يبدو أن الخلاف حول تجريم الإثراء غير المشروع في مشروع القانون الجنائي المعروض، حاليا، على مجلس النواب، بصدد أن يُحدث أزمة أخرى داخل الحكومة وبين مكونات الأغلبية البرلمانية. النقاش اليوم، يجري بين ثلاث رؤى: الأولى، وردت في مشروع القانون الذي صادق عليه المجلس الحكومي في يونيو 2016، ويتشبث بها حزب العدالة والتنمية، والتي تلح على أن يشمل تجريم الإثراء غير المشروع كل موظف عمومي ملزم بالتصريح بممتلكاته وأولاده القاصرين، إضافة إلى تشديد العقوبة بحيث تشمل الغرامة والمصادرة والحرمان من تولي الوظائف العامة، وتجعل إثبات براءة المتهم على المتهم نفسه، وليس على النيابة العامة. في المقابل، هناك رؤية ثانية تقول بأن يتولى المجلس الأعلى للحسابات إثبات تهمة الإثراء غير المشروع، وأن لا تكون المتابعة إلا بعد تقاعد الموظف أو انتهاء مدته الانتدابية، وهي رؤية يدافع عنها التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي والحركة الشعبية، علاوة على رؤية ثالثة انفرد بها حزب الاستقلال تؤكد على أن يشكل جريمة الإثراء كل موظف عمومي يتصرف في المال العام سواء كان ملزما بالتصريح بممتلكاته أو لم يكن ملزما، على أن يعاقب في أي اختلال يرتكبه بعقوبات تتراوح بين السجن النافذ والغرامة والمصادرة والحرمان من أي وظيفة أو مهمة انتدابية. تباين المواقف يكشف عن رهانات جعلت مشروع القانون الجنائي رهينة في مجلس النواب لمدة تزيد حتى الآن، عن أربع سنوات. مسار طويل من التعثر يعود القانون الجنائي المعمول به، حاليا، في المغرب إلى سنة 1962، وبالنظر إلى تطور المجتمع والدولة، وتطور سياسات التجريم والعقاب حول العالم، وتطور القانون الدولي، وخاصة القانون الدولي لحقوق الإنسان، فقد اقتضى هذا القانون عدة تعديلات وتغييرات بشكل مستمر. لكن عقب دستور 2011، الذي أقر حقوقا وحريات جديدة، جرى تشكيل هيئة للحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة، حيث أسفر النقاش العمومي بين مختلف الأطراف والفاعلين عن الحاجة إلى مشروع قانون جنائي جديد، وهي قناعة دعت إليها الحاجة إلى منطق جديد في التجريم والعقاب، يتماشى مع اتساع المجال العمومي، وتنامي الوعي الحقوقي لدى المواطن. في هذا السياق، كانت المحاولة الأولى لإجراء تعديل متكامل لمجموعة القانون الجنائي، حيث أعلنت وزارة العدل والحريات بتاريخ 31 مارس 2015 إنهاء صياغة مشروع قانون جنائي جديد يشتمل على 598 مادة. لكن ظهر أن النقاش حول القضايا الخلافية مثل الإجهاض والحريات الجنسية وحرية العقيدة، وكذا قرب انتخابات 7 أكتوبر 2016، دفع وزارة العدل والحريات إلى تغيير استراتيجيتها، حيث ارتأت انتقاء المواد الاستراتيجية، خصوصا التي لا تثير خلافات بين الفرقاء السياسيين، وتقديمها للنقاش على مستوى البرلمان. وهكذا جرت المبادرة إلى تقديم مشروع قانون رقم 10.16، بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي، يتضمن أحكاما بالتغيير والتعديل والنّسخ شملت 84 مادة، من مجموع فصول القانون الجنائي المعمول به حاليا. وبتاريخ 9 يونيو 2016، صادق المجلس الحكومي على مشروع القانون، وقد ورد في البيان الصادر عن المجلس الحكومي عبارة دالة تؤكد “وقد تمت المصادقة على هذا المشروع مع إعادة صياغة المادة 8-256، كما اعتمدها المجلس”، وبالرجوع إلى الصيغة الأولى التي أعدتها وزارة العدل والحريات، فإن المادة المشار إليها، أي 8-256، تنص على تجريم الإثراء غير المشروع، وتشمل كل موظفي الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية البالغ عددهم نحو 800 ألف شخص، إضافة إلى أزواجهم وأولادهم القاصرين، وعقوبات تشمل السجن من سنة إلى 5 سنوات، والغرامة المالية من 5 آلاف إلى 50 ألف درهم، مع مصادرة الممتلكات والحكم بعدم أهلية الموظف المدان بحكم قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به لتولي أي وظيفة عمومية أو مهمة انتدابية (انتخابية). لكن صيغة البيان الصادر عن المجلس الحكومي بتاريخ 9 يونيو 2016، تكشف أن الصيغة التي أعدها وزير العدل والحريات حينها، لم تحظ بالموافقة من قبل باقي مكونات الأغلبية الحكومية، وقد جرى الضغط من أجل تعديلها، لتخرج في صيغة جديدة هي تلك التي نص عليها مشروع القانون المحال على مجلس النواب بتاريخ 24 يونيو 2016، والتي وردت في الفصل 8-256 كما يلي: “يعد مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع، ويعاقب بغرامة من 100 ألف إلى مليون درهم، كل شخص ملزم بالتصريح الإجباري بالممتلكات، طبقا للتشريع الجاري به العمل، ثبت بعد توليه للوظيفة أو المهمة أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين الخاضعين للتصريح عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة، انطلاقا من التصريح بالممتلكات الذي أودعه المعني بالأمر، بعد صدور هذا القانون، مقارنة مع مصادر دخله المشروعة، ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة. علاوة على ذلك، يجب في حالة الحكم بالإدانة، الحكم بمصادرة الأموال غير المبررة، طبقا للفصل 42 من هذا القانون، والتصريح بعدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو المهام العمومية طبقا للفصل 86 أعلاه”. تكشف الصيغة الجديدة للمادة عن تغييرات عدة، من أبرزها أن المعنيين بجريمة الإثراء غير المشروع أصبحوا هم المعنيون بالتصريح بالممتلكات لدى المجلس الأعلى للحسابات وأولادهم القاصرين فقط، دون أزواجهم، وليس كل موظفي الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية كما في صيغة وزارة العدل المحالة على المجلس الحكومي، أكثر من ذلك جرى حذف عقوبة السجن، مقابل الرفع من الغرامة المالية، حيث أصبحت تتراوح ما بين 100 ألف ومليون درهم، مع الإبقاء على عقوبة مصادرة الممتلكات التي اكتسبها بطرق غير مشروعة، والحرمان من تولي الوظائف والمهام العمومية. إثر ذلك، أُحيل مشروع القانون رقم 10.16 المتعلق بتعديل وتغيير القانون الجنائي على مجلس النواب في 24 يونيو 2016. وبتاريخ 28 يونيو جرى تقديم مشروع القانون من قبل وزير العدل والحريات حينها، المصطفى الرميد، لتشرع لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب في مناقشة حثيثة لمواده استمرت يومين كاملين تقريبا، أي يومي 13 و14 يوليوز 2016، حيث أنهت اللجنة دراسة مواد مشروع القانون، ولم يتبق سوى المصادقة عليه في اللجنة، ثم المصادقة عليه في جلسة عامة، وهو ما كان متوقعا أن يحدث قبل اختتام الولاية التشريعية التاسعة (2011-2016)، لكن يبدو أن البعض راهن على خلاف ذلك، وبالتالي، ترك مشروع القانون حتى مجيء الحكومة التي أفرزتها انتخابات 7 أكتوبر 2016، وهي الحكومة التي وُلدت بصعوبة، بالنظر إلى البلوكاج الذي دام نحو 6 أشهر، والذي انتهى بإبعاد رئيس الحكومة المعين حينها عبدالإله بنكيران، وتعيين سعد الدين العثماني خلفا له. قررت حكومة العثماني عدم سحب مشاريع القوانين التي بقيت دون مناقشة أو مصادقة لدى البرلمان من عهد الحكومة السابقة، وكان عددها 38 نصا، من بين مشروع القانون الجنائي، وذلك بمبرر “ترشيد الزمن التشريعي”، وبالفعل جرى تقديم مشروع القانون الجنائي للمرة الثانية في 6 يوليوز 2017 من قبل وزير العدل الجديد في حكومة العثماني، محمد أوجار، القيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار، لكن المثير للانتباه أن إنهاء المناقشة العامة للمشروع من قبل لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان لم تتم إلا في 29 ماي 2018، علما أن العادة والعرف في البرلمان أن المناقشة العامة تجري في يوم واحد، ما يعني أن اللجنة المعنية لم تعط الأهمية المتوقعة منها لمشروع القانون، وتركته جانبا طيلة الدورة التشريعية الخريفية (من أكتوبر 2017 حتى فبراير 2018)، إضافة إلى نحو شهر ونصف من عمر الدورة الربيعية 2018. وقد شرعت اللجنة في المناقشة التفصيلية لمشروع القانون بتاريخ 19 يونيو 2018، وانتهت من مناقشة مجموع مواد مشروع القانون البالغ عددها 84 مادة في 2 يوليوز 2019، أي إنها استغرقت نحو 10 أشهر باحتساب فترات اشتغال البرلمان فقط، علما أن المادة 183 من النظام الداخلي لمجلس النواب تحصر الزمن التشريعي لمناقشة النصوص القانونية والمصادقة عليها داخل اللجان النيابية في 60 يوما، مع إمكانية تمديد النقاش استثناء لمدة إضافية لا تزيد على 30 يوما أخرى، ومن الواضح أن هذا المقتضى المسطري لم يحترم من قبل الفرق النيابية، علما أن الكثير من القوانين تجري مناقشتها والمصادقة عليها في أقل من شهر. ورغم التأخر والهدر في الزمن التشريعي، إلا أن اللجنة البرلمانية أنهت المناقشة التفصيلية لمشروع القانون في النهاية، لكن المفاجأة أنها لم تصوت عليه، ثم انتهت الدورة التشريعية مرة أخرى في منتصف يوليوز 2019، ومضى الجميع نحو بداية السنة التشريعية في أكتوبر 2019، التي حملت تغييرا حكوميا، حيث أُعفي الوزير أوجار، وجرى تعيين وزير جديد للعدل، هو الاتحادي محمد بنعبدالقادر. لكن التعيين الجديد صادف أن اللجنة النيابية قد انتهت من المناقشة التفصيلية لمشروع القانون، وحددت أجلا لإيداع التعديلات عليه. محمد الطويل، برلماني عن فريق العدالة والتنمية، يرى أن “حظ مشروع القانون الجنائي كان سيئا، إذ بالرغم من أن مسطرة مناقشته كانت طويلة نسبيا، ربما، بسبب الأجندة التشريعية عند بداية الولاية التشريعية العاشرة، زاد من طولها التناوب على تقديم طلبات إرجاء أجل إيداع التعديلات، حيث جرى التأجيل أول مرة بتاريخ 29 شتنبر 2019، ثم مرة ثانية يوم 29 نونبر، ثم مرة ثالثة في 13 دجنبر، ثم مرة رابعة في 27 دجنبر 2019، ولم يتم إيداع التعديلات حتى 10 يناير 2020”. ماذا تقول التعديلات؟ لنبدأ بتعديلات فرق الأغلبية الحكومية (فريق العدالة والتنمية، فريق الأحرار، الفريق الحركي، فريق الاتحاد الاشتراكي) التي جرى إيداعها لدى رئاسة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بتاريخ 10 يناير 2020، والتي اقترحت تعديلا على المادة موضوع الجدل، أي المادة 8-256 التي تجرم الإثراء غير المشروع، وقد اقترحت تلك الفرق تعديلَ المادة كما وردت عليها من المجلس الحكومي لتصبح كما يلي: “يعد مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع، ويعاقب بغرامة من 100 ألف إلى مليون درهم، كل شخص ملزم بالتصريح الإجباري بالممتلكات، طبقا للتشريع الجاري به العمل، وكل آمر بالصرف، ثبت للمجلس الأعلى للحسابات بعد نهاية توليه للوظيفة أو المهمة أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين الخاضعين للتصريح عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة، انطلاقا من التصريح بالممتلكات الذي أودعه المعني بالأمر، بعد صدور هذا القانون، مقارنة مع ما صرح به من دخل، ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة.. (الباقي دون تغيير)”. وعللت هذه الفرق النيابية مقترحها كالتالي: “المجلس الأعلى للحسابات هو الذي يجب أن يثبت تجاوز ما تم التصريح به بعد نهاية المهمة وليس أثناءها”، وتضيف “يجب أن تكون المقارنة مع ما صرّح به من دخل انطلاقا من التصريح بالممتلكات الذي أودع المعني بالأمر، وليس مصادر دخله”. معنى ذلك، أن فرق الأغلبية تريد من المجلس الأعلى للحسابات هو من يثبت الزيادة الكبيرة وغير المبررة في دخل وممتلكات الموظف أو أولاده القاصرين، وليس القضاء، وتقترح أن يكون ذلك بعد تقاعد الموظف أو بعد انتهائه من المهام التي انتُدب للقيام بها، وليس خلال فترة توليه الوظيفة أو المهمة الانتدابية، كما تحصر عمل المجلس الأعلى للحسابات في المقارنة بين ما صرح به الموظف للمجلس من ممتلكات، وما طرأ على ممتلكاته من زيادة بعد توليه للوظيفة أو المهمة، وليس المقارنة مع كل ممتلكاته. أما فرق المعارضة، فلكل منها موقف من تجريم الإثراء غير المشروع، يختلف من فريق برلماني إلى آخر. على سبيل المثال، اقترح فريق الأصالة والمعاصرة مقتضى قريب مما ذهبت إليه فرق الأغلبية الحكومية، ليكون فقرة ثالثة ضمن المادة 8-256 المكونة من فقرتين، كما وردت على البرلمان من الحكومة، ونص الاقتراح كما يلي: “لا تتم المتابعة إلا بناء على تقرير معد من قبل المجلس الأعلى للحسابات في حق الشخص المعني بالأمر”، وانسجاما مع هذا المقترح، طالب بحذف أي عبارة في المادة تفيد أن الإثبات في جريمة الإثراء غير المشروع يجب أن يقع على المتهم، وعلّل ذلك بالقول: “يجب أن يقع الإثبات على النيابة العامة لا المتهم، لأن ذلك يدخل في إطار القاعدة العامة للإثبات”. ما يعني أن فريق الأصالة والمعاصرة يرهن تفعيل تجريم الإثراء غير المشروع بالمجلس الأعلى للحسابات وليس بالقضاء، وفي الوقت نفسه يخالف الاتجاه العام المتعارف عليه عالميا فيما يخص إثبات هذه الجريمة، حيث إن الإثبات يقع على المتهم وليس على النيابة العامة. ولم يختلف اقتراح المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية كثيرا عن توجه فرق الأغلبية الحكومية كذلك، إذ اقترحت إضافة فقرة ثالثة إلى المادة 8-256 تنص على ما يلي: “وتتم المتابعة بناء على تقرير المجلس الأعلى للحسابات بحق المعني بالأمر”، كما طالبت بحذف العبارة الواردة في الفقرة الأولى من المادة نفسها التي تستوجب أن يثبت المتهم “المصدر المشروع” للزيادة الكبيرة وغير المبررة في ممتلكاته. وفي نص التعليل الذي قدمته المجموعة لاقتراحها أكدت أن الهدف هو “تدقيق مفهوم الإثراء غير المشروع، وتمكين الموظف من جميع الضمانات”. ويبدو واضحا أن التعليل فضفاض، ولا يجيب عن المغزى من أن تتم المتابعة بناء على تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وليس بناء على تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها المحدثة بموجب الفصل 36 من الدستور مثلا، وهي أيضا مؤسسة دستورية معنية أكثر من غيرها بمحاربة الفساد. لم تشمل التعديلات التي تقدم بها النائب البرلماني المعارض عمر بلافريج عن فيدرالية اليسار الديمقراطي، أي إشارة إلى الإثراء غير المشروع، وفضل التركيز على المطالبة بحذف عقوبة الإعدام وجريمة الاغتصاب والإفطار العلني في رمضان، لكن لم يقدم أي اقتراح بشأن جريمة الإثراء غير المشروع. وقد انفرد فريق حزب الاستقلال بمقترح يختلف عن فرق الأغلبية الحكومية وباقي فرق المعارضة، إذ اقترح تعديلا هذا نصه: “يعد مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع، ويعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات وبغرامة من 100 ألف إلى مليون درهم، كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر، ويساهم بذلك في خدمة الدولة أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع، ثبت بعد توليه للوظيفة أو المهمة أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين الخاضعين للتصريح عرفت زيادة ملحوظة… (الباقي دون تغيير)”. وفي تعليل الاقتراح، أوضح الفريق المذكور أن الهدف من التعديل الذي تقدم به هو “توسيع نطاق الموظفين العموميين المعنيين بهذا الفصل من الملزمين بالتصريح إلى الموظف العمومي، وفق تعريف الفصل 224 من مجموعة القانون الجنائي. والحكم بالعقوبة السالبة للحرية أسوة بجرائم الرشوة والحصول على منفعة غير مستحقة من استغلال الوظيفة المنصوص عليها في الفصل 1-245، وكذلك تماشيا مع توصيات الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد والقانون المقارن خاصة الفرنسي”. لقد أعاد موقف الفريق الاستقلالي النقاش إلى النسخة الأولى لمشروع القانون كما أعدته وزارة العدل، أي تجريم الإثراء والمعاقبة عليه بالسجن النافذ، بل إن حزب الاستقلال يدعو إلى التشديد في العقوبة السالبة للحرية (من 5 إلى 10 سنوات)، ويوسع الجريمة لتشمل كل موظفي الدولة والمؤسسات العمومية والمقاولات العمومية والجماعات المحلية، وليس الذين يصرحون بممتلكاتهم للمجلس الأعلى للحسابات، أي كل من يتصرف في المال العام بغير وجه حق أو قانون. وهو التوجه الذي تؤكد عليه الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب، وتحث عليه كل الممارسات الفضلى التي تسعى بحق نحو الحد من الفساد وتجفيف منابعه. انقسام داخل الأغلبية رغم تقديم الفرق النيابية تعديلاتها يوم 10 يناير الماضي، حتى ظن الجميع أن تقدما قد حصل في اتجاه المضي نحو إقرار مشروع القانون، وتسريع وتيرة مناقشته، إلا أن ما حصل بعد ذلك، أظهر أن الانقسام الأساسي حول مشروع القانون يوجد داخل الأغلبية الحكومية، وليس بينها وبين المعارضة. المؤشرات على ذلك باتت جلية، منها موقف المصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقة مع البرلمان، ثم موقف فريق “البيجيدي” بمجلس النواب بعد سحب تعديلاته رفقة فرق الأغلبية، وأخيرا موقف وزير العدل، محمد بنعبدالقادر، الذي يدفع في اتجاه سحب مشروع القانون من البرلمان وإعادته إلى الحكومة من جديد. وبخصوص موقف المصطفى الرميد، الذي ضمّنه مقالة نشرها على حسابه “فايسبوك”، فقد أبدى تصلبا واستماتة في الدفاع عن الصيغة التي وردت من المجلس الحكومي، ويبدو أن موقفه كان له الأثر في موقف فريق “البيجيدي” الذي تراجع بدوره بإعلان سحب موافقته على تعديلات فرق الأغلبية. إذ يبرّر الرميد موقفه هذا بعدة حجج: أولا، أن الدستور نص في الفصل الأول منه على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما نص على الوقاية من كافة أشكال الانحراف في عمل الإدارة واستعمال المال العام، ما يقتضي في نظره مكافحة الفساد، ويرى أنه في ظل محدودية التبليغ عن الفساد المتفشي، فمن شأن تجريم الإثراء غير المشروع أن يمنح الدولة إطارا قانونيا فعالا لمحاصرة ظاهرة الفساد. وأكد الرميد أن تجريم الإثراء غير المشروع يجد مرجعيته في الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب في 2007، ووجب بناءً على ذلك مواءمة التشريع الوطني مع مقتضياتها. وثالثا، لأن المادة 107 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية نصت على تكليف الرئيس المنتدب للمجلس بتتبع ثروة القضاة، لكن الملاحظ أن هذا المقتضى بقي حصرا على القضاة والقاضيات ولم يشمل باقي الموظفين والموظفات، دونما مبرر واضح أو سبب معقول، مع أن الإثراء غير المشروع يمس بمرتكزات الديمقراطية وسيادة القانون. ورابعا، أن المغرب اعتمد منذ 2008 عددا من النصوص القانونية التي توجب التصريح بالممتلكات، لكن و”إن كانت تعاقب على عدم التصريح أو التصريح الكاذب، فإنها لا تعاقب من تبين أن ثروته زادت خلال ممارسته مهنته زيادة لا يستطيع تعليلها، وهو ما يجعلها نصوصا غير ذات جدوى ولا معنى لها، وهي والعدم سيّان”. ويخلص الرميد إلى أن المقتضيات المقترحة في مشروع القانون الجنائي بتجريم الإثراء غير المشروع، هي التي ستجعل إجراءات التصريح بالممتلكات ذات قيمة فعلية”. موقف الرميد سيكون له أثر على موقف فريق “البيجيدي” بمجلس النواب، الذي أعلن سحب تعديلاته التي تقدم بها رفقة فرق الأغلبية. ملابسات الموقف شرحها ل”أخبار اليوم” اثنين من برلمانيي الفريق، وتفيد أن الفرق النيابية كانت مطالبة بتقديم تعديلاتها على مشروع القانون قبل الساعة 12 من يوم 10 يناير الماضي، معنى ذلك أن أي فريق نيابي تأخر عن الموعد المحدد، لا تقبل تعديلاته. ما وقع أن فريق التجمع الوطني للأحرار تقدم بتعديلات قبل انتهاء المهلة الزمنية بنحو ساعة فقط، عددها خمسة تعديلات، منها أن إثبات جريمة الإثراء غير المشروع يقع على كاهل المجلس الأعلى للحسابات وليس القضاء، وأن التثبت من وجود جريمة من عدمها يكون بالمقاربة بين ما صرح به والزيادات التي حصلت في ممتلكاته أثناء توليه الوظيفة أو المهمة الانتدابية، وأن المتابعة تكون بعد تقاعده في حالة الموظف، وبعد انتهاء مدته الانتدابية في حالة المنتخب، وهو الاقتراح الذي وافق عليه فريق العدالة والتنمية، لتفادي عدم تقدم فرق الأغلبية بتعديلات على القانون، ولتفادي مزيد من البطء التشريعي فيما يتعلق بمشروع القانون تحديدا، على أمل أن يُقنع، حسب اثنين من برلمانييه تحدثوا ل”أخبار اليوم”، فريق التجمع الدستوري، أي فريق الأحرار، بالتراجع عن تعديلاته والاكتفاء بما ورد عن الحكومة، لكن يبدو أنه لم يفلح في ذلك، فقرر سحب تعديلاته، والإعلان عن ذلك للرأي العام يوم 20 فبراير. وبينما تتهم باقي فرق الأغلبية، وخصوصا فريق الاتحاد الاشتراكي وفريق الأحرار، فريق “البيجيدي” بمجلس النواب بأنه تراجع عن موقفه، وأنه نسف بذلك “التوافق” الذي حصل حول مشروع القانون، وخصوصا حول المادة 8-256 حول الإثراء غير المشروع، قال رئيس الفريق النيابي، مصطفى الإبراهيمي، إن قرار السحب “جاء بعد استنفاذ كافة السبل والطرق الممكنة للتوافق على تعديلات لتجويد النص والرامية إلى محاربة الفساد، بعدما لم تتمكن مكونات الأغلبية من التوصل إلى حل توافقي”، مؤكدا أن “الفريق يتمسك بالصيغة التي جاءت بها الحكومة بخصوص تجريم الإثراء غير المشروع”. موقف الإبراهيمي يفيد أن فريق “البيجيدي” يرفض تعديلات باقي فرق الأغلبية المقترحة بشأن مواد الإثراء غير المشروع، ويؤكد أنه “لا يمكن أن يخضع المعنيون للمحاسبة إلا بعد انتهاء مهامهم، وحصر مهمة المحاسبة في المجلس الأعلى للحسابات، دون القضاء العادي والاقتصار في التصريح بالممتلكات بالنسبة إلى المعني وأبنائه فقط، حيث يعتبر أن قبول هذه التعديلات يفرغ المشروع من محتواه، ويحدُّ من سلطة القضاء في محاسبة المفسدين”. لكن في الوقت الذي يتشبث وزراء حزب العدالة والتنمية وبرلمانييه في الدفاع عن الصيغة التي تضمنها مشروع القانون الجنائي، كما صادق عليه المجلس الحكومي، برز موقف جديد من داخل الأغلبية، ورد لحد على لسان وزير العدل الاتحادي محمد بنعبدالقادر، والأمين العام للحركة الشعبية امحند العنصر، الأول يؤكد أنه بحاجة إلى الاطلاع على فلسفة مشروع القانون قبل مناقشته في اللجنة البرلمانية الدائمة، ويلمح بذلك إلى إمكانية سحبه من البرلمان، على خلاف القرار الحكومي في بداية الولاية التشريعية الحالية بعدم سحب أي نص قانوني أحيل على البرلمان في الولاية التشريعية السابقة، والثاني، أي العنصر، يؤكد على مضمون التعديلات التي تقدمت بها فرق الأغلبية، وأساسا، إسناد أي متابعة إلى أي موظف عمومي بجريمة الإثراء غير المشروع، إلى المجلس الأعلى للحسابات، وأن يكون ذلك بعد تقاعده أو انتهاء مهمته الانتدابية. الوزير الاتحادي بنعبدالقادر يؤكد أن الخلاف ليس حول المادة المتعلقة بتجريم الإثراء غير المشروع، بل بغياب رؤية، متحدثا عن “شعبوية جنائية” في لقاء بفاس يوم 27 فبراير الماضي، لكن برلمانيي حزب العدالة والتنمية في لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان يعتبرون أن سبب تعثر مناقشة مشروع القانون يعود حصرا إلى المادة المتعلقة بتجريم الإثراء غير المشروع، وإلى وجود أطراف داخل الحكومة لا ترغب في إخراج القانون الجنائي إلى حيز الوجود، بسبب تجريمه للإثراء غير المشروع. وسط هذا الانقسام داخل الأغلبية الحكومية، يبدو أن النقاش بصدد أن يتحول إلى نقاش مجتمعي، خصوصا بعدما دخلت الجمعية المغربية لحماية المال العام على الخط، حيث دعت إلى مسيرة شعبية يوم 15 مارس المقبل بمراكش، في خطوة من شأنها أن تساهم في إثارة انتباه الرأي العام إلى هذه القضية، وربما يكون ذلك خطوة نحو دفع الرافضين لتجريم الإثراء غير المشروع للتراجع عن موقفهم، حتى لا يُفهم بأنه حماية للفساد وللمفسدين.