لا اكتب الآن من باب الترف الفكري بل أكتب هروبا من زمن جديد نعيش تفاصيله اليومية بشكل ممل.. من الصعب جدا على أي إنسان أن يستوعب بسرعة هذا التغيير المفاجئ في نمط الحياة ،تغيير فرضه زمن “كورونا الجديد” هذا الإسم الموشوم في ذاكرة كل منا يشكل اليوم إرهابيا حقيقيا فرض علينا طقوسه وبرنامجه والزمنا بيوتنا في وضع إقامة جبرية دون محاكم ولا أحكام. كورونا يوزع الخوف بالتساوي على كل الناس دون تمييز ولامفاضلة ،وكأنه ينتقم منا جميعا ويريد ان نرى احجامنا كما هي في الواقع. لذا أكتب من وحي هذا الزمن العصيب هلوسات لوأد هذا الوقت الفائض من هذا الزمن اللعين الذي جعلنا نسكن بضم النون بغسل الأيادي وقياس درجة الحرارة كالمجانين أو التنصت على بعضنا البعض لسماع عطسة أو كحة كانت في الماضي متنفسا و اليوم أصبحت تهمة تؤدي بصاحبها إلى الحجر الصحي ولعزلة تامة عن العالم.. أي منطق هذا الذي نحن فيه وكيف لنا أن نعيد تكييف حياتنا مع هذا الوافد الجديد.. الكتابة حاليا هي مجرد تنفيس عن ذات محاصرة بالخوف أكثر من هذا الوباء نفسه، فجأة تحول الجميع إلى أطباء وعلماء نفس وفجأة أيضا انتبهنا متأخرين إلى أن هؤلاء هم من يحب أن يكونو صفوة المجتمع.. أين اختفى التافهون الآن ممن كانو بالأمس نجوما في السماء نحن من صنعناهم بجهلنا وغباءنا.. ألم تتفوق مي نعيمة في حصد ملايين المشاهدات في حين يجهل جيل بكامله من هو المهدي المنجرة أو عابد الجابري أو العروي!! هل ستعيد كورونا تربيتنا من جديد لترينا اخطاءنا في حق أنفسنا وفي حق هذا البلد ؟ ألم نكتشف الآن أن الإستثمار في الجهل طيلة كل هذه السنوات أنتج مجتمعا محكوما بالخرافة والشعودة؟ ألم تعري كورونا سوءات قطاعاتنا العمومية التي تتحمل الآن وحدها تبعات هذا الوباء اللعين.. أليس من الضروري أن نبني مستقبلا مجتمع مابعد كورونا بكل قيمه وقطاعاته الحيوية التي فوتناها للخواص لينهشوها في جشع تام؟؟ ألم نكن في الماضي نستهزء بالمعلمين وبمدارسهم العمومية ؟ فمن سينفعنا الآن بعد الله سوى ما أنتجته هذه المدرسة المعطوبة.. أليس المرابطون الأوائل في هذه المحنة سوى الأطباء والممرضين والأساتذة والامنيون بكل اصنافهم.. أين أختفى النجوم… ليس الزمن للعتاب ولا لتصيد الأخطاء لأننا جميعا ساهمنا بشكل او بآخر حتى بالصمت العاجز عن الكلام في هذا الوضع المتردي، ولعل كورونا رغم قساوته سيعيد ترتيب أولوياتنا في القادم من الأيام لنردد مع الكاتب الكبير انطونيو داماسيو في كتابه الرائع الشعور بما يحدث “إن العقل والوعي وحدهما القادرين على بناء المجتمعات القوية”. قيم كثيرة وجميلة ندرك أهميتها في هذه اللحظة بالذات لذا علينا معرفة حجم مأساة من فقدوها ظلما.. أليست الحرية الآن وحدها نعمة لاتقدر بثمن.. ألم يحدد كورونا فضاء تحركنا.. ألم نكتشف معه كم نحن تافهون خائفون وحيارى… ألم تتحول الثروات التي داس البعض منا في سبيل تحصيلها على كل القيم والمبادئ إلى مجرد رقم في خزنة البيت أو في حساب بنكي.. ألم يعد البقاء على قيد الحياة هو غاية المنى الآن..ألم نعد جميعا إلى الله صاغرين مستغفرين لأنه هو المنقذ الوحيد بعدما عجزت دولا كانت عظمى عن مجابهة هذا الوباء العالمي وأعلنت إفلاس الحلول الأرضية ولم يبقى سوى التوجه للسماء.. الآن فقط أتذكر والدي رحمه الله الذي كان يردد على مسامعي وأنا طفل صغير حين سألته بكل براءة سؤال طفل صغير “لماذا أنت زاهد في هذه الدنيا” قال لي مبتسما وبلكنة حسانية “الرفاهية والدين مايتلكاو اي لايلتقيان”.. بعبارة أكثر وضوحا المال الكثير ورغد العيش ينسينا علاقتنا بالله.. كم كان والدي صادقا حين كان يقول إن مايبقى وينفع هما العلم والأخلاق والسمعة الطيبة.. ونحن نعيش هذه اللحظات العصيبة كان لابد من ممارسة لعبة التذكر علها تنسينا قساوة هذه اللحظة التي يظل فيها الأمل في الله قائما ومستمرا.. ورغم كل هذا فلهذه الكورونا اللعينة وجه آخر اعادنا إلى حياتنا التي كنا قد فقدناها بفعل وتيرة الحياة لنا.. الآن وقت كاف للتأمل وإعادة النظر في حياتنا وفي علاقاتنا وطموحاتنا.. لقد ارجعتنا لاكتشاف أسرنا الصغيرة ولبناء علاقة جديدة مع المكان الذي كنا نسكنه دون أن نعرف تفاصيله الصغيرة ففي كل نقمة نعمة لامحالة.. كورونا وباء جائحة تعددت الأسماء والخوف واحد، ويبقى كل الأمل في المستقبل الذي هو بيد الله وحده.. والاكيد أن العالم كله سيعيد حساباته في ظل هذا الوباء وستكون هناك خريطة جديدة وقوى جديدة وأولويات جديدة.. عشنا حروبا ظالمة وتشريد وقمع لأغلب الشعوب المستضعفة واليوم نواجه فيروسا خفيا زعزع كل ثوابتنا ولا أعرف كيف وأنا أكتب متى قفزت لذهني صورة ذلك الطفل الصغير المذعور أمام قساوة البشر حين قال “سأخبر الله بكل شيء”.. لكلامه رمزية قوية فالله تعالى لايحتاج لمن يخبره لأنه علام الغيوب لكن حين يخبره طفل صغير بكل هذه البراءة عن فضاعات هذا العالم فالاكيد إن الأمر سيختلف..