في زحمة مواجهة كورونا، بما تتطلبه من إجماع وتعالٍ عن الجزئيات، اختار البعض هذه الأيام إحياء النقاش حول جدلية التكنوقراطي والسياسي، من خلال التنويه بفعالية الأول في مواجهة الفيروس، والتنقيص من دور الثاني وكفاءته، بل وربط اسمه بما هو سلبي، والمثال الذي يقدمونه هو عثرة وزير العدل مع قانون تكميم الأفواه، والخروج الإعلامي الأخير لرئيس الحكومة. إلى حد الآن، لم يكشف الذين بعثوا هذا النقاش من مرقده في زحمة كورونا خلفياتهم، ماذا يريدون بالضبط؟ لكن ربط بعض المقالات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي بعضها ببعض، يوحي بأن هذا البعض يريد أن يجعل من لحظة مواجهة كورونا، لحظة لتصفية الحسابات مع السياسة كذلك. إنهم يريدون التكنوقراط ليس للإسهام في تدبير الجائحة فقط، بل لكونهم جوابا محتملا عن الفترة اللاحقة عليها كذلك، خصوصا أن انتخابات 2021 على الأبواب. سيكون من الشجاعة أن يمضي أصحاب هذا المنطق إلى نهايته، ويدفعوا بالتكنوقراطيين المفضلين لدهم، وهم وزير الداخلية السيد عبد الوافي الفتيت، ووزير الاقتصاد والمالية السيد محمد بنشعبون، وزير التجارة والصناعة السيد حفيظ العلمي، نحو تأسيس حزب سياسي يليق بهؤلاء التكنوقراط. إن المنطق والوضوح السياسي يقتضيان من الجهات التي تريد السيطرة على السياسة باستخدام التكنوقراط، المضي إلى النهاية، ولا أعتقد أن هناك ما يمنعهم من ذلك، حتى يكون النقاش حول كفاءة التكنوقراطي وضعف السياسي متوفرا على الحد الأدنى من المعقولية والجدية. بل إن الحاجة إلى التوازن السياسي في المرحلة المقبلة ربما تقتضي خوض مثل هذه المبادرة، لسببين على الأقل؛ الأول، استمرار حزب العدالة والتنمية قوة سياسية وتنظيمية دون منافس حقيقي، ما يؤهله للفوز في الانتخابات المقبلة بسهولة، وهو ما يزعج هذه الجهات بالضبط التي تطبّل لأداء التكنوقراط وتنقّص من أداء السياسي؛ وثانيا، بسبب سحب الرهان على السيد عزيز أخنوش لأسباب غير مفهومة حتى الآن من لدن هذه الجهات أو من غيرها. لكن، يبدو أن هؤلاء ليست لديهم الجرأة الكافية لخوض هذه المغامرة، أي دفع التكنوقراط المبجلين لديهم هذه الأيام إلى تأسيس حزب سياسي يملأ الفراغ السياسي كما يتصورونه. لماذا؟ لأنهم يدركون، جيدا، أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستأتي على المستقبل السياسي لهؤلاء التكنوقراط. والدليل على ذلك، أنه سبق «صبغ» بعضهم بألوان أحزاب سياسية عشية تشكيل الحكومة الحالية أو سابقاتها، للاستوزار باسمها، منهم، على سبيل المثال، وزير المالية والاقتصاد الحالي، ووزير التربية الوطنية والتعليم العالي الحالي، وهي ممارسة جرت مع وزراء سابقين أيضا، بينهم وزير داخلية سابق، لكن، لا يبدو أن التحاق هؤلاء التكنوقراط بالأحزاب التي انتموا إليها خلف أثرا سياسيا يستحق أن تفتخر به تلك الجهات التي تطبّل للتكنوقراط اليوم. وإذا كان أثر هؤلاء التكنوقراط على أحزابهم لا يكاد يذكر، فكيف يمكنهم خوض تجربة سياسية حزبية من الصفر وينجحوا فيها؟ لهذا، يبدو لي أن إثارة النقاش حول التكنوقراطي والسياسي في الظرفية الحالية ليست من الحكمة في شيء، ومن يسعى إلى ذلك، إنما يريد كسر الإجماع الوطني بشأن مواجهة فيروس كورونا، لأنني أتوقع أن الكثير من قيادات الأحزاب السياسية تلزم الصمت حاليا لإحساسها بالمسؤولية تجاه الظرفية التي يمر بها الوطن فقط، وإلا فإن ضربة واحدة نحو «التلاعبات» في موضوع الكمامات، والتي لا بد أن تنفجر في يوم ما، والاعتقالات المبالغ فيها للمواطنين في ظل العجز عن توصيل الدعم المالي لكل من يستحقه، كافية لكي تعيد كل التراشق السياسي السابق على كورونا إلى الواجهة من جديد. لدي فرضيتان إزاء هذا النقاش؛ الأولى أن النقاش المتكرر حول التكنوقراطي والسياسي مرتبط بطبيعة نظامنا السياسي، القائم في جوهره على المزاوجة بين الشرعية التقليدية والشرعية الانتخابية، ما يسمح ببروز عصبة التكنوقراطيين فاعلا يستثمر هذه الازدواجية لصالحه، من خلال تعزيز الطرف الأقوى، أي الشرعية التقليدية، وهو منطق «برغماتي» -حتى لا أقول إنه انتهازي- يناقض طبيعة التكنوقراط كونهم خريجي المدارس التقنية الحديثة. الفرضية الثانية، وهي سليلة الفرضية الأولى، تؤكد أن التوفر على حكومة منبثقة من الشعب وتمتلك كل السلطة التنفيذية، سيجعل التكنوقراط ملزمين، في حال رغبتهم في القيام بأي دور سياسي، بالمرور حتما عبر حزب سياسي قائم أو تأسيسه. وفي انتظار ذلك، سيظل النقاش حول «كفاءة التكنوقراط»، مع تبخيس كفاءة السياسي، مجرد نقاش، الغرض منه تدوير الكلام لإخفاء النقاش الحقيقي، أي الطريق نحو دمقرطة القرار السياسي والاقتصادي والاستراتيجي.