فجأة، انقلبت الإشادة والإجماع حول أداء حكومة العثماني في مواجهة فيروس كورونا، إلى دعوة إلى تغييرها بحكومة للتكنوقراط. صدرت الدعوة الجديدة، في البداية، من طرف إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، الذي دعا إلى حكومة “وحدة وطنية”، كما لو أننا في حرب عسكرية تتطلب فرض حالة الاستثناء، ولما قوبِلت دعوة لشكر بالاستهزاء والسخرية من قبل الرأي العام، صدرت نسخة جديدة معدلة للدعوة عينها، تنادي بحكومة تكنوقراط لمدة عامين، بذريعة إنقاذ الدورة الاقتصادية، على أن تنسحب الأحزاب إلى الخلف، ويجري تجميد الحياة السياسية مؤقتا. تأتي هذه الدعوة بعد نحو 70 يوما من حالة الطوارئ الصحية، وهي الفترة التي تصدرت فيها الدولة بكل مؤسساتها المدنية والعسكرية، تحت قيادة الملك محمد السادس، مواجهة جائحة كورونا (كوفيد 19)، بينما اختار السياسيون، من أحزاب ونخب وغيرهم، التراجع إلى الخلف، لفسح المجال أمام السلطات العمومية قصد التصدي للوباء دون تشويش أو تشتيت للجهود. كما تأتي هذه الدعوة بعدما شرعت القطاعات الحكومية في الرفع التدريجي لإجراءات الحجر الصحي، في أفق رفعه نهائيا بعد 10 يونيو المقبل، وإطلاق التفكير في خطة جديدة لإنقاذ الاقتصاد، في ظل التعايش مع فيروس كورونا، بما يحول دون انتشاره مجددا، أو إعاقة النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وذلك للحد من الخسائر التي تناهز مليار درهم يوميا، حيث تقدر الخسائر بنحو 80 مليار درهم ما بين 20 مارس و10 يونيو المقبل. هذا، وقد حظي أداء الحكومة في مواجهة الفيروس بالإشادة من قبل الأغلبية والمعارضة، وقد أظهر السياسيون والتكنوقراط داخل الحكومة تكاملا أكبر في الأدوار على وجه العموم، فلم يُسمع عن أي توتر أو صدام بين الطرفين. لكن يبدو أن البعض لم يستسغ التكامل الحاصل بين المدنيين والعسكريين، ولا الذي بين السياسيين والتكنوقراط، فأراد خلط الأوراق، لتتولد من قريحته دعوة إلى إقصاء السياسيين من المشهد لمدة عامين يجري فيها الحجر على الحياة السياسية، بذريعة الحاجة إلى إنقاذ الاقتصاد. فما دلالات هذه الدعوة؟ وما الخلفيات الكامنة وراءها؟ لشكر وحكومة وحدة وطنية أول من دعا إلى تغيير الحكومة القائمة برئاسة سعد الدين العثماني كان هو إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، خلال نقاش سياسي على الفايسبوك. لشكر برّر الاقتراح الذي تقدم به بالحاجة إلى مواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا، خصوصا في المرحلة المقبلة، حيث من المحتمل أن تتعمق الأزمة الاجتماعية وتتصاعد الاحتجاجات، لكن مقترح لشكر جرى رفضه من داخل الأغلبية الحكومية ومن خارجها، بل إن أحزاب المعارضة كانت أول من انتقدته وأعلنت رفضها للمقترح بأكثر من صيغة. سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، عبّر عن رفضه صراحة لطرح لشكر، وقال في لقاء تواصلي مباشر، نظمته الكتابة الجهوية لحزب العدالة والتنمية بجهة فاسمكناس، “لا معنى ولا مبرّر لتشكيل حكومة إنقاذ وطنية، لعدم وجود أزمة سياسية داخل التحالف الحكومي”، مشيرا إلى أن “جميع الدول التي عانت من جائحة كورونا لم تلجأ إلى هذا الطرح، بل واجهتها بالحكومات ذاتها التي كانت سابقا، وهو ما ينطبق على المغرب كذلك”. وأضاف الأمين العام لحزب العدالة والتنمية “لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، وأنه لا يمكن للمدافع عن الديمقراطية، أن يكون أوّل من يضربها بالمنجل، ويتنكر لها في ممارسته الداخلية”. وشدد العثماني على أن الأحزاب السياسية يتعين عليها أن تجسد الديمقراطية داخل تنظيماتها، وأن تمتلك القرار السياسي بيدها، وأن تكون لديها مؤسسات فاعلة ومقنعة. أما من خارج الأغلبية، فقد برز موقف الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، عبداللطيف وهبي، الذي اعتبر أن الداعين إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية يهدفون إلى “قلب حكومة سعد الدين العثماني”. لكن وهبي أوضح أن هذا الاقتراح قد يصبح منطقيا لو جرى تأجيل الانتخابات التشريعية المقررة في 2021، “إذا اقتضى الأمر تأخير الانتخابات، آنذاك سنقول إنه لا يجوز لهذه الحكومة أن تسير إلى ما بعد 2021، لأنها تفتقر إلى المشروعية الانتخابية التي كانت لديها سابقاً. وبناء عليه، يمكن الحديث آنذاك، عن تشكيل حكومة وطنية”. وعبر حزب الاستقلال، أيضا، عن موقف رافض لما طرحه إدريس لشكر، فقد اعتبر الأمين العام لهذا الحزب، نزار بركة، أن المغرب يعيش “حالة وحدة وطنية” بالفعل، وقال إذا كان “الهدف منه الحفاظ على الإجماع الوطني لمواجهة الجائحة، فإننا نعيش فعلا لحظة وحدة وطنية، بعد انصهار جهود الأحزاب والمؤسسات والمجتمع في إطار “دولة وطنية” وراء جلالة الملك محمد السادس في مواجهة تداعيات جائحة فيروس كورنا، وآثارها الاجتماعية والاقتصادية”. في المقابل برّر إدريس لشكر دعوته إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بالحاجة إلى مواجهة فيروس كورونا، معتبرا أن المغرب في حالة حرب ضد هذا الفيروس تتطلب إجماعا وطنيا تحت قيادة الملك محمد السادس، ويبدو أنه يريد إحداث تغيير في الساحة السياسية يكون قادرا على امتصاص الأزمة الاجتماعية، لكن المحللين يرون أن ما طرحه إدريس لشكر مجرد مناورة سياسية، الهدف الأول منها إحراز موقع سياسي لحزبه في المرحلة المقبلة داخل الحكومة وليس خارجها، خصوصا وأن الحكومة المقبلة قد تشهد تنافسا شديدا على الانضمام إليها، وقد يجد الاتحاد نفسه خارجها بسبب اصطفافه مع حزب التجمع الوطني للأحرار من داخل الحكومة ضد حزب العدالة والتنمية. أما الهدف الثاني، فقد يكون متعلقا بشخص إدريس لشكر نفسه، الذي يسعى منذ فترة إلى الاستوزار في الحكومة، خصوصا وأنه تعرض للإبعاد من حكومة العثماني الأولى والثانية، وربما يتوقع أن تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم رؤساء الأحزاب قد تكون مدخلا مناسبا لحصوله على مقعد حكومي، يستعيد من خلاله موقعه السياسي والحزبي في المشهد. مهما تكن خلفيات إدريس لشكر، فقد اعترض قادة الأحزاب الرئيسة، سواء من الأغلبية أو المعارضة، على دعوته تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن في الوقت الذي اعتقد البعض أن مثل هذه المناورات قد توقفت ولا مكان لها في الظرفية السياسية الحالية والمقبلة، صدرت دعوة ثانية، جديدة ومعدلة، من لدن فاعلين إعلاميين، وصفهم البعض بأنهم مجرد “سعاة بريد” لجهات في الدولة، ممن دعوا إلى حكومة تكنوقراط لإنقاذ الاقتصاد، بغرض جس نبض الأحزاب، وعلى رأسهم حزب العدالة والتنمية. “الشرعي” وحكومة التكنوقراط برزت الدعوة إلى حكومة تكنوقراط تدريجيا منذ بدء الحكومة التحضير للخروج من حالة الحجر الصحي. في البداية، جرى التنويه بأداء بعض الوزراء داخل الحكومة، أمثال وزير الاقتصاد والمالية، ووزير الصناعة والتجارة، ووزير الداخلية، قبل أن يتم الإفراج عن الفكرة كاملة من خلال الدعوة إلى حكومة تكنوقراط لإنقاذ الاقتصاد من قبل أحمد الشرعي، في افتتاحية مجلته الأسبوعية “لوبسرڤاتور دو ماروك إي دافريك” ل21 ماي الجاري، حيث اعتبر أن الحكومة مطالبة بعد رفع الحجر الصحي أن تستعد لمواجهة “كارثة تسونامي اقتصادية، وزلزال اجتماعي، ومآسي بشرية”، لأن الدعم المالي المخصص لملايين الأسر سيتوقف في نهاية يونيو. ويرى الشرعي أن تجاوز هذه الكارثة يتطلب خطة على ثلاث مراحل: مرحلة قصيرة المدى تجيب عن كيفية العودة إلى النشاط الاقتصادي، وتوقف الدعم عن 17 مليون عامل في نهاية يونيو، ثم مرحلة متوسطة المدى تتطلب وضع خطط قطاعية لإنعاش الاقتصاد، ثم مرحلة بعيدة المدى تتطلب نموذجا جديد ليس للتنمية، بل للمجتمع الذي يأخذ بعين الاعتبار التحولات الجارية حوله في العالم. ويخلص الشرعي إلى أن حكومة العثماني عاجزة عن تقديم الحلول المقنعة لتبعات “تسونامي الاقتصادية”. وعليه، يرى الشرعي أن “الحل هو حكومة تكنوقراط لمدة عامين، بهدف واحد، هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة إطلاق الدورة الاقتصادية، وأن على الأحزاب السياسية دعم هذا الخيار، والتفرغ للاستعداد لانتخابات 2022. وأن هذا التوجه سيكون فقط، قوساً في الحياة السياسية، ولكنه قوس حيوي”. ومما يلاحظ أن التفاعل مع دعوة أحمد الشرعي أتت من قبل جل الأحزاب الرئيسة، التي استشعرت، على ما يبدو، أن مقالة الشرعي وبعض الإعلاميين العاملين في مؤسساته، مجرد “ناقل “ميساج” أو ساعي بريد لتمرير طلبات الخدمة”، على حد ما ورد في افتتاحية “بيان اليوم” الناطقة باسم حزب التقدم والاشتراكية. في مقدمة الأحزاب التي رفضت الدعوة إلى حكومة تكنوقراط، حزب العدالة والتنمية، الذي ردّ على المقترح بشكل رسمي، ففي بيان لأمانته العامة، المنعقدة يوم 23 ماي الجاري، التي ثمّنت، من جهة أولى، ما وصفته ب”مبادرة الأخ رئيس الحكومة بالتشاور مع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين والاقتصاديين فيما يتعلق بتدبير مرحلة ما بعد الحجر الصحي، وذلك من منطلق إيمانها الراسخ بالدور الذي يتعين أن يضطلعوا به، والحاجة إلى تعزيز أدوارهم الدستورية ومكانتهم في التأطير والوساطة مع مختلف مكونات المجتمع سواء خلال فترة الحجر الصحي أو ما بعدها، وباعتبار ذلك شرطا سياسيا يعزز المسؤولية السياسية، ويعيد الثقة في المؤسسات التمثيلية، ويجسد الاختيار الديمقراطي كأحد الاختيارات الدستورية الأساسية”، وفي الوقت عينه أعلنت الأمانة العامة “رفضها لكل خطاب يستهدف المساس بالاختيار الديمقراطي تحت دعوى النجاعة في مواجهة تداعيات الجائحة”. وأكدت “انخراط حزب العدالة والتنمية في الجهد الوطني التضامني في مواجهة الجائحة والإسهام بقوته الاقتراحية في تجويد السياسات والتدابير التي تقتضيها مرحلة ما بعد الجائحة”. الموقف عينه ورد في افتتاحية “بيان اليوم” كذلك، “لقد قرأنا (الدعوة إلى حكومة تكنوقراط) في مقال لناشر أسبوعية بالفرنسية، وقرأناه قبل ذلك في عمود لصاحب صحيفة يومية بالعربية، وورد الأمر عينه تلميحا أو تصريحا لدى أصوات أخرى لم تتردد في الدعوة إلى حكومة تكنوقراطية تتولى إدارة شؤون البلاد لسنتين لمواجهة تداعيات الأزمة، وفِي هذا الوقت على الأحزاب أن تجلس في المقاعد الخلفية أو أن تهتم ببيتها الداخلي، وتستعد لانتخابات تجري بعد عام من موعدها، أي في 2022”. وتضيف الافتتاحية “أن منتهى ما تمخض عنه اجتهاد منظري الساعة الخامسة والعشرين عندنا، وهذه هي قمة المواقف الاستراتيجية الكبرى والأفكار التي استفادتها هذه الأوساط من دروس كورونا، وتعول عليها لتغيير أوضاع البلاد والعباد. هي تنط اليوم على آلام الناس وتقفز على كل ما يتربص بالبلاد من مخاطر لتسيج لنفسها تموقعات ضمن خارطة “جديدة” تتمناها هي وتريد أن توجه الدولة نحو تبنيها، وهي من أجل ذلك تندفع اليوم نحو سجالات تحصرها فقط، في الهجوم على الحكومة ولا ترى الحل سوى في إقالتها وتشكيل حكومة تكنوقراط. قد تكون الأوساط الإعلامية مجرد ناقل "ميساج" أو ساعي بريد لتمرير طلبات الخدمة، ولكن أليست الطبخة كلها باردة والوصفة قديمة جدا؟ أليست الأوساط نفسها التي قادت البلاد إلى الجدار في السنوات الأخيرة هي نفسها التي تتحرك اليوم من وراء الستار وتستعمل الأدوات عينها لتمهيد الأجواء؟ ثم ألم يعش المغاربة كثير أزمات جراء سياسات التكنوقراط؟ من المؤكد أن الدولة في المرحلة المقبلة لما بعد كورونا يجب أن تعيد امتلاك دورها المركزي، وأن يتقوى حضورها في السياسات الاجتماعية بالخصوص، ولكن الديمقراطية هي القادرة على أن تمنح لأدوار الدولة المشروعية والمصداقية والفعالية المطلوبة، والفاعل السياسي الجاد هو من يقدر على الحضور والعمل وسط الناس وتعبئتهم حول القرارات والاختيارات المتخذة. ليس القصد هنا الدفاع عن الحكومة الحالية، وعكس هذا وجهنا عديد انتقادات لأدائها خلال فترة الأزمة، ولكن دفاعا عن السياسة، وعن المضمون الديمقراطي لتسيير الشأن العمومي، ورفضا لامتطاء ظهر الأزمة لإحداث التراجع والنكوص”. وقد تصدى لدعوة الشرعي، أيضا، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، عبداللطيف وهبي، التي اعتبرها غير دستورية، على اعتبار أن دستور 2011 يلزم الملك بتعيين رئيس الحكومة من الحزب الأول الذي يتصدر الانتخابات. وقد التقى موقف وهبي المدافع عن الدستور، مع موقف عبّر عنه رئيس فريق العدالة والتنمية في مجلس النواب، إدريس الأزمي الإدريسي، في قوله: “أعترف أنني فوجئت عندما وجدت أن تلك الافتتاحية لا تصمد أمام الاختبار، وأن الاختيار الديمقراطي هو الذي يدفع الثمن فيها”. وأضاف الأزمي: “لقد كتب السيد الشرعي يوم 21 ماي أن هذه الحكومة عاجزة، بينما كان قد كتب يوم 5 ماي، أن “التنويه بعمل السلطات المغربية في مواجهة الجائحة كان في محله”. في يوم 5 ماي، كتب “الشرعي” أن الطوارئ الاقتصادية أمر حتمي ويتطلب التزام القوى الحية للأمة، وفي الاتجاه عينه دافع يوم 27 أبريل عن دور السياسيين وليس فقط، أصحاب الخبرة التقنية والعلمية، وعن ضرورة قيادة سياسية قوية في إدارة الأزمة الصحية، بينما خرج يوم في 21 ماي ليقول إن “الحل هو حكومة تكنوقراط لمدة عامين، بهدف واحد، هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد وإعادة إطلاق الدورة الاقتصادية”. وأضاف الأزمي “كنت متشككا منذ البداية بشأن المقولة الجديدة “عالم ما بعد كوفيد 19 لن يكون كما كان قبله”، ولكن في أي وقت من الأوقات لم أتصور أن أحدا سيجرؤ على أن يوصي بالحجر على الديمقراطية لمدة سنتين. على أي حال، من المتفهم أن تكون الرؤية غير واضحة بالنسبة إلى البعض فيما يتعلق بالمرفأ الذي يتعين أن ترسو فيه سفينتنا، لكن الشيء الأساسي والأهم هو أن المغرب يعرف ولديه مسار واضح وثوابت محفورة على الرخام، وذلك فيما ينص عليه الفصل الأول من الدستور”.