حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ننشرها هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. كانت كلماتها تخرج بصعوبة بالغة وهي تتحدث إلي، لم تكف عن ترديد: «ليس الهدف من الحديث إليك هو أن أحملك وأحمل القراء هموما فوق همومهم، لكنني في أشد حاجة إلى الحديث، لأحس أنني لست لوحدي». ثم أضافت: لقد فقدت ابنتي وهي في عمر الزهور، ابنتي «آية» توفيت منذ سنة وهي لم تكمل الثانية عشرة من عمرها، ماتت بمرض السرطان، كم هو مؤلم فقدان الأحبة، رحمها الله ورحم موتى المسلمين جميعا والحمد لله على قضائه وقدره، لله ما أعطى وله ما أخذ، لا إله إلا الله وحده لاشريك له وختمت مقدمة حديثها معي قائلة: قال الله تعالى: «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام». ماذا أقول وكيف أعبر عن حزني وألمي على وفاة ابنتي وروحي، ما أصعب أن يتوفى الأبناء قبل الآباء، لحظة الفراق لحظة صعبة وأليمة، موجعة ومحزنة كلما وضعت رأسي على الوسادة لأنام أعيد ذكرياتي الجميلة رفقة صغيرتي وأعيد معه شريط حياتي. تنهدت عند تلك النقطة التي أوصلتها إليها ذكرياتها وقالت: كانت حياتي كلها سنوات سعادة لم أعرف فيها الحرمان أو المعاناة، كنت الابنة الوحيدة لأسرة ميسورة، فتاة وسط ثلاثة ذكور كنت أصغرهم، لذا استقبلت استقبالا حماسيا من قبل الجميع يوم رزق والداي بي. كانت حياتي هادئة، ورثت الجمال والذكاء عن والدي، كنت من الأوائل دائما في المدرسة وبعد إنهائي للتعليم الثانوي تسجلت في إحدى الجامعات الفرنسية لمتابعة دراستي، سافرت إلى هناك وتعرفت على زوجي الذي كان يدرس معي. مغربي ابن بلدي، اتفقنا، وتفاهمنا أحببنا بعضنا وعدنا إلى الوطن بشواهد عالية، حصل كل منا على فرصة شغل محترمة، سارت حياتنا مع بعض هادئة جميلة دون مشاكل ولا عقبات تعوق مشاريعنا وطموحاتنا. أتمر زواجنا بعد سنتين من الزواج «آية»و«عمر»، كانت حياتنا تسير على أفضل وجه ولم يكن ينقصنا شيء، كنت أظن أنني وصلت إلى كل ما أتمناه، تصورت أنني وصلت لأعلى قمم السعادة يوم حققت الاستقرار والنجاح ورزقت بالأولاد. لكنني للأسف فوجئت بأن كل ما حققته في حياتي ليس سوى قبضة ريح، وأنني أواجه قسوة فقدان فلذة كبدي. كان ذلك يوم ظهرت عليها أعراض المرض الأولى وهي في سن الحادية عشرة حين لاحظت انتشار بقع زرقاء على ساقيها أثارت قلقي لا أدري لماذا راودتني فكرة المرض اللعين، خطرت ببالي ولم أكن أريد أن أصدقها، لكن استقبال الطبيب لي وكلامه معي يومها بطريقة لا أثر كذلك فيها للابتسامة على وجهه أكد لي أنني على موعد مع الكارثة. زلزل الخبر كياني، لم تحملني قدماي عندما سمعت الخبر، سقطت على الأرض وظللت كذلك والحزن يفترسني، المرض الخبيث تسلل إلى جسد صغيرتي، أسئلة كبيرة رسمت علامات استفهام كثيرة في ذهني؟ لماذا أنا؟ لماذا حدث لي ذلك بالضبط؟ لماذا لم يحدث لفلان أو فلانة؟ لماذا اختار المرض ابنتي؟ شعرت لحظتها بالغضب الشديد والثورة على حظي التعيس. وصل زوجي بعد أن تم إخباره من قبل الطبيب، بدا شاحبا مهموما هو كذلك وإن ظل يحاول التخفيف عني ضممت صغيرتي إلى صدري، منظرها وهي تمرح وتضحك وتتحدث بكل براءة تعلو البسمة شفاهها وتكسو البهجة وجهها جعلني أتمالك نفسي. لم أكن أعرف أنني قادرة على التمثيل إلا في تلك اللحظات التي جمعتني بها فور تلقي الخبر، كنت أبذل جهودا حتى لا أحرمها أن تعيش طفولتها أحطتها برعاية تامة وبكل أنواع العاطفة والحنان. مرت الأيام والمرض يأخذ من صحتها ويضعفها شيئا فشيئا. أدخلت لمرات عدة إلى غرفة العناية المركزة، كانت تسقط مغشيا عليها وهي تلعب أو تقوم بأي مجهود ولو بسيط. كانت تدخل كذلك في غيبوبة تفيق منها تارة لتطمئنني على نفسها ببراءة الأطفال قائلة: «ماما لا تبكي أنا بخير» ثم تغيب من جديد، التعب والمرض جعل من وجهها المضيء وجها شاحبا شديد الاصفرار. بيتنا الذي كانت تملأه السعادة والطمأنينة أصبح مكفهرا. عشت لأيام على وقع المرض والمعاناة والألم. مرت بنا فترات عصيبة. كنت ألتفت إلى صغيرتي أصاب بالهول عندما أراها تبكي من الألم وليس بيدي ما أفعله لأجلها. حفر منظر لصغيرتي في عقلي حين رأيتها يوما ترفع يديها وتنظر بعينها إلى الأعلى تطلب من الله ألا تموت. رحلة العلاج كانت شاقة، العلاج الكيماوي كان يرهقها لكونه صعبا جدا، كنت أطمع في رحمة الله سبحانه ألا يحرمني منها. فكيف سأعيش بدونها، كنت أفتقدها لو غابت عني لحظة لكنني افتقدتها مدى الحياة، كنت أتساءل كيف سأعيش في بيت ستغيب عنه من كانت تملؤه بالفرح والضحك والابتسام. أين سأجد مجددا تلك الابتسامات؟ لكن مشيئة الله اقتضت أن تغادرنا رغم كل الجهد والكفاح لأجل إنقاذها. غادرتنا ورحلت لتتركني لوحدي في دنيا الآلام. كانت أياما عصيبة مؤلمة لم يسبق لي أن مررت بمثلها. يوم دفنتها لا أدري هل دفنتها أم دفنت قلبي وروحي، أحزان كثيرة عشتها منذ يوم فقدانها أعي بعضها وأنكر البعض الآخر. لكنني مع ذلك أعود دائما لأقول اللهم أجرني في مصيبتي، وأردد دوما إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل. فالمرض قدر والموت قدر لا مفر لنا منه.