصناف الوباء، كما هو وارد في عنوان المقالة؛ فتطرق لأسباب كل "صنف".. وتوقف في الوقت ذاته عند للتدابير العلاجية التي يجب القيام بها عند حدوث كل واحد منها. وسنكتفي في هذا المقام باستعراض أسباب كل نوع من أنواع الوباء كما أوردها: - يتمثل السبب الأول في المتغيرات المناخية، أي تغير طبيعة الفصول، كما قال بذلك الرازي وابن سينا؛ فيفسد الهواء من جرائها، ويعم المرض أهل الموضع الذي حدث فيه التغير، أو يعم أكثرهم؛ وقد كان محقا في ما ذهب إليه، إذ مازالت تحدث في أيامنا هذه متغيرات مناخية كارتفاع درجات الحرارة أو انخفاضها إلى مستويات دنيا، فتظهر بعض الأمراض التي تنتشر بين عدد من سكان البلد الذي حدث فيه التغير، ومن أبسطها نزلات البرد التي تأخذ شكل عدوى بين الناس. - يتمثل السبب الثاني في تصاعد أبخرة جثامين الآدميين، وجثث الحيوانات المتعفنة التي تترتب عن الحروب، وتتأخر عمليات دفنها أو إحراقها.. فتؤدي تلك الأبخرة إلى فساد الهواء. ومثل هذا الأمر صحيح، ولذلك تسارع السلطات في بلد ما تعرض لغارة عسكرية أو حدثت به كارثة طبيعية (زلازل على سبيل المثال) إلى دفن جثامين الضحايا مخافة ظهور وانتشار مرض وبائي. - يتمثل السبب الثالث في تصاعد "الأبخرة المنبعثة من مناقع الكتان" وفي تصاعد "أبخرة مواضع السروب" (مجاري الأمطار والمياه العادمة)، وأيضا في تصاعد "الأبخرة من مواضع تكدس الأزبال"، حين تكون متراكمة بكثرة وتكون درجة الحرارة مرتفعة.. وقد كان محقا أيضا بهذا الخصوص، فقد بات من المعروف اليوم أن المياه العادمة والمياه الراكدة في برك وغيرها وكذلك الأزبال والنفايات المتراكمة تؤثر في سلامة البيئة وفي صحة الإنسان. - يتمثل السبب الرابع في 2قدام عامة الناس على "أكل حبوب فاسدة عندما ترتفع الأسعار (...) أو أكل أشياء غير مألوفة"، فينتشر بينهم مرض عام يودي بحياة أكثرهم، حتى وإن لم يكن الهواء فاسدا. وقد أكد ابن زهر في هذا الشأن ما قال به إخباريو الأندلس، وإخباريو مناطق دار الإسلام عامة، حين ربطوا حدوث الأوبئة بإقبال عامة الناس على أكل مواد فاسدة خلال فترات المجاعات أو بمناسبة حصار، أو حين يقبلون على تناول أي شيء يمكن أن يسد الرمق عندما تشتد الحاجة وتنعدم الأقوات جملة. - يتمثل السبب الخامس في تفشي "القحط إذا تمادى واشتد الحر وأفرط"، فتنتشر أمراض تصيب عددا كبيرا من الناس أكثرها قاتل. وينبه ابن زهر إلى أنه لم تجر العادة أن تنعت هذه الأمراض بالوباء، ويكون ضحاياها "أصحاب المزاج الحار" الذين تضعف أجسامهم وتجف، وتخور قواهم، وقد يتأثر جهازهم التنفسي فيصيبهم داء السل. - ويتمثل السبب السادس في "غضب الله". وقد حرص ابن زهر وهو يورد هذا السبب على ألا يحيل على أي مرجعية دينية إسلامية، بل أحال على الطبيب اليوناني أبقراط، وقال ما نصه: "ذكر أبقراط أنه قد يكون وباء من غير سبب معلوم عندنا.. قال هو من غضب الله –عز وجل-". وظل ابن زهر وفيا لأبقراط، حين عزز ما نقله عنه في هذا المقام بحدث الطبيب اليوناني الذي "أصابته حرارة يسيرة وسعلة خفيفة، ثم نفث من يومه نفثا أسود ومات". وكان هذا السبب، حسب أبقراط خاصا بذلك الرجل، لا يعلمه إلا الله، فقد كان طبيبا يعتني بنفسه، فتصرف فيه أمر الله. ومما لا شك فيه أن ابن زهر عرف الوباء بدقة، فهو مرض يظهر في بلد من البلدان بسب فساد الهواء، أو لأسباب أخرى. ويتفشى هذا المرض بين معظم أهل ذلك البلد، ويصيب كل واحد حسب استعداده لتقبل المرض؛ كما اجتهد في الإحاطة بمختلف الأسباب التي يمكن أن يحدث من جرائها الوباء؛ ومما يلفت الانتباه أنه تحاشى الدخول في التفسيرات الفلكية عند حديثه عن فساد الهواء بسبب اضطراب دورة الفصول، كما أدرج جملة من الأسباب ذات صلة بدور الإنسان الحاسم في ظهور الأوبئة، كالحروب وعدم تدبير أمر الفضلات والنفايات والأبخرة المترتبة عن بعض الأنشطة الحرفية، وهي التي تحولت بعد الثورة الصناعية إلى غازات تنبعث من الوحدات الصناعية، فأدت مع مرور الزمن إلى ما يعرف اليوم بالاحتباس الحراري وتفشي الأمراض الجلدية والتنفسية وغيرها. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن ابن زهر كان بحق سابقا على عصره. ومهما يكن من أمر، فقد عاد ابن النفيس، أحد أعلام الطب في المشرق، لمعالجة مسألة تغير الهواء وحدوث الوباء؛ ويبدو في اعتقادنا أنه لم يطلع على ما كتبه ابن زهر في الموضوع، فلو قام بذلك، وأضاف شيئا إلى مقالة "القول في الوباء وفي أصنافه"، لكان وضع لبنة في ما سيعرف بعد قرون ب"علم الوبائيات"؛ ولكنه اكتفى بالانطلاق من الخلاصات التي انتهى إليها "الشيخ الرئيس" ابن سينا، واتفق معه في كون الوباء "فسادا يعرض لجوهر الهواء"، ووضح، خلافا "لشيخه"، وكذلك خلافا للرازي، أن هذا "الفساد" يحدث نتيجة أسباب فلكية سماها "سماوية" وأخرى "أرضية". تتمثل الأسباب السماوية، في نظر ابن النفيس، في تغير طبيعة المواسم، فقد يحدث أن تنصرم أيام فصل الصيف قليلة الحرارة، ثم يحل فصل الخريف فتكثر الشهب والنيازك، فيتغير الهواء. ويكون هذا التغير إنذارا بحدوث وباء. وقد يحدث أيضا أن تتكدر أحوال الجو في أواخر فصل الصيف وخلال فصل الخريف، فتكثر الشهب والرجُم، فيكون هذا التغير إنذارا بدوره بحدوث وباء. وقد يحدث أن يتكرر هبوب رياح الجنوب في شهر كانون الأول وكانون الثاني ( دجنبر ويناير). وتتكاثر العلامات الدالة على سقوط المطر دون أن تحدث تساقطات، فيكون "مزاج الشتاء فاسدا"، ويكون هذا "الفساد" مقدمة تسبق حدوث وباء. وقد يحدث أن يكون فصل الربيع قليل الأمطار باردا، تكدر هواءه رياح جنوبية تهب باستمرار، ثم يصفو الجو خلال أسبوع، وتشتد حرارة الشمس في النهار وتنخفض درجة الحرارة أثناء الليل؛ ف2ن ذلك يمثل مقدمة نحو حدوث وباء. وتتمثل الأسباب الأرضية المفسدة للهواء في تصاعد الأبخرة من مكان به ماء آسن أو في تصاعد الأبخرة من جثث آدمية وحيوانية متعفنة خلفتها حرب من الحروب، وتأخرت عمليات مواراتها أو إحراقها. ويرى ابن النفيس، على غرار ابن سينا، أن ثمة علامات مختلفة، غالبا ما تنذر بحدوث حالة وباء. بعض هذه العلامات تكون في السماء وبعضها على وجه الأرض.. من بينها: تكرر ظهور الشهب والرجُم والنيازك، وتكاثر الحشرات والضفادع، وهروب عينات من الطيور كاللقالق، و"هروب الفأرة من جحرها". وباء منتصف القرن الثامن الهجري ظلت مقولة "الوباء ينتج عن فساد الهواء"، بفعل عوامل "سماوية" وأخرى "أرضية"، سارية المفعول في أوساط أطباء مشرق ومغرب دار الإسلام؛ فقد قال بها أطباء الأندلس الذين توفوا قبيل وباء منتصف القرن الثامن الهجري، وكذلك أولئك الذين عاصروه؛ فهذا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن خلصون، أحد أطباء غرناطة، يوصي عامة الناس في معرض حديثه عن حفظ صحة القلب بضرورة استنشاق الأزهار الطيبة، كالنرجس والورد والحبق، أو على الأقل استنشاق الهواء النقي السليم من العفن، ويؤكد ضرورة القيام بذلك دوما، ولاسيما في زمان الحر.. وفي البلاد الكثيرة المياه والأزبال ف2ن أكثر الوباء، في اعتقاده، يحدث من جراء تصاعد الأبخرة الفاسدة. وسمى ابن خاتمة، طبيب ألمرية، وباء منتصف القرن الثامن الهجري الذي عاصره باسم "المرض"؛ وهي الكلمة الواردة في عنوان مقالته عنه، وربط حدوثه "بتغير الهواء عن حاله الطبيعية".. وقبل عرض المسألة بتفصيل، ارتأى أن يتطرق لدلالات مفهوم الوباء من وجهة نظر لغوية، ثم من وجهة نظر طبية، فأدرج، في الشق الأول، تعريف علماء اللغة لكلمة وباء، وخلص، نقلا عن "بعض العلماء"، إلى أن "الوباء هو عموم الأمراض، فسميت طاعونا لتشابهها في الهلاك". وانطلاقا من هذا الاعتبار اللغوي، فكل طاعون، في نظره، وباء، ولكن لا يمكن قول العكس.. ويضيف أنه من الممكن، من الوجهة المجازية، جعل كلمة "وباء" مرادفة لكلمة "موتان"، لأن أصل كلمة وباء في اللغة الموت الذي يقع في الماشية.. أما من وجهة نظر طبية، فالوباء "مرض عام للناس قتال غالبا عن سبب مشترك". وبناء على ذلك، فالآفة التي اجتاحت ألمرية سنة 749 هجرية، والتي سئل ابن خاتمة في موضوعها، هي، في نظره، "مرض".. والمرض يمثل حالة غير طبيعية لأنه مناقض للصحة التي هي الحالة الطبيعية للإنسان.. وهذا "المرض عام" لكونه تفشى بين عدد كبير من الناس، خلافا للمرض الخاص الذي يصيب شخصا واحدا أو عددا محدودا من الأشخاص. أما القول إن هذا المرض العام انتشر بين "الناس" فالمراد منه تفادي استعمال عبارة "الموتان"، لأنها تستعمل عند الحديث عن الموت حين يتفشى في قطعان الماشية وعموم الحيوانات. والقول إن هذا المرض العام الذي انتشر بين الناس هو مرض "قتال غالبا" فلتمييزه عن الأمراض الأخرى التي تصيب شخصا أو أشخاصا يتماثلون بعدها للشفاء. والقول إن هذا المرض العام الذي انتشر بين عموم الناس هو مرض قتال في الأغلب، وظهر عن "سبب مشترك"، فمعناه أن هذا المرض الكائن اشترك في الإصابة به عدد كبير من الناس في موضع واحد، في حين أن أغلب الأمراض تكون لأسباب مختلفة، ومن ثم لا تعد وباء. والحصيلة أن المرض الذي يتفشى بين عموم الناس ويودي بحياة عدد كبير منهم، ويظهر بسبب مشترك، هو في نظر ابن خاتمة وباء.. وبما أن الوباء موضوع مقالته لم يحدث لسبب خاص بمدينة ألمرية، فقد ميز في الوباء بين نوعين، فذكر، بالعودة إلى أبقراط وجالينوس، بأن النوع الأول محلي يخص منطقة أو بلدة أو بلدا، وسماه "المرض البلدي"، أما الثاني "فقادم على الناس من بعيد مع الهواء"، وهو "مرض وافد". ويشير ابن خاتمة، بالمناسبة، إلى أن الوباء يمكن أن يحدث من جراء هواء فاسد، كما يمكن أن يحدث من جراء تناول الناس "لطعام فاسد أو شراب فاسد"؛ وبذلك قال بما قال به ابن زهر من قبل في كون الطعام الفاسد يمكن أن يكون سببا من أسباب حدوث وباء، وأضاف إلى ما قال به ابن زهر سببا جديدا وهو تناول الشراب الفاسد، ويقصد غالبا الماء الملوث الذي يتسبب شربه في ظهور أمراض وبائية كما هو معروف اليوم. ولم يختلف ابن الخطيب، طبيب غرناطة، كثيرا مع ما قال به ابن خاتمة، فقد سئل هو الآخر عن الوباء الذي عم البلاد، فأجاب بشكل مقتضب بأنه في "حقيقة أمره مرض حاد حار سمي المادة"، يصيب الإنسان عن طريق الهواء، فيتسرب في العروق ويفسد الدم.. أما حدوثه فيعود لسبب "أقصى" وآخر "أدنى"، يتمثل الأول "في أمور فلكية تؤثر في العالم"، يقول بها المهتمون بالنجوم وعلوم الفلك، ويأخذها عنهم الأطباء كمسلمات، ويتمثل الثاني في "فساد الهواء". وانطلاقا مما تقدم، يتضح أن الآفة التي شهدتها الأندلس في منتصف القرن الهجري الثامن هي وباء، فكيف كانت أعراضه؟ وبما أنه من النوع الوافد فأين ظهر، وكيف حل بالأندلس؟. *أستاذ جامعي متقاعد