مباحثات مغربية بحرينية لتعزيز التعاون في مجالات التنمية الاجتماعية    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طب العصر الوسيط والمرض الوابل .. أسئلة تاريخية
نشر في هسبريس يوم 20 - 04 - 2020

لعل أول جبهة ميدانية في مجال مقاومة الأمراض كما هو معروف، هي واجهة الطب والتطبيب وأمر بديهي (أو على الأقل كما يبدو لنا هنا والآن) أن تشتغل مهنة الطب وتكون في التماس، خلال فترات الجوائح والأوبئة التي طالما حصدت ملايين الناس منذ العصر الوسيط وإلى حدود القرن التاسع عشر، ونُبل المهنة كما نعرف جميعا يعود إلى قسَم أبقراط اليوناني، إضافة إلى تصدي الأطباء عبر العصور لكل الأمراض المزمنة و(الوبائية) والعادية معا، لكن المثير أن الأمراض الوبائية عموما، لم تكن بنفس اهتمام وتفرغ أطباء العصور القديمة والوسطى، وذلك لأسباب تقنية وثقافية وعقدية أحيانا، واستمر هذا الوضع إلى غاية أن بدأ المتخصصون تجربة اللقاحات - في حدود علمنا - منذ القرن السابع عشر في أوربا، ضمن حركية النهضة بشكل عام، ولكن اللقاح النهائي للطاعون لم يُتوصل إليه إلا سنة 1894، ثم انتقلت تجربة اللقاحات تلك ضد الأوبئة الفتاكة إلى المجتمعات التقليدية، التي لم تستطع لأسباب متعددة ومعقدة اللحاق بركب النهضة، فكان الاستعمار الأجنبي- كما سنوضحه في حلقة أخرى - أهم عامل للتحديث الكسيح القسري (إذا جازت التسمية) بعد أن فشل، أو بالأحرى، تم إفشال التحديث من الداخل، وهذا موضوع آخر قد ينأى بنا عن المقاصد.
في ذات السياق إذن، ظهرت مؤسسة الطب الحديث أو الطبابة الحديثة بالمغرب، سنوات قبل أو مباشرة بعد توقيع عقد الحماية سنة 1912 والتي وُظفت في نهاية المطاف لخدمة أهداف الدولة المستعمِرة بالدرجة الأولى (تعاملات ذات طابع تبشيري كنموذج فقط وأيضا مقتل الطبيب موشان Émile Mauchamp بمراكش تبعا لأعمال الاستفزاز الاستعمارية التي أقدم عليها) دون أن يعني ذلك عدم استفادة الأهالي "Les Indigènes أو على الأقل بعضهم من هذه الخدمات، مما وضع المخزن (ومعه النخبة في عمومها أي أهل الحل والعقد بمن فيهم الفقهاء) ومع المخزن عموم المغاربة، وضعهم جميعا في موقف عقدي ومعرفي جد ملتبس ولا يُحسدون عليه، يصدق فيه المثل العربي "كالمستجير من الرمضاء بالنار" لأن الجميع تقريبا كان يعرف الأهداف الحقيقية للتغلغل الفرنسي ولو باسم "الإنسانية والطبابة"، وفي نفس الوقت، كان البعض على دراية بما وصلت إليه فرنسا وأوروبا من جبروت عسكري وتقدم علمي وتقني وطبي بالطبع، يكفي أن نستشهد ب"الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية" لمحمد بن الطاهر الفاسي على سبيل المثال لا الحصر، رغم أن مقاصد مثل تلك الرحلات كانت الاطلاع على أوجه التقدم الغربي من الناحيتين العسكرية والإدارية أساسا.
في الفترة الوسيطية من تاريخ المغرب حصرا، فإن المصادر التاريخية والحوليات وكتب المناقب المعروفة تشير إلى الأطباء هنا وهناك، خاصة المقربين من الخلفاء والسلاطين وتسجل وجود مهنتهم أو خطة الطب لديهم، وكذا طبيعة عملهم ومنذ أقدم العصور، لكن الإشكال الأساس يتلخص في السؤال الجوهري التالي "كيف واجه الأطباء العرب والمسلمون والمغاربة على وجه التحديد جبروت الجوائح والأوبئة؟ ومع صعوبة الإشكال في حد ذاته، بالنظر لتشتت المادة التاريخية وتسجيل الحداثة النسبية لعلم الأوبئة – كما يدرك المختصون ذلك جيدا – لا سيما المتصل بالطب، فإن المقام هنا يقتصر على التنوير التاريخي بالدرجة الأولى، دون أن ندعي التحديدات الدقيقة ذات الطابع الطبي أو التقني، لأنه لا يصب في موضوع مقالنا هذا، المؤسَّس على النبش والبحث تحت ضغط المناسبة المأساوية في كل الأحوال، وضمن مجال التاريخ الاجتماعي توافقا مع اتجاه الباحثين عموما نحوه ومحاولة تجاوز التاريخ الحدثي / السياسي المحض، دون أن يعني ذلك عدم وجود تقاطعات هنا وهناك.
أول ما يسترعي الانتباه، هو ضرورة الحيطة المفاهيمية، حينما يتعلق الأمر بتحليل أزمات العصور الوسطى على مستوى المغرب الأقصى، ففي نهاية المطاف، لا يجب قياس مفاهيم تلك العصور ولا سيما طريقة التعاطي مع الأمراض والأوبئة على مفاهيم عصرنا الحالي، والعكس صحيح طبعا، إذ إننا نظلم العصور الوسطى كثيرا بإسقاط مفاهيم ومقولات عصرنا الحديث الحالي على فترات معينة من تاريخ المغرب، مثل فترة حكم بني مرين كنموذج بين عدة نماذج.
من دون شك، عرف المغاربة حرفة الطب منذ أقدم العصور، ونخص هنا الأندلسيين أيضا، وذلك في مراحل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية بشبه الجزيرة الإيبيرية، لكن من باب المجازفة والتجني على حقائق التاريخ القول بأنهم تعمقوا في الطب الوبائي وعرفوا ميكانيزماته وخصائصه ومدى نجاعته، لم يشر إلى ذلك أي من الأخباريين أو مؤرخي الحوليات، اللهم إذا استثنينا ما ذكره ابن هيدور التادلي (وهو يصنف كعالم رياضي متأثر بابن البناء العددي المراكشي وليس كطبيب) في رسالته الموسومة "المقالة الحِكَمية في الأمراض الوبائية" ورسالة ابن الخطيب في الطواعين وأخرى لابن خاتمة الأندلسي وثالثة لمحمد بن علي اللخمي الملقب بالشقوري، وفيها تختلط معايير العلم في تلك الفترة مع بعض المعتقدات ذات الطابع السحري أو الخرافي أو البدائي حتى، ولا تحمل المصادر أو تلك الرسائل نفسها ما يفيد أنهم كانوا يفرقون على وجه العموم بين أنواع الأوبئة لأن الوباء في نهاية المطاف، ظل يعني الطاعون ببساطة سواء منه الدملي (بعض إمكانيات الشفاء) أو الأسود (القاتل دون أي شك).
علاوة على كل ما سبق، نسجل مع الباحث المرحوم الحسين بولقطيب أن دولة الموحدين مثلا والتي تمثل قمة الحضارة المغربية الوسيطية، تدخلت لمحاربة الأوبئة الفتاكة، ومحاولة إيجاد العلاجات الضرورية للقضاء عليها، أو على الأقل للحد من خطورتها، وبروح الموضوعية التي يجب أن تسم المؤرخ يضيف "فقد أنشَأت مستشفيات أو مارستانات لاستقبال المرضى، كما تكلفت بعلاجهم وتغذيتهم ولباسهم وحتى بمصاريف النقاهة". وفي إشارة تاريخية هامة يسجل صاحب كتاب "جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين" إقدام هذه الدولة على "خلق مختبرات لصناعة الأدوية والمعاجين والأشربة".
اشتهر العديد من الأطباء في المغرب والأندلس خلال الفترة المرابطية والموحدية كابن زهر وابن سحنون الإشبيلي والطبيب السلوي وابن رشد الطبيب الفيلسوف والفيلسوف الطبيب موسى بن ميمون، غير أن تعمقهم في ما يمكن وصفه ب"طب الأوبئة" لم يحصل، بسبب طبيعة المعارف الطبية في تلك الفترات، والتي لم تتجاوز الإطار العلمي القروسطي بشكل عام، أضف إلى ذلك أنه اعتبارا من العصر المريني، أصبحت المعرفة ذات طابع موسوعي تقليدي، يغلب عليه الفقه والعلوم الشرعية، ثم قد تجد العالم يضيف الطب والتاريخ والتراجم والتصوف والمناقب والكتابة السلطانية والفتاوى ضمن مصنفاته وكتبه، فالطب لم يكن علما مستقلا بذاته، فأحرى أن ينتبه ويتصدى للأوبئة التي انتشرت في العصور الوسطى كالطاعون الأسود مثلا.
في مختتم رسالته الطبية "المقالة الحكمية في الأمراض الوبائية" لابن هيدور التادلي الفاسي المتوفى في مجاعة فاس سنة 816 ه / 1413م أي أواخر العصر المريني، يربط بين الفتن والوباء والغلاء جميعا، بقوله "إن سبب هذا المرض - يعني الطاعون – يكون فساد الهواء وتعفنه ويكون أيضا من فساد الأغذية ويكون منهما معا (....)"، ويضيف في صيغة شرطية دالة "إذا ظهرت الخوارج واشتدت الفتنة فحق ظهور الغلاء، لأنه لازم لها، وإذا كان الغلاء وطال واشتدت أسبابه، لزم منه الوباء"، ويجزم في تأكيد حاسم "وهذا علم صحيح وقانون مطرد" ثم يضيف "قال وأما علاجه فبطريقتين، الأولى طريقة أسرار الخوف والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء المأثور والطريقة الثانية صلاح الأغذية والهواء".
تورد هذه الفقرة ذات الطابع القروسطي التراثي نقطتين هامتين، في ما يخص النظر أولا إلى طبيعة الأوبئة، وثانيا طرق علاجها كما يراها ابن هيدور، فالطاعون هنا ناشئ عن التغذية والهواء وهو تفسير منطقي نوعا ما، قياسا إلى ذلك العصر، لكن النقطة الثانية الخاصة بالعلاج لها دلالاتها، وأولها حضور البعد الغيبي المتعالي بقوة، باعتبار أنه بدأ اقتراح العلاج به "طريقة أسرار الخوف والتوجه إلى الله تعالى" وهو دليل واضح على عجز البنية العلاجية في ذلك الوقت إزاء الوباء القاتل، أو "المرض الوابل" وهو الطاعون دون شك (هما نوعان تحديدا)، مع تأكيدنا على أهمية البعد النفسي والروحي في مواجهة البلاء، ثم بعد هذا يمر إلى العلاج الآخر وهو مرتبط بالسبب الأصل في نظره، حتى يحقق نوعا من الانسجام في الخطاب، إنها الطريقة " الصحية " أي إصلاح الأغذية والهواء.
ففيما يخص الهواء، يقترح ابن هيدور اتخاذ البيوت العالية ورشها بالرياحين الباردة، دون أن ينسى الرش بماء الورد الممزوج بالخل والمواظبة على شمه وشم الأرنج، وفي مجال التغذية، هناك التحذير من الطعام الثمل والبعد عن تناول الطعام على الطعام، وذكر ما وصفه ب"الترياق الكبير" وهو ما نطلق عليه بالفرنسيةAntidote (كل مادة مضادة للسموم) المتخلف عن جالينوس والنافع في طرد العفونات المسببة للوباء، وكان ابن هيدور قد فسر حدوث الوباء - كما زعم الأطباء في نظره - بأن الفصول تتغير وينتج فساد الهواء عن "أبخرة متعفنة من السباخ والطبائخ المتغيرة" كما أنه لم يعدم التفسير الكوسمولوجي المتعلق بالأجرام والكواكب والنجوم، بما يطبعها من خرافية ساذجة أحيانا وهو بذلك – كما يقر الباحث الراحل الأمين البزاز – لم يأت بجديد يذكر وإن كانت لمحة من عبقرية الرجل واضحة في ربطه المجاعة بالطاعون ومن ثمة، تعليل ارتفاع عدد ضحاياه.
واضح أن مجال الوقاية من الأوبئة لم يغب عن مصنفي الطبابة في العصر الوسيط - على قلتهم - وبينهم ابن هيدور التادلي الفاسي، كما أن الأطباء، منذ ابن سينا انتبهوا بشكل محدود إلى كارثة العدوى التي تحدد الوباء بما هو كذلك، لكن موضوع العلاج يطرح إشكالا تاريخيا وعلميا كبيرا، بالنظر كما قلنا لحداثة طب الأوبئة، الناشئ أساسا مع النهضة الأوربية ولتعدد تفسيرات الوباء سواء منها ما له علاقة ب"العلم المحض" أو ما كان ذا طبيعة غيبية أو كوسمولوجية أو خرافية، ثم التركيز فقط على التغذية والنظافة، دون وصف لأية عقاقير أو أدوية كما لاحظ الباحث الراحل محمد أمين البزاز وهو ما يدمجه المؤرخون عادة ضمن ما يسمى ب"أدبيات الطاعون".
ونذكر هنا رسالة ابن الخطيب ذي الوزارتين وذي القبرين "مقنعة السائل عن المرض الهائل" ورسالة ابن خاتمة الأنصاري المريني الأندلسي (ت 734ه/ 1333 م) والتي عنوانها "تحصيل غرض القاصد، في تفصيل المرض الوافد "، وقد عاصر ابن الخطيب وأيضا ابن خلدون فترة الطاعون الأسود الذي اجتاح العالم المعروف وقتئذ سنة 749 ه/ 1348م، والذي قد يكون فتك بنصف سكان البلاد (محمد زنيبر / الثقافة والمجتمع في تاريخ المغرب – المحرر الثقافي 1977) ثم هناك رسالة محمد بن علي اللخمي الشقوري والتي لم يصلنا منها إلا ملخصها، وكل الرسائل الأندلسية الثلاث تتحدث عن تشخيص المرض/ الوباء ومفهوم العدوى وكيفية عزل المرضى والتخلص من الثياب الموبوءة.
ذكر ابن خلدون ثلة من الفقهاء والقضاة والمتصوفة والشعراء الذين هلكوا بسبب الوباء وبينهم الشاعر الطبيب أبو العباس أحمد بن شعيب الجزنائي التازي، وهو ينتمي إلى قبيلة جزناية من أحواز تازة، وقد عرَّف به ابن الأحمر وابن الخطيب، وعُرِف عنه أنه كان طبيبا للسلطان المريني أبي سعيد عثمان وكاتبا خاصا له، ولا علاقة لدرب "الطبيب" في تازة (المفضي للمشور من زقاق الحاج ميمون) بأبي العباس هذا وإنما هو اسم أطلق على شخص آخر، وبالمناسبة، فقد ذُكرت مدينة تازا أو رباط تازة ليس فقط في سياق تحركات الجيوش والقوافل والعلماء باعتبار احتضانها لممر استراتيجي بين الأطلس والريف، وإنما أيضا، بحسبانها معبرا للأوبئة الزاحفة من الشرق والشمال خاصة (ونادرا ما كان الوباء يأتيها من الغرب أي عبر فاس) وقد عانت المدينة بدورها من الطاعون غير ما مرة، مثلها مثل المدن المغربية الأخرى مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجال والكثافة السكانية، لكن المثير هو أن باديتها لم تتأثر كثيرا بالوباء، بخلاف المدينة شانها شأن بوادي المغرب التي كانت تقل فيها وفيات الطاعون حسب المصادر التاريخية دون المدن.
لم يعدم ابن الخطيب أرقاما ملتبسة حول الوباء إياه حيث ذكر أن 4000 نفرٍ ماتوا في يوم واحد بفاس، ولا شك أنه يقصد الطاعون الأسود المعروف، ومع ذلك، فعلى مستوى التطبيب، نلاحظ مفارقة تاريخية بين وجود أطباء وريادتهم في بعض العلاجات والعمليات الجراحية والعقاقير وأيضا حرفة الصيدلة، مقابل العجز شبه التام أمام الأوبئة والجوائح، ولو أن ابن الخطيب كان قد تعرف على مسألة تنقُّل العدوى من شخص لآخر إلا أن مختلف المصادر لم تسجل أنه وقف على عقار معين أو علاج فعال للوباء.
وعلى العموم، يمكن فرز مقومات الطبابة في العصر الوسيط على صعيد المغرب الأقصى والأندلس في موقفين أو بعدين أساسيين:
- الموقف الاستسلامي القدري (العقاب الإلهي – القضاء والقدر – الابتلاء – المعاصي والذنوب - نهاية العالم) عند الأطباء أنفسهم والذين كانوا في نفس الوقت فقهاء وقضاة أو متصوفة وشعراء ووزراء، إلى درجة ادعاء ظهور المهدوية أي قصة المهدي المنتظر، الذي سيأتي في آخر الزمان ليقتل الدجال ويشيع العدل في الأرض بعد أن مُلئت ظلما وجورا، وعبر إحالات دينية من هنا وهناك، بما في ذلك التأويل الخاص بالحجر الصحي لبعض أحاديث النبي (ص).
- الموقف العقلاني نوعا ما ويمثله ابن خلدون وابن هيدور وابن الخطيب وابن خاتمة وقد رُبط بعناصر تجريبية كفساد الهواء وتسرب الطاعون عبر الرئتين ونمط التغذية.
ولا نحتاج هنا إلى التدليل على أن الغلبة الغالبة كانت بدون شك للتيار الأول، بسبب طبيعة الأنساق الثقافية التقليدية السائدة، على أهميته الروحية والنفسية بالنسبة للمريض، فيما لم يترك التيار الثاني أثرا يذكر، لا بل حتى ابن خلدون نفسه كمؤسس لفلسفة التاريخ وممهد لعلم الاجتماع، لم يُفهم في عصره حق الفهم، بمقدمته وتاريخه معا، وإنما الغربيون هم الذين اكتشفوه كما هو معروف للأسف الشديد، علما بأن الموقف الثاني، رغم تبلوره في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، يعتبر متقدما فعلا على بعض المشعوذين الموجودين بين ظهرانينا حاليا وفي عز جائحة كورونا العالمية، كما إن طب ابن سينا وابن رشد وابن زهر وأبي القاسم الزهراوي وأبي بكر الرازي وابن البيطار وابن سحنون وإبراهيم الرامي (الطبيب الأندلسي الذي أدار بمارستان مراكش المشهور على عهد يعقوب المنصور الموحدي) قلنا: هذا الطب كان يمثل لحظات جد مشرقة من الحضارة العربية الإسلامية، في الوقت الذي كانت أوروبا ترزح تحت نير ظلمات الجمود والكنيسة المتحجرة المتعصبة والأنساق المترهلة المعادية لكل علم مهما كان.
لا بد من التأكيد - إضافة إلى تداخل المجالات المعرفية - على دور الدول الحاكمة في مجال مقاومة الأوبئة، وهو ما عوض – فيما نتصور – تدخل الطبابة المعروفة في ذلك الوقت ونذكر هنا تخصيص حارات للمجذومين، ودور الماريستانات، لكن النهاية الحتمية، أن تلك المرافق أو المجالات و"المؤسسات" لم تساهم في الحد من الأوبئة أو في احتواء انتشارها، وخاصة منها الطواعين المرتبطة أساسا بالعصور القديمة والوسطى، أولا لجبروت الداء الذي سموه "المرض الوابل" وثانيا، لأن النظرة الغيبية هي التي هيمنت على الخاصة والعامة، باعتبار الطاعون "قدرا مقدورا" لا مفر منه، حتى عدوا الميت المطعون شهيدا محتسبا عند الله تعالى.
ومن الالتفاتات الطبية الطريفة عند الحسن الوزان Leon L'Africain أنه في مواجهة آفة الطاعون "لا يُستعمل أي دواء باستثناء التمسح بالتراب الأرميني حول دمل الطاعون"(كذا).
بالطبع، تغيرت صورة الطب بعد هذه الفترة المتألقة بين ضفتي المتوسط، فانتقل الثقل الحضاري إلى الضفة الشمالية لأسباب متعددة معروفة، اقتصادية وسياسية وفكرية أساسا، إذ أضحى التفوق الأوربي بينا جليا، بل كما ذهب إلى ذلك د احمد المكاوي في كتابه "الدور الاختراقي والاستعماري للطبابة الأوروبية في المغرب"، "لم يمانع المغاربة في التطبيب على أيدي الأوربيين حتى في أوج الصراع الديني والعسكري بين المغاربة والأوربيين" فلم يتردد السلطان الوطاسي مثلا وعاملاه على أزمور وأصيلا وفي عز المواجهة مع البرتغال، في استدعاء الطبيب البرتغالي Duart Rodriguez لمداواته عدة مرات، ونحن نعلم أن الفترة تميزت أيضا بالأوبئة والمجاعات والحروب الأهلية واحتلال الشواطئ المغربية.
وعود على بدء، فرغم أن السلطان أحمد المنصور السعدي كان بإمكانه اتخاذ مغاربة مشهورين كأطباء، كما الحال بالنسبة لإبراهيم الأندلسي والوزير أبي القاسم الغساني وعبد الغني الزموري، فإنه فضل في المقابل الاعتماد على بعض الأطباء الأوربيين الذين كانوا في الأسر أصلا، لا بل إن المنصور وهو الذي تقول بعض المصادر إنه مات بالطاعون الشهير سنة 1603م، أوصى ابنه أبا فارس باستعمال "الترياق" الذي شرحناه سابقا، حينما أحيط علما باجتياح الوباء للمغرب وذلك من باب الاحتياط "ثم لا تغفلون عن استعمال الترياق – أسعدكم الله- فالزموه، وإذا استشعرتم منه بحرارة وتخوفتموها فاستعملوا الوصف من الوزن المعروف منه".
لقد تطور الاعتماد على الطب الأجنبي بموازاة الضعف الجلي في تكوين الأطباء المغاربة، خلال الحقب الموالية وكانت جامعة القرويين تخرج أفواجا من الطلبة المتخصصين في العلوم الشرعية أساسا وذلك إلى جانب الإجازات الطبية، إلى حدود سنة 1832 أي في عهد السلطان س عبد الرحمان بن هشام، حيث انتهت فعليا تلك الإجازات الطبية من القرويين، وكان آخر طبيب مغربي متخرج من أقدم جامعة في العالم هو محمد بن أحمد الكحاك، مما يطرح أكثر من سؤال، ولكن مع ذلك، ظهر عدد من الأطباء الذين استفاد منهم المخزن والسلاطين إلى حد ما، غير أن معارفهم ومكتسباتهم توقفت عند العصر الوسيط بكل أسف ولوعة، فكان الجانب الطبي (التقني) من أبرز الثغرات التي نفذت منها الطبابة الاستعمارية المتفوقة إلى المغرب الضعيف تقنيا وحضاريا.
أخيرا لا بد هنا أن نسجل مؤلَّفا هاما هو "تاريخ الطب العربي بالمغرب" الصادر بمراكش سنة 1939، لصاحبه الفقيه محمد بن احمد العبدي الكانوني الآسفي المتوفى سنة 1940، كتاب فريد من نوعه لكن نسخته الأصل لم تخرج إلى عموم القراء والباحثين، وتوجد منه نسخ مختلفة، أهمها نسخة في حوزة جميعة آسفي للبحث والتوثيق (ذ - البيضاوية بلكامل / مجلة المناهل" المغرب زمن الحماية) وقد حدد صاحب الكتاب مراحل تطور الطب في المغرب بشكل عام (ولم يخصص طب الأوبئة على ما يبدو) في ما يلي:
- دور التكوين في القرون الأربعة الإسلامية الأولى.
- دور الازدهار في القرنين الخامس والسادس أي عصر الدولتين المرابطية والموحدية.
- دور الوقوف أو الركود في القرنين السابع والثامن خلال عصر الدولة المرينية.
- دور الانحطاط في القرن التاسع فما بعد.
والطريف في الكتاب أن صاحبه يحصي 131 طبيبا (.....) لا أقل ولا أكثر، منذ العصر المرابطي إلى العصر العلوي وحتى عهد السلطان الحسن الأول ولا يتجاوز عدد الأطباء المغاربة من بداية القرن العشرين إلى العقد الثالث للحماية طبيبان (02) هما عبد السلام بن محمد بن أحمد العلمي الفاسي ثم أحمد التمسماني الطنجي ثم الفاسي.
ويتوزع هذا الرقم المثير على العصور كما يلي:
- 17 طبيبا من العصر المرابطي.
- 51 طبيبا من العصر الموحدي.
- 16 طبيبا من العصر المريني.
- 21 طبيبا من العصر السعدي.
- 26 طبيبا من العصر العلوي.
وعموما، فالكتاب المخطوط إياه يمكن تصنيفه ضمن الكتب التراثية النضالية، التي تثبت جدارة المغاربة بعلوم الطب والطب الحديث، من جهة، ويتضمن تحفيزا ضمنيا لهم على التعاطي للعلوم الحديثة خاصة وأنها فترة الحجر والحماية والاستعمار.
من جانب آخر، فرغم أن وباء الطاعون تم القضاء عليه في أوروبا وأصبح من دروس التاريخ الوسيط خاصة، اعتبارا من نهاية القرن التاسع عشر كما ذكرناه سابقا، فإن التأليف المغربي فيه استمر حتى الثلث الأول من القرن العشرين، بدليل وجود كتاب مخطوط آخر لنفس الفقيه محمد العبدي الكانوني أسماه "طرفة النجباء بدليل المنع عن أرضي الطاعون والوباء"، مما يطرح سؤال التحديث الفكري والثقافي والعلمي على مغرب ما بعد الاستقلال، مع مشاغبة كل الأسئلة والإشكالات السابقة المميزة للعصر الوسيط وصولا إلى عوامل ومظاهر تفوق الطبابة الاستعمارية.
*رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.