إثر قرار وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي تعليق الدراسة إلى إشعار آخر، وتعويض الدروس الحضورية بالدروس عن بعد، لضمان استمرارية التحصيل الدراسي، أثيرت تساؤلات بالجملة حول مدى نجاعة التعليم عن بعد، خصوصا أنه لم يكن هناك استعداد مسبق لهذه الخطوة. بعد مرور أزيد من أسبوع على هذا القرار، المصحوب بعدد من الإجراءات التي اتخذتها الوزارة، من قبيل تخصيص القناتين الرابعة والرياضية لبث الدروس، وإعادة البث في نهاية الأسبوع للذين فاتهم متابعه، واتفاقها مع شركات الاتصالات لولوج منصاتها باستثناء الفيديوهات مجانا، إلا أن الكثير من المهنيين يرون أن هذا غير كاف، خصوصا أن الدروس التي توفرها المنصات الإلكترونية للوزارة جلها عبارة عن «فيديوهات»، ما يعني أنه رغم مجانية ولوج تلك المنصات، فإنها لن تكون ذات فائدة. دروس غير تفاعلية رغم إقرار المغرب التعليم عن بعد بديلا مؤقتا لتوقف الدراسة بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذها من أجل وقف انتشار فيروس كورونا، وهي الخطوة التي اعتبرها المهتمون بالشأن التعليمي والأسرة التعليمية وأولياء الأمور إيجابية، فإن تنزيلها لم يخلُ من اختلالات كثيرة أعاقت، في كثير من الأحيان، تنزيل البرنامج. وحسب أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بالمحمدية، عبد النبي الحري، فإن «منظومتنا التربوية لم تكن مهيأة لخوض هذه التجربة بما تتطلبه من وسائل ومعدات وتقنيات متاحة للتلاميذ والطلبة والمدرسين والأساتذة الجامعيين»، مضيفا أنه «بسبب حالة الطوارئ المفاجئة التي فرضها انتشار فيروس كورونا، كنا جميعا مضطرين، وزارة ومؤسسات وأساتذة ومتعلمين، إلى أن نشتغل بالإمكانيات المتاحة منها». واعتبر الحري أن «هذا في حد ذاته أمر جيد، بصرف النظر عن الاختلالات التي قد ترافق تنزيله، مادام قد سد فراغا تربويا وتعليميا في بلادنا». ويرى الحري أن الاكتفاء بتسجيل دروس جاهزة، سمعية-بصرية أو مرقونة، مسألة معيبة حسب كل الأدبيات البيداغوجية الحديثة والمعاصرة، ومرد ذلك، وفق ما أكده المتحدث ذاته، كونها لا تحمل من مواصفات الحصة الدراسية الجامعية إلا الاسم، ذلك أن الدرس الجامعي، على سبيل المثال -ويمكن قول الشيء نفسه عن أي درس في أي سلك تعليمي- ليس جملة أفكار تلقَّن للطالب، وإنما هو كائن حي، ينمو ويترعرع ما بين بداية كل حصة وحتى نهايتها، مرورا بكل فقراتها المختلفة. وتابع الأستاذ الجامعي أن «ما يكون في حوزة الأساتذة من وثائق وأدوات، هو مجرد وسائل يلقونها في بحر الحصة كي تحرك مياه وأمواج التفاعلات الطلابية المختلفة، التي تعتبر العمود الفقري لبناء الدرس الجامعي بالمعنى القوي للكلمة، لأن الدرس يبنى ولا يلقى جاهزا، وفي عملية البناء هذه، يعد الجهد الطلابي عنصرا حاسما ورئيسا». نقص في الإمكانيات في الوقت الذي أكدت وزارة التربية والتكوين والتعليم العالي حرصها على توفير الإمكانيات الضرورية لإنجاح التعليم عن بعد عن طريق إنشاء منصات رقمية لتسجيل الدروس، وكذا بث دروس مسجلة في القناة الرابعة والرياضية، فإن الحري يعتبر أن الكيفية التي يبنى بها اليوم الدرس البيداغوجي بالمواصفات الحديثة لا تفي بهذا الغرض، قائلا: «نحن نحتاج إلى الكثير من الاجتهاد من أجل عقلنة هذه العملية، من خلال التوسل بالتطبيقات التي تتيح إمكانيات تفاعلية حية ومباشرة، والتي تتيحها التطورات الهائلة في مجال التقنيات الرقمية، كما يقتضي الأمر جعل ولوج الأنترنت ممكنا، خاصة بالنسبة إلى الفئات المعوزة من أبناء الشعب». بالإضافة إلى هذا يقول المتحدث ذاته: «يجب تخصيص ميزانيات فرعية للمؤسسات التربوية والجامعية يكون شعارها حاسوب أو لوحة إلكترونية لكل طالب، محملة بالتطبيقات التي تعتمدها الوزارة والمؤسسات الجامعية، والتي يمكن أن يستغلها بكل مجانية كل المتدخلين في العملية التعليمية-التعلمية: طلبة وأساتذة وإداريين». وأضاف الحري أن رجال التعليم يبذلون مجهودات جبارة من أجل سد الفراغ المهول في مسألة التعليم عن بعد بإمكاناتهم الذاتية ووسائلهم الخاصة. من جهته، يرى عبد الرزاق الإدريسي، الكاتب العام للجامعة الوطنية للتعليم، في حديثه إلى «أخبار اليوم»، أن نجاح التجربة يتطلب إمكانيات، أولها تكوين وتأهيل الموارد البشرية، وإخضاعها لتكوينات في هذا الشأن، وهو ما لم يحدث، كما يجب توفير التجهيزات الرقمية والتكنولوجية ومجانية الأنترنت لولوج المنصات التعليمية. ودعا الإدريسي الوزارة إلى معالجة الاختلالات المجالية المترتبة على إجراءات مواجهة جائحة فيروس كورونا وانعكاساتها الأكثر أثرا في المناطق والأحياء المهمشة، ووضع برامج لمساعدة الفئات الاجتماعية الأكثر تضررا، وذلك من خلال توفير وتأهيل البنيات الرقمية حماية لما تبقى من الموسم الدراسي، وتوفير الحواسيب واللوحات الإلكترونية للتلاميذ والطلبة المعوزين، والعمل على تحقيق المساواة بين كافة المناطق، والتركيز على الفئات الشعبية الفقيرة في البوادي والمدن. واعتبر المسؤول النقابي أن «التعليم عن بعد لا يمكن أن يعوض التعليم في الأقسام والمدرج، والعلاقة المباشرة بين الطالب والأستاذ»، مؤكدا أن هذا غير كاف، وأن على الدولة أن تبذل مجهودا أكبر في ما يخص البرامج ومنصات التعليم عن بعد». ارتجالية في التنزيل أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بالمحمدية، عبد النبي الحري، ورغم أنه يثمن تجربة التعليم عن بعد، فإنه يرى أنت تنزيلها إلى حيز الفعل والواقع تشوبه فوضى وارتجالية وممارسات عشوائية، حيث يجد التلاميذ والطلبة أنفسهم أمام كم هائل من الإرساليات الصوتية والوثائقية، بعضها للأسف غير مرقون حتى، ويضطرون إلى التعامل مع عدة تطبيقات، حسب كل مدرس أو أستاذ، قد لا تستوعبها القدرة الاستيعابية لقرص هاتفه أو حاسوبه الصلب، فضلا عن استهلاك عملية تحميل التطبيق رصيد الويب الذي قد لا يتعدى عند الغالبية تعبئة دراهم معدودات». واعتبر الأستاذ الجامعي أن الوضع الحالي «يكشف أننا تأخرنا كثيرا في إدماج التكنولوجيات الرقمية في منظومتنا التربوية، وهو ما يقتضي وقفة جادة من الفاعلين التربويين والجامعيين، في المستقبل»، داعيا كل مؤسسة تربوية، أو جامعية، إلى توحيد التطبيق الخاص بها، حتى لا يضيع التلميذ والطالب بين تعددها، وأن يعقلن استعمالها، حتى لا نسجن الأطفال خاصة أمام الهواتف والحواسيب طيلة اليوم، لما في ذلك من ضرر على صحتهم البصرية والعقلية»، كما دعا وزارة التعليم إلى دفع شركات الاتصالات إلى جعل تطبيقات معينة، خاصة بالعملية التعليمية، مجانية التنزيل والاستعمال. من جانبه، اعتبر الإدريسي «هذه الخطوة التي اتخذتها الوزارة خطوة ارتجالية لم يجر التحضير لها مسبقا، وهو الأمر الذي دأبت عليه الوزارة»، موضحا أن الآلاف من أبناء المغاربة لم ينخرطوا بعد في التعليم عن بعد، ما ينعكس سلبا على تحصيلهم الدراسي. وتابع أن الدروس المقدمة في القناة الرابعة غير كافية، وأن الحيز الزمني لكل حصة ضيق، وهو ما يتسبب في صعوبة فهم التلاميذ لما يقدم في تلك الحصص، مع التركيز على الأقسام الإشهادية، وهو ما سينعكس سلبا على باقي المستويات، بالإضافة إلى أن الدروس المخصصة للطلبة الجامعيين عرفت تأخرا في بثها، ما ضيع عليهم أسبوعا من الدراسة»، يقول الإدريسي. امتعاض أولياء الأمور وقد عبر العديد من الآباء والأمهات عن عدم رضاهم عن برامج التعليم عن بعد، معتبرين أن البرامج التي جرى إعدادها في منصات التعليم عن بعد غير مفيدة ولا تعوض المناهج التي كان يتلقاها التلاميذ في الأقسام. وترى «س. ط»، وهي أم لطفلين يدرسان في إحدى المدارس الخاصة، أن هناك العديد من المدارس التي لم تقم بمجهود لتقديم برامج مفيدة للتلاميذ، موضحة أن «المواد التي توضع في الموقع الإلكتروني ينهيها ابناها في نصف ساعة، فيما تضطر هي لتدريسهم خارج ما يطرح على المنصات الإلكترونية»، مشيرة إلى أن «بعض المدارس العمومية تقدم محتوى جيدا، وتقدم البث المباشر مع الأساتذة طوال اليوم». وأضافت المتحدثة ذاتها أنه «رغم المحتوى الضعيف، فإن المدرسة راسلتها من أجل أداء مستحقات شهر مارس»، مضيفة أنهم «يطلبون حضور الآباء للأداء بشكل مباشر لأنهم لا يتوفرون على حساب بنكي، وهو ما يخالف توجيهات السلامة». من جانبها، قالت سناء لقويطي، وهي صحافية وأم لثلاثة أطفال، إن المدرسة التي يدرس فيها أبناؤها، وهي مدرسة خصوصية، أنشأت قناة على منصة «يوتوب»، ووضعت درسين فقط لابنها البكر الذي يدرس في السنة أولى بكالوريا، أما ابنتها التي تدرس في السنة الثالثة إعدادي فقد خصصوا لها هي الأخرى درسين فقط»، مضيفة أنه من المفروض أن «يكون التركيز منصبا على أصحاب السنوات الإشهادية عوض الابتدائي». بدوره، قال عمر القادري، الأب لأربعة أطفال يدرسون في المدرسة العمومية، إنه يجب صعوبة في أن يجعل أطفاله يتابعون الدروس التي تبث على القناة الرابعة»، مضيفا أنه «لا يمكن يتابع أطفاله الدروس في المنصة الرقمية لأن ليس لديهم أجهزة رقمية، بالإضافة إلى أن أغلب الدروس توضع في صيغة فيديو، في حين أنه يتعذر عليه توفير الأنترنت بشكل دائم»، مشيرا إلى أنه «يجب تعويض التلاميذ بعد انتهاء حالة الطوارئ». في الشأن ذاته، عبرت إحدى الطالبات في جامعة عبد المالك السعدي عن عدم رضاها عن الدروس المقدمة من خلال التطبيق الذي أعدته المؤسسة التي تدرس فيها، حيث قالت إن كل الدروس المنشورة عبارة عن محاضرات ورقية، وليست هناك دروس مصورة للأساتذة يشرحون للطلبة، خصوصا المواد التي تحتاج إلى الفهم والشرح»، مضيفة أن «بعض المواد يتجاوز عدد صفحاتها 200 صفحة، والطالب مطالب بدراستها كلها وحده»، متسائلة عما إذا كان الأساتذة سيعوضونهم عن الوقت الذي توقفت فيه الدراسة». الرقمنة والأستاذ ويعتبر العديد من المهتمين بالشأن التعليمي أن التعليم عن بعد لا يمكن من التواصل بشكل جيد بين التلميذ والأستاذ، خصوصا أن هذه التجربة مازالت جديدة في المغرب، ولم توفر جميع الوسائل التقنية لإنجاحها، ويفسر عبد الواحد النقاز، الباحث في علم الاجتماع، العلاقة بين التلميذ والأستاذ، قائلا: «ظلت المدرسة عقودا طويلة ذات طبيعية هرمية، بمعنى أنها مؤسسة محددة جغرافيا وزمنيا، وأن علاقة المعلم بالمتعلم علاقة هرمية أساسها سلطة المعرفة التي يمارسها مالك المعرفة، أي الأستاذ، على فاقدها وطالبها، أي التلميذ، غير أن الثورة الرقمية باتت تنذر بتحول عميق في العملية التعليمية مع وفرة المعلومات في زمن الأنترنت، إذ قلصت من سلطة الأستاذ ومن هيمنته المعرفية». وأضاف النقاز أن «المعلومات باتت متوفرة بشكل مذهل، كما أن توفر الحواسيب الخاصة وللوحات الرقمية أثر في علاقة السلطة بين التلميذ والمعلم». ويرى الباحث في علم الاجتماع أن «الإجراء المتخذ اليوم في إطار التدابير الاحترازية لمواجهة جائحة كورونا هو نتيجة حتمية لمستقبل التعليم الذي سيتحول بشكل تلقائي إلى التعليم عن بعد، مع توسع استعمال الأنترنت ودمقرطة التكنولوجيا الرقمية»، وأضاف قائلا: «في اعتقادي أن هذا التمرين هو فرصة للحكومة من أجل التفكير بشكل جدي في إقرار منظومة موازية للتعليم الرقمي تعوض أزمة التعليم الفيزيائي الذي بات يكلف إمكانيات ضخمة مادية وبشرية لم تعد الدولة قادرة عليها». وأبدى النقاز تشاؤمه من نجاح التجربة قائلا: «حتى لا نكون مفرطين في التفاؤل، هذه التجربة لن تؤتي نتائج ذات قيمة نظرا إلى سرعة تنزيلها، وعدم وجود الإمكانات لدي الفئات الهشة والمعدمة»، موضحا أن «أرقام الاشتراك في الأنترنت ومعدل الفرد المغربي في امتلاك الحواسيب الخاصة تعكس ضعف النتائج التي سوف يجري تحصيلها بنظام التعليم عن بعد، كما أن الأساتذة الممارسين حالياً ليست لهم الخبرة الكافية في إنتاج محتوى رقمي تعليمي يؤدي أدواره التعليمية والبيداغوجية».