يمكن استكمال السؤال أعلاه لنضيف إليه أسماء أدباء، روائيين تحديدا، كتبوا بلغة مستعمرهم: هل ينبغي إحراق روايات و كتب إدريس الشرايبي المغربي الذي ألف بالفرنسية؟ وكاتب ياسين ومولود فرعون مالك حداد الجزائريون الذين ألفوا بالفرنسية؟ و نديم غورسيل التركي الذي كتب بالفرنسية؟ و وول سوينكا النيجيري الذي يكتب بالإنجليزية؟ و الكيني نغوجي واثيونغو الكيني الذي كتب بالإنجليزية ، قبل أن يقلع عنها و يعود للكتابة بلغة الكيكويو في روايته "تويجات الدم"؟ و اللبناني أمين معلوف الذي يكتب بالفرنسية؟ و إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الذي كتب بالإنجليزية، اللغة نفسها التي فكك بها إمبريالية الثقافة؟ و سلمان رشدي الهندي الذي يكتب بالإجليزية، المهدور الدم من طرف الخميني؟ نعيد طرح هذا السؤال، الذي طرح في الماضي بشذوذات غير معقولة و غير مقبولة من طرف كتاب اللغة العربية الذين كانوا يربطون بين اللغة الأجنبية، لغة المستعمر، وبين استمرار استعمار العقل باستمرار الكتابة بلغة المستعمر. ولنعترف اليوم، بأنه أصبح قضية غير مطروحة لا في الادب و لا في السياسة، رغم استمرار و تفاقم التواطؤ الكلي بين الإمبرياليات و الثقافة. ورغم تصاعد ما يشبه الثورات ضد هذه السيطرة الامبريالية في كل العالم، كما أبرزها أعظم كتاب في هذا المجال وهو "الثقافة و الإمبريالية" للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي ميز بين الامبرياليات و الإمبراطوريات. فالإمبراطورية الفرنسية مثلا لم تكن تهتم كالبريطانية، بالربح و العبيد، "وهذا ما أفقدها عبقريتها". ربما سنبقى نعدّد الأسئلة حول أدب وطني كتب بلغة أجنبية، بلغة مستعمر سابق، وهي أسئلة من المشروع أن أن تطرحها ثقافة المستعمرات القديمة المتحررة التي تسعى إلى ابتكار روح جديدة، و إزالة ما أسماه المفكر الأمريكي "القشرة المتصلبة المتقبّلة من العهد الاستعماري". لكن لقف أيضا عند كون نشوة اجتياز الحدود و الكتابة و البحث و الحديث باللغات هي من أهم نشوات عصر ما بعد الاستعمار. و هذا، في الواقع، أمر أكثر تسييسا من غيره. إذن، السؤال هو: كيف أمكن الإيمان سابقا، وربما اليوم أيضا، بأن كل أدب مكتوب بلغة أجنبية غير العربية (واللغات الأخرى في بلدان أخرى) هو أدب غير وطني؟ أدب اجتاز حدوده و ليس له الحق في العودة؟ (لنذكر هنا تلك السلسلة التونسية "عودة النص" التي سهرت على ترجمة الرواية المغاربية المكتوبة بالفرنسية). و هذه أسئلة مؤرقة في الآداب اللغوية المعروفة: الفرانكفوني، الأنكلفوني و الإسبانفوني. بعد أن أصبحت هذه الآداب بمثابة تشكل متين للثقافة الوطنية و للآداب المكتوبة بلغتها الأم. إننا لنجد أنفسنا مثقلين بسؤال مؤرّق: كيف أن عملا كبير القيمة جماليا و فكريا قد يكون جزءا من تشكل مهدّد، أو قسري، أو مضاد بعمق للأدب و الفكر؟. وهنا يصف إدوارد سعيد أن سلمان رشدي، الذي يكتب بغير إحدى اللغات الهندية، كان حتى قبل نشر آيات شيطانية عام 1988 شخصية إشكالية بالنسبة للإنجليز بفضل مقالاته و بفضل رواياته السابقة، غير أنه، بالنسبة للكثيرين من الهنود و الباكستانيين في إنجلترا، كان مؤلفا مشهورا يعتزون به. أما بعد الفتوى فقد تغير مقامه تغيرا بالغا و غدا لعنة ناقعة في نظر معجبيه السابقين. و نفس الشيء يمكن طرحه بالنسبة للطاهر بنجلون، فغير أنه كاتب مغربي يكتب بالفرنسية، فهو ساع استثنائي إلى التثاقف، و مؤلف منافح عن حقوق المهاجرين، و ممثل للإسلام "المغربي". لكن أصوات الاحتجاج ترفع ضده ما ان يكتب عن معتقل تازمامارت آو عن الخادمات.إضافة إلى تبرم الكتاب، أبناء بلده خصوصا، حين يرد اسمه على قائمة نوبل للآداب. أي أنه بمعنى ما، ومعه الصفريوي، و الشرايبي، وسرحان، و الخطيبي...،خالق للروح الوطنية الجديدة. وقد نطرح سؤالا سبق أن طرحه عبد الفتاح كيليطو بخصوص أدب أحمد الصفريوي: بأي لغة كتب الصفريوي؟ ليجيب إنه كتب بالغة العربية، و ليس بالفرنسية كما يبدو في الظاهر اللساني. لقد دخل الكتاب المغاربة باللغات العالمية، ولا حاجة إلى ذكر الأسماء، كما هم الكتاب باللغة العربي، فضاء المتخيل العالمي أو العبر-قومي. وكل جهد قائم اليوم من أجل مغربة المغربي، على قياس نزعة أفرقة الإفريقي، هو جهد مضحك، لأن الجوهر لا يمكن أن يظل جوهرا. و قد أكد إ.سعيد، في حالة الأدب الأنكلوفوني، أن محاولة تشخيص وضع هذا الأدب ظلت غير مستندة إلى اطلاع واسع، ومتسمة بالخشونة و أدواتية هدفها الموافقة والإقرار أو الرفض و الإنكار، و"تشجيع حميّة وطنية تكاد تكون عمياء بالمعنى الحرفي". لقد ولّدت خشونة الموقف من الأدب المكتوب بلغات الإمبراطوريات ضحايا عقليين و لغويين كثر. خسرت نشاطا وذكاء. فإلى حدود الأمس لم يكن أحد في المغرب يقبل بأن يتولى الكتاب الذين يؤلفون باللغة الفرنسية رئاسة مؤسسة اتحاد كتاب المغرب، أو بيت الشعر. وقد ترك لهذه الفئة فضاءات جمعوية و مؤسساتية ذات طابع مقارن أو لساني أو معجمي، في المغرب كما في الجزائر و تونس و لبنان و مصر... هذه إحدى مخلفات الزوابع الأخيرة لما أسماه أمين معلوف "هويات قاتلة". مخلفات هذه الزوابع هي التي تجعل الطاهر بنجلون متهما، مع صدور كل رواية، بتغريب المجتمع المغربي، و تجعل أمين معلوف كاتبا "فرنكفونيا"( لا يحب هذه الكلمة لأنها تستعمل للتمييز بين كاتب فرنسي و كاتب غير فرنسي باللغة الفرنسية) لم يستطع كتابة رواية واحدة عن الحرب الأهلية في بلده لبنان. و بقي ينظر إليه بكونه مواطنا لبنانيا يصنع مستقبله خارج بلده. و هي الأسباب أيضا التي جعلت أدب الصفريوي لم يترجم لليوم، و أدب إدريس الشرايبي يترجم في جو من الفوضى لولا سهر المركز الثقافي العربي على إعادة روايات الشرايب إلى لغتها عبر ترجمتها ترجمة دقيقة، وهي الأسباب و الدوافع التي جعلت هذا الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية غير مبرمج في البرامج التعليمية في مختلف الأسلاك. فهذه الأفعال، هي تحريف لتاريخ الأدب. لنقرأ هذا الأدب فهو يخاطب الإنسان و يتوجه إلى الذاكرة و المخيلة. لنتأمل هذا الاعتراف لأمين معلوف:" إنني لبناني و فرنسي و لكن ليس في الطريقة نفسها. هناك انتماء عقلاني و انتماء غير عقلاني، عاطفي، وجداني أو عفوي." لنقرأ أيضا غينيوا أتشيبي أو مالك حداد وهم في مرتفعات التساؤل عن الهوية الأدبية و التاريخية (و السياسية؟) لما يقومون به. و لا أدل على موقفهم الرامي إلى أن اللغة الفرنسية، كالإنجليزية و الإسباية و الإيطالية، هي لغات طبيية للوساطة الأدبية و حتى السياسية بين شعوبهم و القارات الأخرى. الفرنسيون أيضا يتحملون مسؤولية تأزيم الأدب الفرنسي الذي كتبه كاتب غير فرنسي. و مصطلح "فرنكفونية" استعمل لهذا الغرض. أما نحن فعلينا تخطي هذا الوهم القاتل و التساؤل، كما تساءل الكيني "نغوجي واثيونغو": كيف نستفيد أكثر من الألسنة المستعارة كيف نستطيع إغناء لغتنا؟ كيف نثري ألسنة أخرى؟ كيف ننتمي إلى الأدب؟ كيف نسائل الجمالية الروائية؟ و الجواب لن يكون بكل تأكيد مجرد فعل بسيط من أفعال التراكم بل فعل، فكل ذلك الأدب المكتوب بغير لغتنا من طرف كتابنا مدعّم و معزّز، وربما أيضا هو مفروض. أدبنا المغربي المكتوب باللغات، علينا الاهتمام به وترجمته و تأطير الأسئلة بخصوصه، فربما قد جاء لإنقاذ الآداب المكتوب بالعربية.