«لماذا تتحرك صحافة السلطة بشراسة عندما يُنتقد الحموشي والمؤسسة الأمنية، ولا تفعل الشيء نفسه، وبالحماس ذاته، عندما يكون الملك هو المستهدف بالنقد؟». هذا ليس رأيي، بل ما أبلغنيه زميل صحافي، نقلا عن أحد رجالات الدولة المحسوبين على الدائرة المقربة من الملك، بعد الهجمة المنظمة على المؤرخ المعطي منجب، التي تلت مقاله عن الصحافي عمر الراضي، وهو المقال الذي انتقد فيه منجب طريقة اشتغال الأمن في المغرب، وتعرض بسببه لهجمة منظمة ضده وضد عائلته. لن نحتاج إلى التذكير بأن صحافة السلطة لا تفعل الأمر نفسه مع الوزراء، باستثناء وزراء الداخلية. كما أنه من نافل القولِ أن جزءا من المهام الموكولة إلى هذا النوع من الصحافة، بل والذي خلقت من أجله أصلا، هو مهاجمة الحكومات، للتشويش عليها، والاستفادة من ذلك التشويش، للظهور بمظهر نقدي يغطي على الأدوار غير الصحافية التي تسند إليها، والتي سنأتي على ذكرها. وهذا يكسب صحافة السلطة بعض المصداقية لدى الجمهور غير المسيّس، الذي نزل جزء منه أمام البرلمان لسب العثماني بأبذأ الألفاظ، متوهما أن رئيس الحكومة هو المسؤول عن الساعة الإضافية. من المهم أن نُذكِّر بأن السلطة أنعشت هذا النوع من الصحافة، مع مجيء حكومة التناوب في 1998، لضرب عصفورين بحجر؛ للتشويش على تجربة اليوسفي الذي كانت هذه الصحافة تصفه ب«الزعيم الضرورة» و«المجاهد فينا»، وأيضا للتشهير بالصحافة المستقلة التي عرفت ازدهرا قبيل ومع حكومة التناوب، وتميزت بتحقيقاتها التي أحرجت كثيرا المخزن الاقتصادي. ثم تطورت (صحافة السلطة) وتغولت مع حكومة بنكيران الذي عندما رأى قصفها ينزل على رؤوس كل وزراء حكومته، باستثناء وزير واحد، أطلق واحدة من قفشاته، عميقة الدلالة، حين قال في مجلس حكومي: «أنا رئيس حكومة، وعندما سأرقى سأصبح وزيرا للداخلية». لقد كانت السلطة ذكية عندما أعطت هذه الصحافة هوية حداثية ليبرالية، أسعفتها في تبرير هجومها على اليوسفي والتشهير بالمحسوبين عليه (الفقيه، البصري، الأموي)، ووصف ذلك بأنه تصدٍّ لسياسيين يجترون بقايا فكر بلانكي انقلابي خطير على الانتقال الديمقراطي، وتبرير تشهيرها بالإسلاميين بأنهم ازدواجيون ومرتبطون بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ويتحملون «المسؤولية المعنوية» عن أحداث 2003 الإرهابية… وكان هذا يجد من يتفهمه ويفسره بمنطق «لا حرية لأعداء الحرية». لكن، عندما أصبحت مناشير التشهير تستبيح حتى أعراض الأصوات الحداثية والعلمانية التي تنتقد السلطوية، سقطت آخر ورقة توت عن عورتها، وبانت للحداثيين قبل المحافظين أنها مجرد مكتب لتلقي التقارير وترجمتها ونشرها مزيدة ومنقحة. دعنا نعيد طرح سؤال رجل الدولة: «لماذا تدافع صحافة السلطة عن مسؤول أمني أكثر من دفاعها عن الملك؟»، ونحاول تقصي الجواب. إن متتبع المشهد الصحافي في بلادنا يمكن أن يلاحظ، بسهولة، كيف أن أغلب جرائد ومواقع التشهير، التي تقتات من موائد السلطة، تنشر، من حين إلى آخر، تقارير يصفها المعنيون بها بأنها تقارير أمنية، تتعلق بالحياة الخاصة للمعارضين والصحافيين والمثقفين المستقلين. المعالجة الصحافية الوحيدة التي تقوم بها هي أنها تضيف إليها، بشكل مناف لأخلاقيات مهنة الصحافة، توابل الإشاعة والتضخيم، مساهمة منها في القتل الرمزي لمن تعتبرهم خصوما لها قبل أن يكونوا خصوما للسلطة، طالما أن سعيهم إلى تحقيق الديمقراطية وإقرار آليات المحاسبة سيعصف بصحافيي التشهير، قبل أن يعصف برؤسائهم الخفيين والمعلنين في السلطة. لقد شاهدوا ما حدث في تونس، حيث خرج رموز صحافة التشهير يبكون ويلتمسون العفو من الحقوقيين والمعارضين السابقين، معترفين بأنهم كانوا محض أقلام مسخرة من أجهزة نظام بنعلي للتعريض بالشرفاء وعائلاتهم. وقبل تونس، تابع المغاربة كيف أن إدريس البصري، الذي كان وزير دولة في الداخلية والإعلام، وجعل -إداريا ووزاريا- الصحافي زميلا لرجل الأمن، عندما أبعد عن الوزارة، وابتعد عنه الخدم والحشم والأصدقاء، كما لو كان مصابا بالجُذام، ومنع من جواز السفر… لم يجد غير الصحافة المستقلة، التي كان يحاربها، ملجأ لبث لواعجه وشكاواه، ففتحت له صفحاتها، ولم يعجب ذلك الماسكين الجدد بالسلطة، فسارعوا إلى محاصرتها بسلاح الإشهار، وحتى التشهير بالعمالة، إلى أن قتلوها وأدخلوا من «تاب» منها إلى الصف. إن صحافة السلطة –تفاعلا مع سؤال رجل الدولة- لا تجعل الدفاع عن الملك في مرتبة ثانية، بعد الدفاع عن الشخصيات الأمنية، بل تسيء إلى الملك من حيث تعتقد أنها تهاجم من ترى فيهم خصوما لها، وما هم كذلك. ولنتأمل واقعة قيام هذه الصحافة بنشر ظهير تقاعد رئيس الحكومة السابق، مع الإيحاء بأنه تقاعد غير مستحق، ولا ينبغي صرفه له، خصوصا أن المغرب يجتاز ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة… متناسية أن الملك هو من أمر بصرف ذلك التقاعد، وهو ما التقطه بنكيران، بذكاء، حين خرج يقول: «يلا موقرونيش أنا يوقرو غير سيدنا». من المفهوم أن تكون للأمن صحافة تدافع عن إنجازاته، وتعلي من شأن مسؤوليه، وهذا يوجد في كل الدول، لكنه يقف عند هذا الحد. لكن غير المفهوم، وغير المقبول، هو أن تتحمس هذه الصحافة بلا حدود، ودون وعي، فيصدق عليها المثل المغربي: «بالفرحة هرس الرحى».