تحول تشديد السلطات المغربية الخناق على الشبكات الإجرامية المتخصصة في تهجير الشباب إلى الفردوس الأوروبي إلى سلاح ذي حدين، إذ بقدر ما يُسهم في تفكيك أكبر عدد ممكن من الشبكات الإجرامية، وإجهاض محاولات الإبحار إلى الضفة الأخرى، وتقليص أرباح المهربين، يدفع هذه الشبكات إلى تنويع طرق التهريب، ورفع سومة «الحريك»، والمراهنة على منافذ بحرية طويلة ووعرة تهدد حياة المرشحين للهجرة. ومن المتوقع أن يتفاقم هذا الوضع في مرحلة ما بعد فيروس كورونا، في ظل تزايد مؤشرات تفاقم أسباب الهجرة غير النظامية الإفريقية باتجاه إسبانيا وأوروبا، نظرا إلى الأزمة الصحية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية التي بدأت إرهاصاتها تظهر في العديد من الدول الإفريقية المصدرة للمهاجرين، بعد انهيار قطاعات السياحة والاستثمارات الخارجية والتحويلات الآتية من الخارج، وتوقف التمويلات والتبرعات والهبات الخارجية. وقد يفرض وضع ما بعد كورونا على المغرب وإسبانيا والاتحاد الأوروبي التفكير في إيجاد مقاربة شاملة لتحدي الهجرة غير النظامية لكي تتحول من «مشكلة» إلى حل. هذا ما تؤكده أرباح مافيا تهجير الشباب منذ سنة 2017، حيث إن تغليب المقاربة الأمنية يسهم فقط في اغتناء المافيا التي تنشط بين المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء والقارة العجوز. بين الحقيقة والتخويف أكد تقرير حديث لوكالة مراقبة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي (فرونتيكس) أن شبكات تهجير الشباب المغاربة والآتين من إفريقيا جنوب الصحراء من المغرب إلى إسبانيا، برا أو بحرا، ربحت في ظرف ثلاث سنوات ما يزيد على 160 مليار سنتيم. ويتحدث التقرير عن سنة 2017 التي عرفت بداية أزمة الهجرة غير النظامية بين الرباط ومدريد، بعدما بلغ عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى إسبانيا 22 ألف مهاجر؛ وسنة 2018 التي تفاقمت فيها أزمة الهجرة غير النظامية، لاسيما خلال فصل الصيف الذي عرف بروز ما أُطلق عليه حينها «القارب الشبح»، حيث حطم عدد الواصلين إلى إسبانيا كل الأرقام القياسية بتسجيل وصول 60 ألف مهاجر إلى إسبانيا؛ وسنة 2019 التي عرفت احتواء أزمة الهجرة غير النظامية، حيث سجل وصول 24 ألف مهاجر فقط إلى إسبانيا، علما أن تلك السنة عرفت تخصيص الاتحاد الأوروبي 140 مليار سنتيم لمواجهة تحديات الهجرة. ويظهر التقرير أن أرباح المافيا التي تنشط في المغرب بلغت 35 مليار سنتيم سنة 2017، قبل أن تتضاعف الأرباح ثلاث مرات سنة 2018 لتصل إلى 105 ملايير سنتيم، لكن الإجراءات الأمنية التي اتخذتها السلطات المغربية في 2019 كبدت المافيا خسائر كبيرة، حيث تراجعت أرباحها إلى 19 مليار سنتيم. قد يبدو هذا الرقم غير منطقي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عدد المهاجرين الواصلين إلى إسبانيا سنة 2019 بلغ 24 ألف مهاجر أو أكثر، لكن خبراء «فرونتيكس» يرون أن 19 مليار سنتيم يبقى رقما «محافظا»، مرجحين أن تتراوح الأرباح في الحالات القصوى ما بين 30 و35 مليار سنتيم. ويفسر التقرير الأوروبي تراجع أرباح المافيا سنة 2019 بارتفاع عدد المهاجرين غير النظاميين مقابل تراجع الآتين من إفريقيا جنوب الصحراء، «إذا أخذنا بعين الاعتبار أن معدل المهاجرين المنحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء (الذين يدفعون سومة مرتفعة جدا) انخفض، فيما ارتفع معدل المغاربة (الذين يدفعون أسعارا منخفضة أو لا يدفعون شيئا)…»، يقول المتحدث بسم «فرونتيكس»، وفق «إلباييس». من جهته، يرى الناشط المغربي المدافع عن حقوق المهاجرين، عمر الناجي، أن أرقام فرونتيكس «هي آلية لخدمة السياسة الأوروبية التي نرفضها نحن في مجال الهجرة. هذه الأرقام لا تقول إلا نصف الحقيقة، بل أكثر من ذلك لا تعطي تفسيرا للأسباب التي أدت إلى هذا الارتفاع في الأرباح. إنها مجرد أرقام وصفية». وانتقد عمر الناجي «سطحية معطيات فرونتيكس التي لا تدخل إلى عمق الأمور، والتي لا تفسر لنا لماذا وقع ذلك التحول في سنة 2017 من هجرة غير مؤدى عنها كانت تستقطب فقط المرشحين للهجرة الفقراء من إفريقيا جنوب الصحراء، إلى هجرة مؤدى عنها تحت مراقبة المافيات، ولا تستقطب فقط الطبقات الفقيرة، بل حتى المتوسطة والغنية، حيث يجب أن نعرف أن أغلب المهاجرين الأفارقة الذين يصلون إلى المغرب يأتون عبر الرحلات الجوية». مع ذلك، يقرُ التقرير بصعوبة إحصاء أرباح شبكات تهجير الشباب في المغرب والجزائر، نظرا إلى التباينات الواضحة في الأسعار، حيث إن سعر الرحلة الجوية يختلف عن سعر السفر في السفينة، أو الحريك على متن قارب الموت أو داخل تجويفات محدثة في سيارات مخصصة للتهريب، أو عبر استعمال وثائق مزورة. كما أن أسعار التهجير تختلف باختلاف الجنسيات، إذ إن المغاربة يدفعون أقل من الآتين من إفريقيا جنوب الصحراء للعبور إلى أوروبا، مثلا، على متن قوارب الموت، بحكم أن أغلب المغاربة لا يلجؤون إلى الشبكات المنظمة، بل إلى أشخاص ينظمون رحالات جماعية، وأحيانا قد تنسق مجموعة من الشباب فيما بينها لشراء وسيلة الحريك دون الحاجة إلى مهرب «محترف». ويبين التقرير أن سعر تهجير مرشح واحد سنة 2017 من السواحل المغربية إلى نظيراتها الإسبانية عبر بحر البوران أو مضيق جبل طارق كان يتراوح ما بين 10 آلاف و20 ألف درهم، لكن السعر ارتفع بشكل واضح ليصل في أواخر سنة 2019 إلى ما يزيد على 30 ألف درهم للمرشح الواحد، ما يعني أنه كلما اشتد الخناق على المهربين رفعوا سومة التهجير. بدورها، تقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن المغاربة يمثلون 21.4 في المائة من مجموع 60 ألف مهاجر وصلوا إلى إسبانيا، بحرا وبرا، سنة 2018، متبوعين بالغنيين ب20.9 في المائة، والماليين ب15.9 في المائة. وبررت صحيفة «إلباييس» الإسبانية ارتفاع أرباح شبكات تهجير البشر المستقرة بالمغرب منذ سنة 2017 بإغلاق البوابة الليبية الإيطالية التي كانت تعتبر إلى بداية 2018 البوابة الرئيسة للعبور إلى الفردوس الأوروبي. الهجرة غير النظامية بعد كورونا وأكد التقرير قدرة شبكات تهريب المهاجرين على التأقلم مع كل المستجدات، محذرا من إمكانية بدء هذه الشبكات في تنويع مشاريعها الإجرامية من خلال استثمار أموالها في مشاريع أخرى، حيث يشرح التقرير: «في المستقبل، يمكن أن تُوسع هذه الشبكات الإجرامية نشاطاتها غير القانونية لتشمل جرائم أخرى مثل غسل الأموال، والفساد، والتهريب»، علما أن خبراء أوروبيين دقوا ناقوس الخطر، أيضا، بشأن استغلال أباطرة المخدرات أزمة فيروس كورونا لغسل أموالهم عبر شراء المقاولات الصغيرة والمتوسطة المهددة بالإفلاس. في المقابل، يرفض عمر الناجي ما قاله التقرير بخصوص توسيع شبكة تهريب المهاجرين نشاطاتها لتشمل مجالات أخر، قائلا: «هذه محاولة للتخويف فقط، ومحاولة لشيطنة المهاجرين. لا أعتقد أن المافيا التي تشتغل في الهجرة يمكن أن تنتقل لفعل شيء آخر». وأضاف عمر أنها «ليست المرة الأولى التي تقول فيها «فرونتيكس» إن المافيا تتاجر كذلك في المخدرات، بل قالت ذلك في مرات سابقة، لكنها لم تثبت ذلك. فحتى السلطات المغربية والإسبانية عندما كانت تعترض سبيل المهاجرين في البحر، لم يسبق أن قالت إنها عثرت معهم على مخدرات». لذلك، يرجح عمر أن هدف فرونتيكس هو «محاولة خلط الأوراق، والتخويف لدفع الدول إلى اتخاذ تدابير أكثر صرامة لضرب حق الأشخاص في الهجرة المكفول دوليا، لأن فرونتيكس لم يسبق أن قدمت لنا دليلا على توقيف مهاجرين على متن قارب ومعهم مخدرات». وإذا كانت تقارير الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي ومراكز دراسات غربية، مثل المعهد الملكي الإسباني للدراسات الاستراتيجية، تذهب إلى أن إفريقيا ما بعد فيروس كورونا قد تشهد أزمات صحية واقتصادية واجتماعية؛ فإن الناشط عمر الناجي يقول إن أعداد المهاجرين الأفارقة لن تزداد بشكل كبير بعد الجائحة، وإنه لن تكون هناك تدفقات مهمة، مرجحا أن تظل «الأرقام كما كانت قبل الجائحة». كورونا ينتعش في المغرب وإفريقيا في الوقت الذي كانت تعتقد فيه القارة الإفريقية أنها سيطرت على فيروس كورونا المستجد، وأنها دخلت مرحلة التسطيح، إلى درجة أن بعض الدول، مثل جنوب إفريقيا، كانت شرعت في رفع الحجر الصحي تدريجيا؛ صدمت تقارير الرصد اليومي الأخيرة بعض الحكومات الإفريقية؛ إذ إن الأرقام بدأت ترتفع بدل الاستقرار أو التراجع. وأصبحت القارة الإفريقية على مشارف السبعين ألف مصاب، بعد تسجيل مساء يوم أول أمس الاثنين 67 ألف مصاب، و2330 هالكا. لكن تبقى المعطيات المقلقة قاريا -والمستقرة دوليا- هي تلك التي سُجلت يوم أول أمس الاثنين بجنوب إفريقيا برصد 637 حالة إصابة جديدة، وفي غانا ب437 حالة جديدة، ومصر ب346 حالة جديدة، والمغرب ب218 حالة جديدة. وهي الدول التي تجاوزت عتبة 200 حالة جديدة في 24 ساعة، فيما سجلت في الجزائر 168 حالة جديدة فقط. هكذا يظهر أن الجائحة تواصل تفشيها في إفريقيا، إذ تحتل جنوب إفريقيا المرتبة الأول ب10015 مصابا، متبوعة بمصر ب9746 مصابا، والمغرب ب6282 مصابا، والجزائر ب5891 مصابا، ونيجريا ب5000 مصاب، وغانا ب4293 مصابا، فيما لم تتجاوز بقية الدول عتبة 3000 مصاب، ما يجعلها تقريبا في المرحلة الأولى من مواجهة الفيروس. وبخصوص عدد الوفيات، احتلت مصر المرتبة الأولى إفريقيا ب533 هالكا، متبوعة بالجزائر بنحو 507 متوفين، وجنوب إفريقيا بنحو 194 هالكا، والمغرب، رابعا، ب188 هالكا، ثم نيجيريا ب143 هالكا، والكاميرون ب114 هالكا، فيما لم تتجاوز بقية الدول عتبة 100 هالك. أما في ما يخص المتعافين، فقد حلت جنوب إفريقيا في المرتبة الأولى ب4173 متعافيا، متبوعة بالجزائر ب2841 متعافيا، والمغرب ب2811 متعافيا، تليه مصر ب2172 متعافيا، فيما لم تتجاوز بقية البلدان عتبة 2000 متعاف، ويفسر ذلك بكون أغلبيتها لم تتجاوز 2000 مصاب، وفق نتائج الرصد اليومي ليوم أول أمس الاثنين. علما أن تفشي الفيروس بدأ يتجه إلى التراجع في دول مثل تونس وموريتانيا ومالي ومالاوي.