وأخيرا أصبح التعليم الرقمي أو التعليم عن بعد مطلبا ملحا للأساتذة والإداريين التربويين والتلاميذ وطلبة الجامعات بمختلف دول العالم بعدما تفشى فيروس كورونا، وأرغم الجميع على حجر شبه طوعي أو مفروض حسب حالة كل بلد، وهكذا تابعنا كيف تمكنت الصين وبكفاءة تحسد عليها من تمكين تلاميذها متابعة دروسهم في بيوتهم عن طريق منصات رقمية تعرض دروسا يومية وتمارين تقويمية بنفس تسلسل منهاج العام الدراسي وكأن المتعلم في قسمه أمام أستاذه وليس في منزله وراء شاشة حاسوب. تجربة قلدتها بلدان أخرى كالإمارات العربية المتحدة وباقي دول الخليج وسارت على نهجها دول أوروبا كإيطاليا وفرنسا وإسبانيا التي اضطرت لإغلاق مدارسها بعدما ضرب الوباء الجديد بقوة. إنها إذن فرصة تاريخية غير مسبوقة تخرج من رحم الأزمة الوبائية العالمية لتفتح أعيننا على تعليم جديد ومبتكر سيطبع المستقبل القريب لشكل التدريس المستجد من خلال الانتقال من تعليم السبورات والكتب والدفاتر والأقلام إلى تعليم الشاشات والآلات والتطبيقات التفاعلية الذكية والحوسبات السحابية، وسيغير بالتأكيد دور الأستاذ والمتعلم في علاقاتهما التفاعلية داخل الفصول وخارجها ودور المدرسة ككل في منظومة التكوين. وزارة التربية الوطنية المغربية وبعدما قررت توقيف الدراسة بجميع الأقسام والفصول بمختلف المؤسسات التعليمية العمومية منها والخصوصية ومؤسسات التكوين المهني والمؤسسات الجامعية والمعاهد التربوية تجد نفسها ملزمة بتفعيل التعليم عن بعد، وستكون هذه أول تجربة حقيقية وواقعية لتقييم وضع التعليم الإلكتروني بالمغرب ومدى فعالية برنامج جيني لإدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال والذي استهلك ميزانية ضخمة منذ إقراره، وكذا فرز أجود الحزم التعليمية والموارد الرقمية والتطبيقات الجوالة المصادق عليها من طرف المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب التي ستنال رضا الطلبة والتلاميذ والأطر التربوية والآباء أثناء محنة كورونا، إضافة إلى تركيز الضوء على مراكز البحث التربوي بالوزارة وملحقاتها الجهوية التي لا يسمع لها ضجيج تربوي بالمرة، وملاحظة جودة أعمال المركز المغربي الكوري للتكوين في تكنولوجيا المعلومات والاتصال ومركز الإعلاميات بمنظومة إدارة الإعلام والتي توجت بخلق فضاء تفاعلي للأساتذة والتلاميذ، ومنصة تعليمية رقمية TelmidTICE تضم عددا كبيرا من الدروس والتمارين المصورة تتيح لأكبر عدد من التلاميذ متابعة واجباتهم المدرسية في بيوتهم سواء من خلال الاتصال بالأنترنت أو عبر القناة التلفزية الرابعة المتاحة للجميع. وحبذا لو تم تخفيف ما تبقى من المنهج الدراسي بكل المستويات التعلمية والإبقاء فقط على التعلمات الأساسية الرئيسية التي لا غنى عنها لاستيفاء الكفايات الضرورية ودمج الحصص الدراسية والمجزوءات المتبقية، وإصدار صيغ متفق عليها بذلك حتى يتمكن جميع المتعلمين من اجتياز اختباراتهم النهائية بكل ثقة وآمان. ولأن اللحظة ليست للمجاملة أو التزويق فواضح جدا أن وزارة التربية الوطنية أضاعت الكثير من الوقت كان بالإمكان استغلاله اليوم حينما لم تبادر منذ سنوات إلى توزيع اللوحات الرقمية على سبعة ملايين متمدرس وتعميم الحواسيب الشخصية على الطلبة الجامعيين بتقسيط مريح زمن الوزير بلمختار، وكيفما كانت تكلفة مثل هذه الصفقات وضغوط أرباب المكتبات ودور النشر والطباعة وشراسة لوبيات المعدات التكنولوجية التي ظهر فسادها في افتحاصات البرنامج الاستعجالي المقبور وبعض مشاريع تحدي الألفية بنسخته المغربية، فإن ضريبة التخلف عن الركب التكنولوجي والرقمي العالمي الذي يسبقنا بعقود قد ترمي بنا إلى حافة الإفلاس التربوي التام. فالتعليم التفاعلي الإلكتروني اليوم ليس ترفا بيداغوجيا وإنما ضرورة ملحة تفرض نفسها، والأمر المستعجل في المنظور القريب بعد زوال أزمة كورونا والاستفادة من دروسها القاسية والأليمة هو تزويد كل تلميذ وتلميذة مغربية بلوح الكتروني وتطبيقات تفاعلية مجانية بها شرح للدروس صوتيا أو عن طريق مقاطع الفيديو وفق المنهاج الدراسي، وتتيح كذلك تحميل نسخ الكترونية منها للاستعمال خارج تغطية الأنترنت خصوصا بالبوادي، وهذه الخدمات التفاعلية ستثير حماسة المتعلمين وتلبي رغبتهم في الاكتشاف وتحفزهم للتعلم المثمر، وتمكنهم من قياس وتقويم مهاراتهم ومعارفهم ومكتسباتهم التعلمية،وتتيح لهم فرصا أكبر لدعم تعثراتهم وتقوية مواطن الضعف لديهم، وتنمي لديهم قدرات التحليل والتوصيف والتقويم والتفكير النقدي عوض الاقتصار على مهارات التذكر والاستيعاب والتطبيق التي يتيحها التعليم المدرسي الحالي ،دون أن ننسى طبعا تقوية شبكة الأجهزة المعلوماتية التي تخدم الحوسبة السحابية بالفصول الدراسية المغربية لقلة تكلفتها المالية وسهولة استخدامها وصيانتها، وتكوين الأساتذة ليتمكنوا من حسن التعامل مع المستجدات المعلوماتية والأجهزة الحديثة والخيارات التقنية التي تتيحها بما فيها صيانتها حتى لا تتكرر عطالة الحواسيب التي زودت بها الثانويات والمدارس منذ سنوات حتى أصابها الصدأ وعفى عليها الزمن. ولأن الجامعات المغربية مقبلة على تفعيل نظام البكالوريوس ابتداء من الموسم المقبل وما يتيحه من فرص حقيقية للتعليم الالكتروني، فهي مدعوة بقوة لدعم برامج التعليم عن بعد لرفع جودة التكوينات بها ،وذلك بطرح محاضرات مصورة عبر الانترنت مرفوعة على خوادم سحابية لأجود أساتذتها المتخصصين في مجالهم ،وفصول دراسية ودورات تكوينية تفاعلية عبر البث الحي من خلال تقنية الفيديو التي تسمح بالتفاعل الآني بين الطلاب والأساتذة ،ومواد دراسية للتحميل يمكن الإطلاع عليها في أي وقت ،وتقويمات واختبارات مباشرة لتحديد مستويات تحقيق الكفايات والمهارات المرجوة والإشهادات النهائية،إضافة إلى خلق شراكات مع جامعات دولية تدعم هذا النوع من التعليم البعدي بمستويات جودة عالية بدول كالولايات المتحدةالأمريكية وبريطانيا تتبنى بدورها نظام البكالوريوس،وعقد اتفاقيات مع أكبر الشركات العالمية بمجال التقنية مثل ميكروسوفت وانتل وكوالكوم وسامسونغ وغيرها للاستفادة من استثماراتها العملاقة في هذا السوق الحيوي البكروالضخم للتكيف مع احتياجات سوق العمل المحلي والدولي والتي تتغير بسرعة كبيرة وفي زمن قياسي ،اجراءات ان فعلت ستعطي لشهادة البكالوريوس المغربية قيمتها المعترف بها دوليا و ستجعل الطالب المغربي مسلحا بالمهارات الضرورية اللازمة للتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية والتي أعطتنا جائحة كورونا صورة مصغرة عنها .