في وقت تشير أرقام وزارة المالية إلى استمرار اشتغال عدد من فروع النشاط الاقتصادي، خاصة الصناعات الاستخراجية والغذائية والكيميائية وقطاعات الاتصالات والخدمات المالية، ما يمثل نسبة 41 في المائة من الناتج الداخلي الخام غير الفلاحي، كان التوقف مصير عدد كبير من القطاعات التي وجد العاملون فيها أنفسهم في وضعية توقف اضطراري عن الشغل بسبب التخوف الرسمي من تفشي جائحة كورونا، ومن ضمنها قطاعات تنتمي إلى القطاع غير المهيكل، وهو التوقف الذي قد يستمر إلى نهاية رمضان الذي يعرف عادة حركية كبيرة يعول عليها كثيرون لزيادة مداخيلهم. وحسب آخر الأرقام الصادرة من مندوبية التخطيط، ففي بداية شهر أبريل لوحده، صرحت ما يقارب 142 ألف مقاولة أي ما يعادل 57 في المائة من مجموع المقاولات أنها أوقفت نشاطها بشكل مؤقت أو دائم، حيث أن أزيد من 135 ألف مقاولة اضطرت إلى تعليق أنشطتها مؤقتا، بينما أقفلت 6300 مقاولة بصفة نهائية. وحسب الفئات، تشير المعطيات المضمنة في البحث إلى أن نسبة المقاولات التي أوقفت نشاطها بصفة مؤقتة أو دائمة تشمل 72 في المائة من المقاولات الصغيرة جدا، و26 في المائة من المقاولات الصغرى والمتوسطة، و2 في المائة من المقاولات الكبرى. البيانات التي جمعتها مندوبية التخطيط عبر استطلاع شمل 4 آلاف مقاولة تفيد بأن الوضعية الراهنة خلفت تداعيات على التشغيل، حيث قد تكون 27 في المائة من المقاولات اضطرت إلى تخفيض اليد العاملة بشكل مؤقت أو دائم. كما جرى تخفيض ما يقارب 726 ألف منصب شغل، أي ما يعادل 20 في المائة من اليد العاملة في المقاولات المنظمة. وبلغت هذه النسبة حسب فئة المقاولات، 21 في المائة لدى المقاولات الصغيرة جدا، و22 في المائة بالنسبة إلى المقاولات الصغرى والمتوسطة، و19 في المائة بالنسبة إلى المقاولات الكبرى. من جهة أخرى، فإن أكثر من نصف عدد العاملين المتوقفين عن العمل، أي 57 في المائة، ينتمون إلى المقاولات الصغيرة جدا، والصغرى والمتوسطة. قدرة استهلاكية رهينة الجائحة.. لا يختلف تقييم المختصين حول حقيقة تأثر الاقتصاد الوطني هذه السنة، على اعتبار أن العديد من القطاعات الاقتصادية توقفت بشكل جزئي أو كلي، وهو ما سينعكس سلبا على مستوى عيش فئات عريضة من المواطنين، رغم التدابير التي اتخذت على صعيد لجنة اليقظة الاقتصادية وانطلقت منذ أزيد من شهر، إذ شملت آلاف المغاربة وضمنهم منتمون إلى القطاع غير المهيكل. ويتزامن دخول الحجر الصحي الشامل شهره الثاني مع بداية شهر رمضان، الذي يعرف تغييرات في عدد من القطاعات الإنتاجية التي تزيد في العادة من وتيرة اشتغالها، ومنها قطاعات المخابز ومحلات البقالة والمجمعات التجارية، باختلاف أحجامها، فضلا عن قطاع النقل للأفراد وللبضائع، وهو ما سيتسبب لا محالة في تراجع مداخيل أولئك الذين يعولون على شهر الصيام لزيادة دخلهم سواء عبر زيادة نشاط اشتغالهم، أو عبر خلق مهن مرتبطة بالعادات الاستهلاكية للصائمين. وفضلا عن تراجع رقم معاملات هذه الأنشطة، يتوقع أن يجري تسجيل تراجع في معدلات الاستهلاك التي تشهد ارتفاعا ملموسا خلال هذه الفترة، خاصة في المنتجات الغذائية، بالنظر إلى تغير العادات الغذائية للمغاربة مع تراجع الدخل بشكل كبير، وأيضا تراجع مستوى الادخار. أرقام أخرى صدرت قبل أيام عن مندوبية التخطيط تهم الفصل الأول من هذه السنة، تشير إلى أن عدد الأسر التي استنزفت مدخراتها أو لجأت إلى الاقتراض ارتفع إلى 32,5 في المائة، ولا يتجاوز معدل الأسر التي تمكنت من ادخار جزء من مداخيلها 4,8 في المائة، وهذا يؤثر على قدرة فئات واسعة من المغاربة بخصوص زيادة معدل استهلاكها خلال الأشهر المقبلة، وضمنها رمضان. وفي هذا الصدد، يرى إدريس الفينا، الخبير الاقتصادي، أن “الأزمة التي خلقها فيروس كورونا أترث بشكل أساسي على القدرة الشرائية للأسر اعتبارا لأن عددا كبيرا من الأسر المغربية لا يشتغل أربابها في الوظيفة العمومية، التي يبلغ عدد المنتسبين إليها 9 في المائة فقط، وبالتالي، فجزء كبير من المغاربة تقلصت قدرتهم الشرائية، وهذا سيؤثر سلبا على العادات الاستهلاكية التي يشهدها شهر رمضان. ولهذا، فرمضان هذه السنة سيتميز بالتأكيد بتدني القدرة الشرائية للمواطنين، واستهلاك أقل مقارنة بالفترات السابقة من رمضان”. الفينا أضاف أن القطاع غير المهيكل يعرف شللا تاما خلال فترة الحجر الصحي، والسلطات فطنت إلى أنه مصدر لانتشار الوباء، ولهذا يتوقع أن تتراجع الأنشطة الموسمية التي تظهر في هذا الشهر الفضيل، وقد يلجأ بعض أصحاب المهن إلى طرق بديلة لتصريف منتجاتهم التي يكثر عليها الطلب في رمضان، من بينها التوصيل المنزلي ولو أنها تبقى بشكل محدود”. وتشير البيانات المتوفرة بخصوص الاقتصاد غير المهيكل إلى أنه يوفر 2.4 مليون فرصة عمل، ويبقى بذلك مزودا مهما لسوق الشغل، إضافة إلى أنه يمثل أكثر من 21 في المائة من الناتج الداخلي الخام، دون احتساب القطاع الأولي أي الفلاحة. الأرقام تشير، أيضا، إلى أن 54 في المائة من حصة الاقتصاد غير المهيكل موجودة بقطاع النسيج والألبسة، و32 في المائة في قطاع نقل البضائع عبر الطرق، و31 في المائة في قطاع البناء والأشغال العمومية، ثم 26 في المائة في قطاع الصناعة الغذائية والتبغ. إلى ذلك يرى إدريس الفينا، الخبير الاقتصادي، “أن تجربة الحجر الصحي التي يعيشها المغرب هي فرصة لإعادة النظر في عدد من الأمور المتعلقة بالاقتصاد، في اتجاه إيجاد حلول للقطاع غير المهيكل عبر إدماج المشتغلين فيه ضمن الاقتصاد المهيكل، والرفع من مستوى دخلهم”، مضيفا “أن القطاع غير المهيكل موجود في عدد كبير من الدول حتى الأوروبية وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تنتشر أنشطة تجارية غير مهيكلة دون أن تنضبط بالضرورة للمعايير الصحية المطلوبة أو تؤدي جبايات”. رمضان من دون جائلين؟ .. رغم أن قرار السلطات العمومية بتطبيق الحجر الصحي على عدد من الأنشطة الاقتصادية لم يشمل الأسواق والمتاجر والمجمعات التجارية والمطاعم التي توفر خدمة توصيل الطلبات للمنازل، إلا أنه لا يمكن سوى ملاحظة خفوت الحركية التجارية التي تسبق عادة الشهر الفضيل، حيث تكثر الأسواق العشوائية وعربات الباعة الجائلين الذين يعرضون أنواعا مختلفة من المأكولات الرمضانية حتى لا يكاد يخلو منها أي زقاق. وتقدر إحصائيات رسمية غير محينة عدد الباعة الجائلين في المملكة بزهاء 300 ألف بائع يعيلون حوالي مليون ونصف المليون نسمة، كما أن هذا النشاط يمثل حرفة بالنسبة إلى 60 في المائة منهم، وتزيد أعدادهم بشكل كبير خلال رمضان أو مواسم الأعياد. ويرى البعض أن ما يحدث الآن، بسبب الحجر الصحي، يزيد معاناة آلاف الأسر المغربية التي تراجع دخلها أو فقدانه تماما، اللهم من المبالغ التي تقترحها لجنة اليقظة الاقتصادية، والتي تتراوح بين 800 و1200 درهم بحسب عدد الأشخاص في كل أسرة، وهي المبالغ التي ما تزال شريحة واسعة من المنتسبين إلى القطاع غير المهيكل لم تتوصل بها بسبب تعقيدات المساطر المعتمدة لصرفها. ومقابل هذا، يعتقد كثيرون أن التجربة غير المسبوقة التي يعيشها المغرب، على غرار باقي دول المعمور، هي فرصة لتقوية الاقتصاد الوطني عبر تنظيم عدد من المهن وتمكين أصحابها من فرصة العبور إلى أنشطة اقتصادية مهيكلة بقيمة مضافة أعلى من تلك التي توفرها الأنشطة الموسمية، وهو ما يتطلب، حسب إدريس الفينا، إجراءات أكبر ترتبط بدرجة قوة اقتصاد كل بلد. يقول الخبير الاقتصادي في هذا الصدد: “مسألة التخلص من القطاع غير المهيكل هي مرتبطة بدرجة قوة الاقتصاد الوطني، والحال أن اقتصادنا يصنف في درجة أقل من المتوسط، وسيكون من الصعب على عدد من الأنشطة التي تعمل بالقطاع غير المهيكل أن تختفي بشكل سريع، وسيظل جزء كبير من المغاربة يمتهنون هذه الأنشطة، خاصة أن جل من يعملون في الأنشطة المرتبطة بمواسم مثل رمضان هم سكان البوادي وهوامش المدن ممن يجدون فرصة لتوفير مداخيل يعاد ضخها في المناطق التي قدموا منها، وطالما توجد اختلالات مجالية واختلالات طبقية ومع استمرار تدني القدرة الشرائية، وعدم قدرة القطاع غير المهيكل على خلق مناصب كافية للشغل، فسيكون من الصعب القضاء على القطاع غير المهيكل كمكون اقتصادي في المغرب”. وتشير دراسة سابقة كشف خلاصاتها الاتحاد العام لمقاولات المغرب بشأن تأثيرات الاقتصاد غير المهيكل، أنه يؤدي إلى خصاص في العائدات بالنسبة إلى الدولة، بما فيها خصاص في مداخيل الضرائب، وفي الاشتراكات الاجتماعية، كما يؤدي إلى خصاص في عائدات المقاولات المغربية، حيث تُسبب فارقا كبيرا في التنافسية والسعر من خلال عدم دفع الضرائب والرسوم، بما في ذلك الضريبة على القيمة المضافة. من جهته، يرى بوعزة خراطي، رئيس جمعية حماية المستهلك، أن تجربة الحجر الصحي هي فرصة مواتية لتطبيق ما كانت تنادي به جمعيات حماية المستهلكين، في ما يخص ضرورة تنظيم الحرف وعدم استمرار الأنشطة غير الهيكلة. وما تقوم به السلطات العمومية من تدابير في الوقت الراهن، هو فرصة سانحة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وإيجاد بديل للقطاع غير المهيكل”. خراطي يضيف: “فعلا، هناك ضرر يشهده الحرفيون ممن تعودوا استغلال فرصة رمضان للاشتغال في حرف موسمية، لكنها في المحصلة تبقى غير خاضعة للمراقبة وتفتح الأبواب لترويج مواد غير صالحة للاستهلاك، ولهذا فهي فرصة سانحة لتشجيع المستهلكين على التوجه للمحلات المرخصة والخاضعة للمراقبة والتي تضمن جودة تحمي سلامتهم”. “استمرار الحجر الصحي، بالطبع، سيؤثر على مستوى اشتغال عدد من القطاعات الإنتاجية، لكن السلطات حسمت في أمر عدد من القطاعات التي فرضت عدم توقفها واستمرت في أداء مهامها، من قبيل المخابز والمحلات التجارية التي طور بعضها خدمات جديدة فرضتها وضعية الحجر الصحي، ما سيمكن من إرساء ثقافة استهلاكية جديدة تقطع مع ما كان معمولا به في السابق، وبقيمة مضافة أعلى”، يختم خراطي.