لعل متتبع النقاش حول جريمة الإثراء غير المشروع في مجلس النواب، يستخلص، دون عناء كبير، أن جزءا واسعا من النخب الحزبية المتصدرة للمشهد السياسي تبذل كل ما في وسعها للتستر على الفساد وليس محاربته، كما تدعي وتزعم أمام الرأي العام. اطلاع بسيط على التعديلات التي تقدمت بها الفرق النيابية على مشروع القانون الجنائي، خاصة المادة 8-256 منه، يؤكد بوضوح أن أغلب الأحزاب الممثلة في البرلمان، باستثناء حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال، غير مستعدة لتقبل بتجريم الإثراء غير المشروع. طبعا، لكل حزب حججه، لكن الخلاصة التي تبدو واضحة تقول إن أحزاب الاتحاد الاشتراكي والأحرار والحركة الشعبية والأصالة والمعاصرة والاتحاد الدستوري، أي أغلبية ومعارضة، ترفض أن يتوفر المغرب على ترسانة قانونية لمكافحة الفساد. كيف ذلك؟ تجرم المادة 8-256 الإثراء غير المشروع، إذ تؤكد: «يعد مرتكبا جريمة الإثراء غير المشروع، ويعاقب بغرامة من 100 ألف إلى مليون درهم، كل شخص ملزم بالتصريح الإجباري بالممتلكات، طبقا للتشريع الجاري به العمل، ثبت، بعد توليه الوظيفة أو المهمة، أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين الخاضعين للتصريح عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة، انطلاقا من التصريح بالممتلكات الذي أودعه المعني بالأمر، بعد صدور هذا القانون، مقارنة بمصادر دخله المشروعة، ولم يدلِ بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة». لكن هذه الصيغة، رغم النقص الذي يعتريها، ترفضها أحزاب الأغلبية، باستثناء حزب العدالة والتنمية، الذي يطالب بالإبقاء عليها بصيغتها المذكورة آنفا، مثلما ترفضها أحزاب المعارضة، باستثناء حزب الاستقلال. لقد كان متوقعا أن تركز أحزاب المعارضة، مثلا، على تشديد العقوبات ضد هذه الجريمة، لأن المادة المذكورة لا تنص على عقوبة السجن، مثلا، ولا تشمل كل موظفي ومسؤولي الدولة، بل الملزمين بالتصريح بالممتلكات فقط، لكن وحده فريق حزب الاستقلال بمجلس النواب من يطالب بذلك، في حين طالب فريق الأصالة والمعاصرة ومجموعة حزب التقدم والاشتراكية بتعديل المادة المذكورة في اتجاه إسناد مهمة التثبت من الزيادة الكبيرة في ثروة كل شخص تولى وظيفة أو مهمة انتدابية إلى المجلس الأعلى للحسابات بدل القضاء العادي، بحجة أنه الجهة التي تتلقى التصريح بالممتلكات، ويمكنه المقارنة بين ممتلكات الشخص قبل وبعد توليه الوظيفة أو المهمة، لكن الملاحظ أن هذا الاقتراح هو نفسه تقدمت به -ويا للمفارقة- فرق أحزاب الأغلبية، أي الأحرار والاتحاد الاشتراكي والحركة الشعبية، باستثناء فريق العدالة والتنمية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. قراءة التعديلات التي تقدمت بها مختلف الأحزاب الممثلة في مجلس النواب على المادة 8-256، التي تجرم الإثراء غير المشروع، تكشف، بما لا يدع مجالا للشك، أن هناك تحالفا ضمنيا بين أحزاب في الأغلبية وأخرى في المعارضة هدفه إفراغ جريمة الإثراء غير المشروع من مضمونها، ويظهر ذلك في الدفاع عن تعديلين، كما لو أنهما خرجا من مشكاة واحدة؛ يتجلى التعديل الأول في إسناد مهمة إثبات جريمة الإثراء غير المشروع إلى المجلس الأعلى للحسابات، بدل القضاء العادي، في حين تعلم تلك الأحزاب أن المجلس الأعلى ليس مؤسسة مؤهلة قانونيا للقيام بهذه المهمة، وأي محاولة لإقحامها في ذلك، معناها أن هناك رغبة في تحريف مهام المجلس وإغراقه في عمل لم يُحدث له، فهو مؤسسة للرقابة على المالية العامة للدولة، وإن كان يسهم في مكافحة الفساد، فهو يفعل ذلك بشكل غير مباشر، لأن هناك هيئة دستورية أخرى مختصة بذلك. ويرمي التعديل الثاني لهذه الفرق إلى التراجع عن منطق الإثبات المعمول به في التعاطي مع هذه الجريمة، وهو منطق معكوس يلقي مهمة الإثبات على المتهم وليس على جهة الادعاء، وتبرر تلك الفرق طرحها بأن المادة 8-256 جاءت بمقتضى يخالف القاعدة العامة في الإثبات، وهي تعرف أن الخبرات والممارسات الفضلى في العالم اتجهت نحو الإثبات المعكوس، لصعوبة إثبات هذه الجريمة، ولأن تضخم ثروة الموظف، بما لا يناسب مصادر دخله، يعد في حد ذاته قرينة على الإثراء غير المشروع. لا بد من الإشارة، في هذا السياق أيضا، إلى من فضل التمويه وإثارة الخلط، وأقصد موقف فدرالية اليسار في مجلس النواب، لأن المطلع على تعديلات البرلماني عمر بلافريج، حول مشروع القانون الجنائي، سيلاحظ نوعا من الهروب إلى الأمام، إذ بدل تقديم تعديلات على مشروع القانون، راح بلافريج يقترح تعديلات حول قضايا لا وجود لها في مواد المشروع قيد النقاش، مثل الإفطار العلني في رمضان، والمطالبة بحذف عقوبة الإعدام، في الوقت الذي سكت عن جريمة الإثراء غير المشروع، والتي حولها خلاف، ويبدو أنها السبب الرئيس في احتجاز مشروع القانون في مجلس النواب منذ 4 سنوات، كما أنها تعد خطوة فعالة نحو الفصل بين الثروة والسلطة، كما طالبت بذلك حركة 20 فبراير، التي تزعم فدرالية اليسار أنها وفية لروحها ومطالبها المشروعة. لقد كان حريا بأحزاب الفدرالية أن تكون في صدارة المعركة القائمة حول الإثراء غير المشروع، لكن يبدو أنها فضلت التغيب عنها، لأسباب غير مفهومة حتى الآن. لقد كشف الخلاف حول تجريم الإثراء غير المشروع في البرلمان حقيقة كل طرف؛ من مع تجريم ومكافحة الفساد قولا وفعلا، ومن يبحث له عن المسوغات لكي يستمر في التخفي والتلاعب بالمال العام. ولعل الاستمرار في إذكاء النقاش حول هذه القضية، كفيل بأن يفضح أكثر عورات سياسيي الإثراء غير المشروع، خاصة أن انتخابات 2021 على الأبواب.