يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). أما المحنة الثالثة فقد حصلت عام 719، وهي الشهيرة بفتواه حول الطلاق الثلاث. وتكشف لنا هذه المحنة درجة الاستقلالية الفكرية التي كان يمتاز بها ابن تيمية، ومدى انخراطه في قضايا مجتمعه ومشكلاته، ولجوءه إلى الآراء الأكثر مدعاة للخلاف من أجل إيجاد سبيل إلى حلها. والسبب في ذلك أنه في عصره انتشر الطلاق بشكل كبير بين الناس، حتى إن أسرا بكاملها تفرق شملها بسبب التعسف في الحلف بالطلاق من لدن الرجال، حيث أصبح الحلف بالطلاق مشابها للحلف بالله عند الكثيرين، وخرج الناس عن معنى الطلاق الشرعي إلى الطلاق البدعي، ما فتح الباب أمام تعسف الرجال على النساء لمجرد حلفهم بالطلاق الثلاث. وكان الرأي الفقهي السائد في زمن ابن تيمية يؤيد هذا الواقع، بل إن العامة ما لجؤوا إلى هذا التعسف في استعمال حق الطلاق إلا لأن هناك فقها يقف إلى جانبهم ويرعى موقفهم داخل الأسرة، فلم تعد المرأة تجد مناصرا لها في هذا الواقع من بين الفقهاء، وأصبحت النساء في موقع ضعف أمام فقه لا يوفر لهن الحماية. وهنا رفع ابن تيمية صوته غاضبا ورافضا لهذا الواقع الذي لا يمت إلى الدين بصلة، وانتفض ضد الفقه التقليدي الذي سار عليه الفقهاء والناس بحكم العادة لا بحكم الاستنباط الفقهي، فطرح فتواه حول عدم جواز الطلاق الثلاث، واعتبره بدعة في الإسلام وحرم الحلف بالطلاق، وقدم رؤيته للطلاق الشرعي والطلاق البدعي. وفي هذه الفتوى يتبين لنا عمق ابن تيمية في الاستنباط من النصوص، وفي استعمال عقله لاستخراج الأحكام بناء على المنطق بالدرجة الأولى، دون الخروج عن روح النص. فهو يستدل بالآية التي تقول: «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، ولا تخرجونهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبنية، وتلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف» (الطلاق. 1-3)، ويعلق ابن تيمية قائلا: «فهذا إنما يكون لمن طلق أقل من ثلاث، فيمسك بمعروف أو يفارق بمعروف، وفي مثل هذا يقال: «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا»، وهو أن يبدو له فيراجعها، فأما إذا وقع الثلاث فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ وأي رجاء يكون بعدها؟ فلذلك قال جمهور السلف والخلف: إن جمع الثلاث بدعة منهي عنها، والمطلق ثلاثا بكلمة واحدة مبتدع عاص». واستند ابن تيمية أيضا إلى ما ورد في سورة البقرة في قوله تعالى: «الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان»، وبين أن المقصود إيقاع الطلاق مرتين، لا إيقاعه مرة واحدة بالنطق به مرتين، أي الطلاق الرجعي مرة بعد مرة، والثالثة الطلاق بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو معنى قوله تعالى: «فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره» (البقرة. 230). ولم يكتف بإبداء رأيه في النازلة، بل جادل الفقهاء الذين كانوا يستندون إلى أدلة معينة عندهم، فبين أنه لم يحصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن أحدا طلق ثلاثا جملة واحدة، وأظهر أن هذا قول أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد أبرز أن الطلاق ثلاثة أنواع؛ طلاق رجعي، وهو الذي يمكن فيه للزوج أن يرتجع زوجته، فإذا مات أحدهما في العدة ورثه الآخر؛ وطلاق بائن، وهو ما يبقى به خاطبا من الخطاب، لا تباح له إلا بعقد جديد، وطلاق محرم، وهو ما لا تحل فيه الزوجة للزوج حتى تنكح زوجا غيره، ويحصل إذا طلق الزوج زوجته ثلاث تطليقات، تصبح محرمة عليه في الثالثة. وما إن ذاع خبر تلك الفتوى المخالفة لما عليه فقهاء تلك الفترة حتى ثارت ثائرتهم، فاجتمع القضاة والفقهاء لمحاكمة ابن تيمية، وعُقد له مجلس خاص تقرر فيه منعه من الإفتاء بشكل عام، لكن الفتوى كانت قد انتشرت، حيث استمر تلامذته يفتون بها. ثم عقد معه القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي اجتماعا، «وأشار إليه بترك الإفتاء بمسألة الحلف بالطلاق فقبل إشارته وعرف نصيحته وأجاب إلى ذلك». وبعدها بأيام جاءت رسالة من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق، والأمر بعقد مجلس آخر لمحاكمته، وعقد المجلس بدار السعادة، وجرى الاتفاق على ما أمر به السلطان، لكن ابن تيمية عاد بعدها إلى التحلل من الالتزام بالمنع، وقال: «لا يسعني كتمان العلم». وفي التاسع عشر من شهر رمضان من السنة نفسها، اجتمع القضاة والعلماء عند نائب السلطنة بدار السعادة مجددا، وجرى التأكيد مرة ثالثة على المنع من الفتوى، بيد أن ابن تيمية ظل مصرا، وفي المرة الرابعة في رجب من عام 720 عقد مجلس آخر بحضور ابن تيمية وجماعة من القضاة والفقهاء والمفتين، وعاودوا تذكيره بالمنع، ثم حبس في سجن القلعة، حيث قضى هناك خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، إلى أن ورد مرسوم من السلطان بإخراجه من السجن، حيث غادره في يوم عاشوراء من عام 721، فتوجه إلى بيته واستمر في نشر العلم وفي الإفتاء بتحريم الطلاق الثلاث.