لقد أجمعت كل التشخيصات والتقييمات الوطنية والدولية المنجزة مؤخرا على أن الإصلاحات المتعاقبة على منظومة التربية و التكوين لم تعالج إشكالية النموذج البيداغوجي للمدرسة المغربية، حيث أنها لم تصل بعد إلى الفصل الدراسي، وبالتالي لم تمس المكونات الأساسية الثلاثة للعملية التعليمية التعلمية ( التلميذ،الأستاذ ،المنهاج الدراسي). مما انعكس سلبا على التحصيل الدراسي للتلميذات والتلاميذ وأدى إلى ضعف المستوى التعليمي وبالتالي تدني المردودية التربوية لمنظومة التربية و التكوين. في هذا السياق عملتمديريةالمناهجبوزارةالتربيةالوطنية والتكوين المهني علىإعدادمشروعمنقحللمنهاجالدراسيالخاصبالسنواتالأربعالأولىللتعليمالابتدائي. استجابة "للتجديدوالتطويرالمستمرينللمناهجالدراسيةوملاءمتهامعالمستجداتالمعرفيةوالتربويةوالتنموية،وتجاوبامعالطلبالمجتمعيالمتزايدمنأجلتعديلالبرامجوتعزيزنجاعتهاووظيفيتها،وعملاعلىتحقيقالتغييرالذييضفيدلالاتجديدةعلىوظائفالمدرسةوعملالمدرس)ة(" لابد في البداية من الإشادة بهذا العمل القيم والهام الذي يندرج في سيرورة الإصلاحات التربوية التي عرفتها بلادنا وفي صلب التغيير و التجديد التربوي المنشود . كما نؤكد في هذا الصدد على أن الملاحظات والإضافات والتصويبات المقترحة في هذه الورقة، لا تنقص من القيمة العلمية للمشروع، ولا من المجهودات المهمة المبذولة من قبل مديرية المناهجبوزارةالتربيةالوطنية؛ بل الهدف الأساسي من تقديم هذه الملاحظات، هو المساهمة في إغناء وإثراء مشروعالمنهاجالدراسيالمنقح الخاصبالسنواتالأربع الأولىللتعليمالابتدائي في أفق تحسينه وتجويده . قراءتنا للمشروع ستنتظم في شقين: الشق الأول متعلق بملاحظات على مستوى المنهجية والمقاربات المعتمدة وعلى مستوى المضمون والمحتوى. أما الشق الثاني فهو مرتبط ببعض الملاحظات التفصيلية حول المشروع. على مستوى المنهجية والمقاربات المعتمدة في المشروع لقد اعتمد معدو المشروع على منهجية نسقية مندمجة تتقاطع فيها مجموعة من المقاربات: - مقاربة الترصيد والتراكم: مفاهيم التنقيح والتحسين والتجويد الموجودة في مضامين المشروع تحيلنا إلى اعتماد الوثيقة على منهجية مبنية على مبدأ البناء والتراكم من خلال ،من جهة ، ترصيد كل ما راكمته تجربة إصلاح المنهاج من مكتسبات وإيجابيات وكل ما راكمته الممارسات الصفية من خبرات تربوية وبيداغوجية وتدريسية مجددة. ومن جهة أخرى، تصحيح وتصويب ومعالجة ما شابت هذه التجربة الإصلاحية من اختلالات وقصور ولا سيما كل ما يتعلق بضبابية الرؤية المنهاجية للمدرسة (خصوصا التعليم الإبتدائي) ، وعدم تماسك نسقها التكويني، ووجود ثغرات عميقة على مستوى وضعها البيداغوجي و الديداكتيكي. - المقاربة التشاركية : حيث أنه لأول مرة يتم إشراك الفاعلين المباشرين جهويا إقليميا ومحليا من خلال تكوين فرق عمل ميدانية، وعبر عقد لقاءات جهوية وإقليمة ومحلية خلال شهر يونيو 2015 مع أساتذة ومفتشي التعليم الإبتدائي وأساتذة المراكز الجهوية لمهن التربية و التكوين. ومن المرتقب أن تستمر هذه اللقاءات خلال السنة الجارية. على خلاف تجربة الإصلاح السابقة حيث اقتصر الإشراك فقط على بعض الفاعلين على المستوى المركزي وبعض المتدخلين الجهويين. - المقاربة التواصلية:تم الشروع في تنفيذ استراتيجية تواصلية حول المشروع من خلال عقد مجموعة من الاجتماعات التواصلية مع المدبرين الجهوين والإقليميين. قدمت فيها عروض تفصيلية حول المشروع. كما تم اعتماد التواصل الإلكتروني التفاعلي عبر فتح مسطحة إلكترونية في وجه جميع الفاعلين والمعنيين والمهتمين للإدلاء بمساهماتهم و أرائهم واقترحاتهم في الموضوع. والمأمول هو الإسثمارالأمثل لهذه الإقتراحات في أفق إغناء وثيقة المشروع. - التجريب والتقييم: تم تحديد عينة من المدارس الإبتدائية على صعيد كل أكاديمية جهوية التي سيشملها تجريب السيناريوهات البيداغوجية الجديدة خلال الموسم الدراسي2015 /2016 في أفق تعميمه في الموسم الدراسي الموالي. إلا أن اختيار عينة التجريب بدأ يطرح ميدانيا بعض الصعوبات والتساؤلات: لماذا تم تقليص العينة من 10 % على مستوى كل أكاديمية (والتي كانت مبرمجة سابقا ) إلى بضع مؤسسات تعليمية على صعيد كل جهة؟ ما هي المعايير المعتمدة لاختيار عينة التجريب؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار العينة تمثيلية تعكس واقع المؤسسات التعليمية (حوالي 8000 مؤسسة ابتدائية) بمختلف خصوصياتها (قروي حضري…)؟ وهل العينة المختارة يمكن أن نعتمدها كمقياس موثوق يمكن يفيدنا في مرحلة التقييم؟ على مستوى مضمون ومحتوى المشروع قد تم تنظيم وثيقة مشروع المنهاج الدراسي المنقح للتعليم الابتدائي في قسمين . القسم الأول يهم الإطار التوجيهي العام ويضم الاختيارات والتوجهات الوطنية والغايات الكبرى لنظام التربية والتكوين، والمهام الرئيسة للمدرسة الوطنية الجديدة وأدوار شركائها. وكذا الاختيارات البيداغوجية في مجال القيم، وفي مجال مواصفات الولوج إلى سلك التعليم الابتدائي ومواصفات التخرج منه. وأيضا في مجال المقاربة البيداغوجية، وفي مجال المضامين وتصريف البرامج الدراسية من خلال طرائق التدريس والكتب المدرسية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال، وفي مجال التخطيط وتنظيم الدراسة، وفي مجال التقويم والإشهاد والتكوين والبحث التربوي. أما القسم الثاني فيضم التنظيم الجديد للبرامج الدراسية الذي يتوزع على ثلاثة مجالات: - مجال اللغات: الذي يقدم تصورا موحدا للتعلم والتدريس وفق منطق التكامل بين مهارات الاستماع والتواصل الشفهي والقراءة والإنتاج الكتابي؛ - مجال الرياضيات والعلوم: الذي يقدم تنظيما جديدا ومحينا لمفردات البرنامج وفق المعايير المعتمدة دوليا وفي توافق تام مع السياق المغربي وحاجات متعلم المدرسة الابتدائية؛ - مجال التنشئة الاجتماعية والتفتح الذي يضم التربية الإسلامية والاجتماعية والفنية والبدنية: الذي أصبح يركز أكثر على الكفايات والمواصفات المتوخاة في نهاية الأربع سنوات الأولى للسلك الابتدائي ويقدم التصور التربوي للأنشطة الفنية والبدنية والرياضية. وعموما فإن النموذج البيداغوجي الذي جاء به المشروع ينتظم في إطار هندسة متناسقة في مجملها .إلا أنه عند قراءتنا المتأنية للمشروع يتبين لنا وجود اختلالات على مستوى التوازن بين بعض مكونات هذه الهندسة المقترحة وخصوصا الحيز المخصص لكل مجال. وكمثال على ذلك ، يمكن الإشارة إلى ضعف الحيز المخصص في المشروع لمجلات مهمة ومفصلية كمجال التقويم والإشهاد. وكذا الحيز المخصص لمجالي التكوين الأساس والمستمر والبحث التربوي بالمقارنة مع الحيز المخصص لباقي المجالات الأخرى. بعض الملاحظات التفصيلية رغم أهمية وثيقة مشروع المنهاج الدراسي المنقح الخاصبالسنواتالأربع الأولىللتعليمالابتدائي، فإننا وقفنا على مجموعة من الملاحظات، نورد أهمها: فبخصوص الإختيارات والتوجهات الوطنية سواء في مجال الإختيارات الإستراتيجية أو في مجال التربية والتكوين، تمت الإشارة فقط إلى مقتضيات الدستور. وتم إغفال مجموعة من المرجعيات الأساسية منها: - الخطب الملكية المتعلقة بإصلاح التعليم خصوصا الخطب الملكية الأخيرة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب 2012 و2013؛ - الميثاق الوطني للتربية والتكوين باعتباره أهم وثيقة لإصلاح منظومة التربية و التكوين أجمع وتوافق عليها مختلف الفاعلين والفرقاء والمتدخلين والمهتمين بالمجال التربوي ببلادنا؛ -الرؤية الإستراتيجية لإصلاح المدرسية المغربية التي أعدها المجلس الأعلى للتربية و التكوين والبحث العلمي والتي أفردت رافعة مهمة للنموذج البيداغوجي ، كما خصصت حيزا واسعا لعملية المراجعةالمنتظمةللمناهجوالبرامجوالتكويناتوفقمعاييرالجودة حيث نصت الرؤية الإستراتيجية في هذا المجال على أنه :"فيالمدىالقريب،وفيأفقالمدىالمتوسط،تتمهذهالمراجعةمسبوقةبتقييمشاملللمناهجوالبرامج والتكويناتالحالية،فياستحضارللوظائفالمرجعيةالمعرفيةلأطوارالتربيةوالتكوينالمشار إليهاأعلاه،وذلكفياتجاهالرفعمنجودةالتربيةوالتكوين،ووفقأهدافالتخفيفوالتبسيط والمرونةوالتكيف،معاعتمادثلاثةمقومات:المقومالمؤسساتي،المقومالتقييمي ،المقومالاستشرافي" وفي هذا الصدد، فإن بعض المهام الرئيسة للمدرسة الوطنية الجديدة الموجودة في الإطار التوجيهي العام للمشروع لا تتلائم مع ما هو منصوص عليه في وثيقة الرؤية الإستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين و البحث العلمي ، مما يطرح بحدة مسألة ملاءمتها. و في إطار تفعيل مقاربة الترصيد والتراكم لم تتم الإشارة في المشروع إلى وثيقة الكتاب الأبيض على الرغم من كونه من الوثائق والمراجع المهمة في أية عملية تتعلق بمراجعة المناهج . بالإضافة إلى ذلك، وهذه المرة بخصوص الإختيارات البيداغوجية المتعلقة بالإختيارت الوطنية في مجال القيم ، تم تسجيل ملحاحية العمل على مراجعة بعض الأهداف التربوية المنصوص عليها في المشروع. مثلا : على مستوى الشخصي للمتعلم ورد: "الإستقلالية في التفكير والممارسة، إعمال العقل واعتماد الفكر النقدي …." ، فإلى أي حد يمكن تحقيق هذه المواصفات لتلميذ في السنوات الأربع الأولى بالإبتدائي؟ أما فيما يتعلق بملمح المتعلم ومواصفاته في نهاية سلك التعلمي الإبتدائي ، فقد ورد في وثيقة المشروع ملمح : "أن يكون التلميذ مقدسا العمل حرصا على إتقان المهام المنوطة به"، وفي المواصفات : "القدرة على اختيار مجال العمل المرغوب فيه وما يتطلبه من مؤهلات" . وهذا في اعتقادنا لا يمكن تحقيقه في هذه المرحلة المبكرة بالنظر لسن التلميذ وقدراته وميولاته التي لم تنضج بعد. فعملية التوجيه التربوي في مرحلة السنوات الأربع الأولى من التعليم الابتدائي يمكن أن تقتصر فقط على اكتشاف بعض المهن و الإنفتاح عليها. أما عملية التربية على الإختيار فيمكن أن تدرج في المرحلة التعليمية الموالية . زيادة على ذلك، فإن بعض المفاهيم المدرجة في المشروع يمكن أن تشكل صعوبة بالنسبة للتلاميذ ، وكمثال على ذلك: الوحدات المبرمجة في النشاط العلمي المرتبطة بالعلوم الفيزيائية (القوى ، الطاقة، الصوت ،الفلك، الحركة، التوازن ، التحولات الفيزيائية والكيميائية… ) تتجاوز بكثير القدرات العقلية و الذهنية والمعرفية للتلميذ في السنوات الأربع الأولى من التعليم الابتدائي حيث لا يتجاوز سن التلميذ في هذه المرحلة تسع سنوات. في نفس السياق، تمت ملاحظة غياب الإشارة في وثيقة المنهاج المنقح إلى مستلزمات النجاح وإلى مجموعة من المخاطر المحدقة بالمشروع والتي إن لم يتم معالجتها في حينها ستشكل حجرعثرة أمام تنفيذ المشروع. وعلى رأس هذه المخاطر نجد : إشكالية الكلفة المالية لعملية التجريب وعملية التعميم؛ ضعف التعليم الأولي (شريحة مهمة من التلاميذ لم تستفد من التعليم الأولي خصوصا بالوسط القروي)؛انتشار الأقسام المشتركة خصوصا بالوسط القروي (حوالي 24 ألف قسم مشترك) ؛ ظاهرة الاكتظاظ خصوصا بالوسط الحضري ؛ الفوارق و الخصوصيات المجالية بين الحضري و القروي ؛إشكالية التأطير التربوي نظرا للخصاص المهول في المفتشين نتيجة إغلاق مركزي تكوين المفتشين؛ الخصاص في الموارد البشرية ( وصول عدد كبيرمن موظفي قطاع التعليم إلى سن التقاعد)؛ تكوين الأساتذة ( التكوين الأساس والتكوين المستمر)، ضعف فضاءات المؤسسات التعليمية خصوصا بالوسط القروي،ضعف الوسائل التعليمية والمعينات الديداكتييكية (إشكالية جودة الكتاب المدرسي نموذجا)… أما بخصوص الإختيارات والتوجهات في مجال المقاربة البيداغوجية ، فإننانثمن اعتماد المقاربة بالكفايات مدخلا بيداغوجيا للمنهاج الدراسي من أجل تحقيق الملامح والمواصفات الخاصة بالمتعلمات والمتعلمين وبلوغ غايات النظام التربوي،حيث نسجل أن المشروع حدد بكل دقة مبادئ المقاربة البيداغوجية وفق مدخل الكفايات. كما تم تحديد وتدقيق مفهوم الكفاية بكل بوضوح. وهذا لم يتم بهذه الكيفية في المراجعات السابقة للمنهاج الدراسي. وهكذا أصبح مفهوم الكفاية معرفا على الشكل التالي: "معرفة-التصرف الملائم والناجع٬ الذي ينتج عن تعبئة وتنظيم قدرات ومعارف ومهارات وقيم ومواقف بشكل مدمج لحل وضعيات مشكلة و/أو إنجاز مهمات مركبة في سياق معين ووفق شروط ومعايير محددة" كما تمت التأكيد في المشروع على أنه يمكن أن تتخذ الكفايات التربوية بعدا استراتيجيا أوتواصليا أومنهجيا أوثقافيا أوتكنولوجيا. وتجدر الإشارة في الأخير، إلى أن هذا المشروع تضمن إشارة جديدة تتعلق بانفتاح تفعيل المنهاج الدراسي، وفق مدخل الكفايات، على مختلف الصيغ التطبيقية والمناولات البيداغوجية التي أثبتت نجاعتها في إرساء مبادئ هذه المقاربة في ميدان التربية والتكوين وخاصة تلك التي تتوفر على الانسجام النظري والتماسك المنهجي. وهذا في اعتقادنا مستجد مهم على اعتبار أن النموذج البيداغوجي سيبقى منفتحا على كل المقاربات والأفكار والممارسات الصفية التي تدخل في خانة الإبداع والابتكار و الاجتهاد البيداغوجي. الشيء الذي سيمنح الأستاذ هامشا من الحرية يمكنه من تكييف دروسه واختيار مقارباته البيداغوجية والديدادتيكية حسب الوضعيات التربوية و الخصوصيات الصفية . وإجمالا، يمكن اعتبارمشروع المنهاج الدراسي المنقح الخاصبالسنواتالأربع الأولىللتعليمالابتدائي، محطة من محطات إصلاح النموذج البيداغوجي لمنظومة التربية و التكوين، من شأنه أن يساهم في عملية التغيير التربوي المنشود، ما دام ينطلق من الفصل الدراسي باعتباره النواة الأساس و محور العملية التعليمية التعلمية، وما دام يعتمد في جميع مراحل إرساءه على نهج المقاربة التشاركية مع كل الفاعلين التربويين والإداريين المباشرين، وفي مقدمتهم الأساتذة والمفتشون و الإدارة التربويةوأساتذة المراكز الجهوية لمهن التربية و التكوين، في إطار من الانسجام و التناغم التام، وذلك على جميع مستويات صناعة القرار التربوي محليا إقليميا جهويا ومركزيا.