لقد حاول محمد شحرور أن يقدم مساهمة علمية جديدة في نقد النص الديني، وتسليط الضوء على القرآن الكريم، انطلاقا من رؤية جديدة أساسها اللغة العربية، على اعتبار أن النص القرآني هو نص لغوي أساسا. هذه هي الفكرة الجوهرية في نقد الدكتور إدريس الكنبوري نظريات شحرور. وهو يرى أن هذا المفكر المشرقي نظر إلى المفسرين القدامى، ووجد أنهم لم ينجحوا في الاقتراب من النص القرآني بسبب تخلف العلوم في عصرهم، وعدم انفتاحهم على العالم، لذلك، نظروا إلى القرآن نظرة شمولية منبهرين بنظرية الإعجاز البلاغي التي سدت في وجوههم جميع الأبواب إلى النص، وتجاوز حالة الانبهار التي استمرت عدة قرون. يخلص الكنبوري إن المساهمة الكبرى لشحرور هي تفكيك النص القرآني إلى عناصره المختلفة، بدل النظر إليه ككتلة واحدة كما فعل السابقون، حيث ميز بين القرآن والكتاب وأم الكتاب والسبع المثاني وتفصيل الكتاب، فأصبحنا أمام نظرة معاصرة غير مسبوقة تجمع بين التراث والحداثة. في هذه الحلقات، تطوير لهذه المناقشة، ودعوة أيضا إلى النقاش. غير أننا بنظرة عجلى إلى آيات القرآن الكريم، يمكننا أن ندرك بكل سهولة أن مفردة «الكتاب» و«كتاب» -التي تتردد أكثر من مائتين وخمسين مرة، فضلا عن الفعل «كتب» وما يتفرع عنه- لا تحمل المعنى نفسه في كل سياق، وإلا لا يعود هنالك أي مدلول للإعجاز القرآني، الذي هو إعجاز لغوي وبلاغي بدرجة أولى، وهذا بتأكيد من شحرور نفسه، إذ يقول: «بعدما أجرينا مسحا للمصطلحات الأساسية لكتابنا في الباب الأول كانت النتيجة المباشرة لهذا المسح هي إعجاز القرآن» (ص 39). ونحن نتساءل: أي إعجاز يمكن أن يكون في كتاب تتكرر فيه كلمة «الكتاب» حوالي ثلاثمائة مرة ويزيد وفي سياقات متغايرة دون أن يتغير معناها؟ ويبدو لنا أن الدكتور شحرور يجهل معنى الإعجاز القرآني، أو على الأقل يفهمه على غير ما فهمه الناس جميعهم عبر العصور. يصر الدكتور شحرور على أن للكتاب معنى واحدا، كما سبقت الإشارة إليه أعلاه، هي الضم والجمع، وهكذا، فإن الكتاب، بمعنى القرآن الذي بيد المسلمين، «يضم ويجمع» كتبا مختلفة هي كتاب الصلاة وكتاب الزكاة وكتاب الحج وهلم جرا، وكتبا مختلفة أخرى هي القرآن والكتاب والفرقان وأم الكتاب والسبع المثاني وغير ذلك، كما يتكون في الوقت نفسه من ثلاثة كتب، وفي الوقت نفسه من كتابين. ولك أن تتخيل هذا الكتاب السريالي الذي يذكرنا بقصة شهيرة للأديب الأرجنتيني هي «كتاب الرمل» التي يتحدث فيها عن الكتاب اللامتناهي. لكن المعروف بين جميع المفسرين وأهل اللغة، قديما وحديثا، أن لكلمة الكتاب في القرآن مفاهيم عدة، فهي تعني أعمال الإنسان كما في قوله تعالى: «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا»، وقوله: «وكل شيء أحصيناه كتابا» (لاحظ التعسف الذي قام به شحرور في قراءة هذه الآية في ما كتبناه آنفا)، وغير ذلك كثير من الآيات؛ وتعني القدر والقضاء، مثل قوله تعالى: «وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا»، وقوله: «وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم»، وتعني القرآن مثل قوله تعالى: «تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم»، وقوله: «قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى»، وتعني الكتب السماوية السابقة على القرآن، وهو المعنى الغالب في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: «يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء»، وقوله: «ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب». بيد أن الدكتور شحرور يلوي أعناق الآيات ويخرج بها عن سياقها، موهما القارئ بأنه يقدم له قراءة معاصرة تنطلق من اللغة، وهو وهم يزكيه كاتب مقدمة الكتاب الدكتور جعفر دك الباب الذي يقول في نهاية التقديم: «وفي ختام هذا التقديم للمنهج اللغوي في كتاب الدكتور المهندس محمد شحرور»، حيث يخيل للقارئ أن الأمر يتعلق فعلا بمنهج لغوي، وما هو كذلك. وإذا سايرنا الدكتور شحرور في تلك التقسيمات الانطباعية، واتفقنا على أن الكتاب جزء من القرآن، وضربنا صفحا عن المعاني السالفة لكلمة الكتاب، كيف يمكننا مثلا فهم هذه الآية: «فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك»؟ فهذه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى سؤال «الذين يقرؤون الكتاب» لإزالة الشك، فهل المعنى المقصود سؤال اليهود والنصارى، أم هو سؤال قسم من المسلمين ممن يقرأ الكتاب، الذي هو جزء من القرآن، الذي أنزل على محمد؟ وكيف يسأل النبي محمد قوما عن شيء أنزل عليه هو؟ إنها لعبة دائرية من السفسطة واللغو الذي لا طائل تحته. لقد أتى الدكتور شحرور بأشياء عجيبة ما سبقه إليها من أحد في هذه التقسيمات التي اصطنعها دون برهان علمي ولا منهج واضح، فهو يزعم أن «القرآن شيء والكتاب شيء آخر» (ص 57)، ثم يزعم أن «القرآن شيء والسبع المثاني شيء آخر، وهي ليست من القرآن ولكنها من الكتاب» (نفسها)، ثم يفترض أن «يكون القرآن جزءا من الكتاب»، ثم يؤكد أن «الحق هو جزء من الكتاب وليس كل الكتاب»، عندما يقرأ الآية التالية «قراءة معاصرة!» وهي قوله تعالى: «ألم، تلك آيات الكتاب والذي أنزل من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون»، فيخلص إلى النتيجة التالية: «ونلاحظ أنه في سورة الرعد عطف الحق على الكتاب، فهذا يعني أن الحق شيء والكتاب شيء آخر، أو أن الحق هو جزء من الكتاب وليس كل الكتاب» (نفسها). وها هنا نصطدم بواحدة من الغرائب عند الدكتور شحرور صاحب «المنهج اللغوي» الذي يشكو «أزمة حقيقية في تدريس مادة اللغة العربية في المدارس والجامعات» (ص 47)، فأولا، الآية ليس فيها عطف، وكلمة «الحق» هنا خبر لمبتدأ هو «الكتاب»، ومعناها «ذلك الكتاب هو الحق»، ثانيا على افتراض أن «الحق» عطف على «الكتاب»، فسنكون أمام شيء واحد وليس أمام «حق» من جهة و«كتاب» من جهة ثانية. ولكن الغريب هو أن الدكتور شحرور نفسه يقع في التخبط، فيتنكر لذلك التعريف الذي أعطاه للذكر بوصفه «جزءا من الكتاب»، فيتراجع ويقول إن الذكر «هو تحول القرآن إلى صيغة لغوية إنسانية منطوقة بلسان عربي» (ص 62)، أي أنه ليس جزءا من الكتاب لكنه «التجسد» المادي للقرآن في صيغة لغوية. ثم يتنكر لهذا التعريف الثاني فيعطينا تعريفا ثالثا وهو أن الذكر ليس جزءا من الكتاب ولا هو الصيغة اللغوية للقرآن، بل هو «إحدى صفات القرآن».