“نغوغي واثيونغو”، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفة والمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: “تفكيك استعمار العقل”، يدافع “واثيونغو”، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتى تتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل. لا يمكن أن تناقش اللغة في الأدب الإفريقي نقاشا ذا معنى خارج سياق تلك القوى الاجتماعية التي جعلتها موضوعا يسترعي اهتمامنا ومشكلة تستدعي حلا في الآن عينه. من جهة أولى، ثمة الإمبريالية التي تواصل، في مراحلها الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، تجنيد الإفريقي ليشرع في قلب التربة، ووضع غمائم على عينيه لتجعله يرى الطريق أمامه كما حددها السيد، مسلحا بالإنجيل والسيف. بعبارة أخرى، تواصل الإمبريالية مراقبة اقتصاد إفريقيا وسياستها وثقافتها. لكن من جهة ثانية، تقابلها كفاحات الشعب الإفريقي الدؤوبة لتحرير اقتصاده وسياسته وثقافته من تلك القبضة الأورو- أمريكية الخانقة ليدخل حقبة جديدة من التنظيم الذاتي الجماعي وتقرير المصير. إنه نضال متواصل على الدوام من أجل استرجاع مبادرتهم الإبداعية في التاريخ عبر مراقبة فعلية لكل وسائل تعريف الذات الجماعية في الزمان والمكان. إذ يكتسي اختيار اللغة وطريقة استعمالها مكانة مركزية في تعريف شعب ما لنفسه في علاقته بالكون برمته. من هنا، ظلت اللغة تحتل صميم الجدال بين القوتين الاجتماعيتين المتنافستين في إفريقيا القرن العشرين. بدأ الجدال منذ مائة عام، عندما التقت القوى الرأسمالية سنة 1884 في برلين، وجزأت قارة برمتها ذات شعوب وثقافات ولغات متنوعة إلى مستعمرات مختلفة. يبدو أن قدر إفريقيا في امتلاك مصيرها دائما ما تقرّر في الموائد المستديرة بعواصم العالم الغربي؛ ذلك أن انغمارها من مجتمعات تحكم نفسها إلى مستعمرات تقرر في برلين، وأن انتقالها الحديث العهد إلى مستعمرات جديدة على امتداد الحدود ذاتها كان موضوع مفاوضات في الموائد ذاتها في لندن وباريس وبروكسيل ولشبونة. فالتقسيم الذي جرى في برلين، الذي مازالت إفريقيا تعيش في ظله، كان اقتصاديا وسياسيا على نحو واضح، رغم ادعاءات دبلوماسيين من حملة الإنجيل، لكنه كان تقسيما ثقافيا أيضا. إذ شهدت برلين سنة 1884 تجزيء إفريقيا إلى مختلف لغات القوى الأوروبية، حيث عُرِّفت البلدان الإفريقية، باعتبارها مستعمرات، بل ومستعمرات جديدة اليوم، مثلما تعرف نفسها بلغات أوروبا: البلدان الإفريقية الناطقة بالإنجليزية، أو الناطقة بالفرنسية أو الناطقة بالبرتغالية. بكل أسف، انتهى الكتاب، الذين ينبغي أن يرسموا الطريق للخروج من ذلك القيد اللغوي في قارتهم، أيضا إلى أن يعرَّفوا ويعرِّفوا أنفسهم انطلاقا من لغات الفرض الإمبريالي. إذ ظلوا، حتى في مواقفهم الأكثر راديكالية والأكثر تعبيرا عن الانتماء الإفريقي، يعتبرون الفكرة القائلة إن نهضة الثقافات الإفريقية تكمن في لغات أوروبا فكرة بديهية. وجب أن أفهم. في سنة 1962، استدعيت إلى ذلك اللقاء التاريخي للكتاب الأفارقة في كلية جامعة ‘ماكيريري' بكامبالا الأوغندية. تضمنت لائحة المشاركين أهم الأسماء التي أصبحت اليوم موضوع أطاريح دراسية في جامعات عبر العالم كله. ماذا كان العنوان؟ “مؤتمر الكتاب الأفارقة ذوي التعبير الإنجليزي”. كنت حينئذ طالبا في الشعبة الإنجليزية بكلية ‘ماكيريري'، وهي كلية تابعة لجامعة لندن تقع وراء البحار. ما لفت انتباهي، أساسا، هو بعض الاحتمال بلقاء ‘تشينوا أتشيبي'. كنت أحمل معي مسودة مطبوعة غير مصقولة من رواية قيد التشكل، عنوانها “لا تبك، أيها الطفل”، وأردته أن يقرأها. كنت أنهيت، في السنة التي سبقت، 1961، رواية “النهر الفاصل”، ورشحتها لمسابقة في الكتابة، كان ينظمها مكتب الأدب الإفريقي الشرقي. ظللت أحدو حدو “بيتر أبراهامز” في نتاج رواياته وسيره الذاتية من “طريق الرعد” إلى “أخبر الحرية”، يليه “تشينوا أتشيبي” بروايته “الأشياء تتداعى” المنشورة سنة 1959. وكان لهؤلاء نظراء في المستعمرات الفرنسية، حيث ضمن جيل “سيدار سنغور” و”دافيد ديوب” في الطبعة الباريسية من “أنطولوجيا الشعر الزنجي والمالغاشي الجديد الناطق بالفرنسية” الصادرة موسم 1947- 1948. إذ كتبوا جميعا باللغات الأوروبية، كما كان حال كل المشاركين في ذلك اللقاء الجليل بتل “ماكيريري” في “كامبالا” سنة 1962. لقد استبعد العنوان “مؤتمر الكتاب الأفارقة ذوي التعبير الإنجليزي”، بشكل تلقائي، من يكتبون باللغات الإفريقية. والآن، أستطيع أن أرى، وأنا أنظر إلى الماضي من قمة مساءلة الذات سنة 1986، أن هذا الأمر كان يسع انحرافات عبثية. كان بمقدوري، وأنا طالب، أن أتأهل لحضور اللقاء بناء على قصتين قصيرتين منشورتين فقط هما: “شجرة التين” (موغومو) في جريدة “بينبوينت” الطلابية، و”العودة” في مجلة جديدة هي “ترانزيشن”. لكن لا شعبان روبرت، الذي كان حينها أعظم شاعر حي في شرق إفريقيا، حيث كان في رصيده العديد من الأعمال في الشعر والنثر بلغة “سواحيلي”؛ ولا “تشيف فاغونا”، الكاتب النيجيري العظيم صاحب العديد من العناوين المنشورة بلغة “يوروبا”، تأهل للحضور.