منذ بداية يناير الجاري وُضعت الناشطة السياسية والبرلمانية، آمنة ماء العينين، في قلب “ماكينة” التشهير، حيث تتعرض للطحن بطريقة بطيئة وتحت أنظار الجميع؛ عائلتها، حزبها، السلطة والمجتمع. وبين مُتفرّج على عملية الطحن تلك، وشامتٍ، ورافضٍ لطريقة طحن الأصوات المزعجة للسلطة، تواصل “الماكينة” العمل نفسه بدون توقف، في انتظار ضحايا آخرين. الواضح أنه منذ أن شُهر بنادية ياسين، كريمة الراحل عبدالسلام ياسين، مؤسس جماعة العدل والإحسان، باعتبارها صوتا مزعج للسلطة، حتى بات التشهير “الماكينة” المفضلة لطحن المعارضين للسياسات الرسمية، سواء أكانوا إسلاميين أو يساريين أو نشطاء أمازيغ، مادام المشترك الوحيد بينهم النضال من أجل الديمقراطية، والهدف على ما يبدو هو عزل هؤلاء وسط المجتمع، والحد من تأثيرهم، وربما تحييدهم نهائيا وعزلهم في الزاوية. لماذا اللجوء إلى التشهير إذن؟ وهل هو خيار السلطة ضد خصومها أم خيارات فاعلين (من محامين، إعلاميين وغيرهم)؟ ولماذا لا يزال يُؤتي أكله مع المعارضين من شتى المرجعيات، رغم الوعي المتزايد في المجتمع بضرورة احترام الحياة الخاصة للناس؟ من الشفوي إلى الفيديو يرى المعطي منجب، حقوقي، تعرض للتشهير أكثر من مرة، أن “الجهات التي تستعمل التشهير بالمعارضين والحقوقيين كسلاح أساسي، تبتغي منه، هاته الجهات، تكميم الأفواه وإخضاع كل من يرفض دخول بيت الطاعة”. وأبرز منجب أن الوسائل التي تستعملها تلك الجهات تطورت، ففي السبعينيات من القرن الماضي كانت تستعمل “الإشاعة الشفوية”، مؤكدا أن “الخبر الملعون ينطلق من الحانات والمقاهي لينتشر في البلاد كما اتفق، حسب أهمية المُشهّر بِه ووزنه في هذا القطاع الاجتماعي أو ذلك، وبتلك الجهة أو هذه”. شجع التشهير بواسطة الإشاعة الشفوية على النميمة والغيبة والتجسس على حيوات الناس الخاصة. وهكذا تم ترويج الكثير من الكلام في حق قياديين يساريين مزعجين للسلطة، مثل اتهامهم بالإلحاد، وعدم الصوم، والعبث بالقرآن..، وهي اتهامات كانت تجد لها صدى وقابلية لدى التيار المحافظ، الذي ينطلق بسرعة نحو ترويج تلك التهم، لا لشيء إلا لأن اليسار كان الخصم السياسي الرئيس للتيار المحافظ أو الإسلاميين بعد ذلك، لكن المفارقة أن قياديي التيار المحافظ لم يكن ينجون من التهم والإشاعات نفسها، وعلى سبيل المثال، تم ترويج كمّ كبير من الإشاعات حول علال الفاسي الذي كان من قادة حزب الاستقلال وأحد علماء الدين البارزين، وهي تهم أخلاقية بالأساس، بل وصلت في بعض الأحيان إلى حد اقتران اسمه بعمليات القتل التي حدثت في بداية سنوات الاستقلال بين ميليشيات حزب الاستقلال وميليشيات حزب الشورى والاستقلال. والخلاصة من تلك الفترة أن “الإشاعة الشفوية” تحولت إلى سيف ذي حدين، يستخدم ضد خصوم السلطة مهما تكن مرجعياتهم. مع موجة الإنترنيت وظهور الصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت هذه الوسائل القناة المفضلة للجهات التي درجت على التشهير بالمعارضين، لقد “بات الإعلام الرقمي الفضاء الأول لهذه الصناعة الوطنية الرائجة”، يقول المعطي منجب. في حالة آمنة ماء العينين مثلا، تم نشر صورها الأولى من قبل محامين معروفين بلعب رياضة التشهير على حسابات الفايسبوك، قبل أن تنتقل بسرعة إلى مواقع إلكترونية، ثم صحف ورقية. وفي رأي منجب، فإن “الدور الكبير الذي لعبه الإعلام الرقمي والشبكات الاجتماعية سنة 2011 في تعبئة جماهير المتظاهرين ضد النظام، جعل هذا الأخير يفطن هو الآخر لضرورة استثمار هذا الفضاء الجديد لما يخدم مصلحته، من خلال النيل من مصداقية من كانوا فاعلين في الحراك الديمقراطي، وذلك للحد من تأثيرهم في الرأي العام الافتراضي. كل هذا يتم طبعا بطريقة لا أخلاقية تستهدف حياتهم الشخصية وتلفيق التهم والأكاذيب”. وفي كل حالات التلفيق والتشهير التي استهدفت معارضين، غالبا ما يتم اتهام جهات في السلطة، لكن في حالات معينة لوحظ دخول فاعلين على الخط، بعضهم قيادات حزبية كما حصل في حالة بوعشرين، في ما البعض الآخر محسوب على محامين وحقوقيين، كما في حالة آمنة ماء العينين. وفي حالات ثالثة، يكون الطرف المشهر إعلاميون ومواقع إلكترونية توصف بأنها مقربة من أجهزة في السلطة. ورغم اختلاف الحالات، فإن عبد الرحيم العلام، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة القاضي عياض، يرى أن “الطريقة الوحيدة لكي تبرئ الدولة نفسها من تهمة التشهير تتمثل في تدخل الجهات المسؤولة ضد المشهرين وفق القانون”، ويضيف العلام “هناك اتهامات من طرف جهات معينة مفادها أن بعض أجهزة الدولة مسؤولة وتقف وراء التشهير بشخصيات محددة، لكني لا أستطيع أن أجزم أو أوجه أصابع الاتهام لأي جهة في هذا الموضوع، لأنه يقبل الاحتمالين”، وأردف “لكن في جميع الأحوال لا بد من الاعتراف أن هناك مسؤولية للدولة، لا أقصد أنها وراء هذا الأمر، ولكن مسؤوليتها تكمن في وجوب تدخلها لمعاقبة الجهات التي تُشهر بالحياة الخاصة للشخصيات العمومية، من خلال حجب مواقع إلكترونية أو صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن تفتح النيابة العامة تحقيقا في الموضوع. أظن أن الطريقة الوحيدة لكي تبرئ الدولة ذمتها من حملات التشهير التي تطال بعض الشخصيات”. الجنس والمال والعمالة تركز التهم الموجهة ضد المعارضين لسياسات السلطة على ثلاثة موضوعات حساسة بالنسبة إلى الرأي العام، وهي: الجنس، المال والعمالة للأجنبي. عقب توقيف الصحافي توفيق بوعشرين في 23 فبراير 2018، وقبل أن توجه له التهم رسميا من قبل النيابة العامة، شنت المواقع الإلكترونية المقربة من السلطة هجوما حادا عليه، وعلى “أخبار اليوم”، حيث تم تداول ثلاث تهم دفعة واحدة لتفسير سبب اعتقاله: التمويل الأجنبي، الخيانة والعمالة لقطر، ثم تهم الجنس. وفي 27 يناير 2017، جمعت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والعصبة المغربية لحقوق الإنسان ضحايا التشهير من داخل المغرب وخارجه في ندوة دولية بالرباط، ظهر على إثرها أن الموضوعات الثلاثة للتشهير بالحقوقيين والصحافيين والسياسيين، الذين يجمعهم النضال من أجل الديمقراطية باختلاف مرجعياتهم، هي: الجنس، العمالة والمال. أغلب ملفات التشهير التي لحقت بالإسلاميين، سواء من حزب العدالة والتنمية أو حركة التوحيد والإصلاح أو جماعة العدل والإحسان، ركزت على قضية الجنس. من ذلك، قضايا نادية ياسين، التي التقِطت لها صورة في اليونان مع زميل من أيام الدراسة، وهي صورة عادية تماما كونها التقطت في شارع عام، لكن الصحف التي تولت التشهير بها حمّلتها أكثر مما تحتمل، بما فيه ذلك الإيحاء بالجنس والخيانة الزوجية. ويبدو أنها صورة ألحقت ضررا بالغا بنادية ياسين، التي قررت على إثرها التواري عن الأنظار، وربما الانسحاب من الجماعة نهائيا. تكررت اللعبة نفسها مع عمر بنحماد وفاطمة النجار، القياديين في حركة التوحيد والإصلاح، واللذين تزوجا عرفيا في انتظار توثيق الزواج قانونيا، لكن الصحافة التي توصف ب”الصفراء” شنت عليهما حملة شعواء، وأُقيلا من حركة التوحيد والإصلاح، ثم اختفيا عن الأنظار. أما في الندوة المشار إليها، فقد روى الفنان رشيد غلام، المنتمي إلى جماعة العدل والإحسان، كيف تم اتهامه بالخيانة الزوجية، وإعداد وكر للدعارة، وهو الحدث الذي وقعت تفاصيله سنة 2007، حين “طلبت الخارجية المغربية من عدد من الدول منها مصر عدم استقبالي”. ويقول غلام إنه كان على متن سيارته في شارع في مدينة الدارالبيضاء فأوقفه شرطي وطلب منه أوراق السيارة: “كان شرطي مرور بلباس عادي، وقال لي إن هذه السيارة مسروقة”، يقول غلام، مضيفا “طلب مني ركوب سيارة الشرطة، لأنه لا يمكن استعمال السيارة المسروقة”. وعندما ركب تم عصب عينيه، بحسب مزاعمه، من طرف أشخاص، وتعرض للضرب والصعق بالكهرباء. ثم نُقل من الدارالبيضاء إلى مدينة الجديدة، وأدخلوه إلى بيت هناك عاريا وحافيا، وأدخلوا عليه فتاة، “فجأة دخلت الشرطة ووجهت إليّ تهمة الخيانة الزوجية”. وبعد ذلك، توصلت وكالة المغرب العربي للأنباء بخبر اعتقاله، وحصلت على محضر الشرطة، ونشرت قصاصة. وقضى غلام شهرا في السجن، وأسقطت محكمة النقض في ما بعد ذلك الحكم في 2009، “ومع ذلك، لازالت بعض الصحف تلصق بي هذه التهمة”. بالمقابل، يتم التركيز على قضايا التمويل الأجنبي حينما يتعلق التشهير باليساريين. في حالة رشيد البلغيتي، صحافي وناشط جمعوي، تم إيقافه من قبل الشرطة بسبب شيك بدون رصيد، لكن بعض المواقع الإلكترونية أضافت إلى التهمة تهما أخرى منها مثل حديثها عن علاقات مشبوهة بالمافيا وبارونات المخدرات الانفصاليين بالشمال. وقد انتشر الخبر كانتشار النار في الهشيم. لكن قليلين من كانوا يعرفون أن قضية الشيك وحساب الجمعية التنموية التي يترأسها البلغيتي، قد اختلقتها جهات مجهولة وروّجتها لأزيد من سنة، قبل أن يختفي حساب الجمعية من شاشات حواسيب البنك المعني. شعر البلغيتي بخطورة المناورة، فقام بنشر خبر الاختفاء الغريب على صفحات الشبكات الاجتماعية وأخبر، كذلك، عمر بلافريج، أحد البرلمانيين الديمقراطيين، الذي وضع سؤالا علنيا لوزير المالية. وهكذا، وتحت ضغط الإعلام البديل تحركت الهواتف ليرجع الحساب في الغد، وليُسلم للبلغيتي شهادة تفيد أن الحساب موجود فعلا، وأن لا خوف عليه. لكن، ما لم يكن بالحسبان وقع، إذ اختفى الحساب من جديد بعد أيام، بل إن تحويلا ماليا مهما لصالح حساب الجمعية اختفى أيضا. والحصيلة أن الصحافي المشاكس قضى سنة كاملة يراسل المسؤولين والإدارات دون طائل. هناك قضية أخرى تتعلق بالتجسس حين يتعلق الأمر بصحافيين أجانب، في هذا السياق يمكن الإشارة إلى حالة الصحافي “إغناسيو سمبريرو”، الصحافي الإسباني الذي كان مكلفا بتغطية أخبار المغرب العربي في جريدة “إلباييس” من سنة 2004 إلى غاية سنة 2014. سمبريرو تعرض لمسلسل التشهير على صفحات صحف ورقية مغربية ناطقة باللغة الفرنسية، اتهمته بالجاسوسية، وأنه يعمل لصالح المخابرات الإسبانية، وقد تقدم بشكاية أمام القضاء المغربي يشتكي فيها من القذف، وقد قضت المحكمة الابتدائية لصالحه بغرامة قدرها 10 آلاف درهم، لكن الاستئنافية اعتبرت أن تهمة الجاسوسية ليست قذفا. ويروي سمبريرو أنه “بعدما تم رفض شكايتي ضد التشهير، أصبح واحد ممن كنت ضحية له يتقلد منصبا عاليا في مؤسسات الدولة الإعلامية”. التهمة نفسها تعرض لها الحقوقي والأستاذ الجامعي، المعطي منجب، أي التمويل الأجنبي والتلميح بالخيانة والعمالة للخارج، فضلا عن تهم أخرى مثل “المزوّر” للتاريخ، وهو الذي ساهم في كتب رسمية حول التاريخ صادرة عن المعهد الملكي للبحث التاريخي، لكن خصومه لا يبدو أنهم يلقون بالا لمسار منجب ولا لتكوينه العلمي، بقدر ما يهمم تشويه سمعته أمام الرأي العام المغربي، حتى لا يكون محط ثقة أي أحد، وهو الهدف البارز على ما يبدو من وراء حملات التشهير التي تستهدف كل المعارضين للسلطة. من القضايا التي تعرض بسببها المعطي منجب للتشهير دوره في “مركز ابن رشد للدراسات والتواصل”، ودوره في تأسيس “الجمعية المغربية لصحافة التحقيق”. حيث كتب موقع إلكتروني شهير أن الجمعية “تعتبر واحدة من الجمعيات التي يختبئ خلفها منجب لاختراق الأمن المغربي، والعمل ضد السيادة المغربية باسم الحق في ولوج المعلومة”، والمبرر في رأي هذه الصحيفة الإلكترونية التي صارت أداة تشهير ضد خصوم السلطة “أن المعطي منجب ليس مستقلا حين يدعو إلى استقلالية الصحافة، وقد عَمِل في أكثر الصحف التي تعبر عن مصالح حزبية أو أجندات معروفة”، بل إن “منجب يتجاهل الفرق بين ما هو من ضرورات السيادة، وما هو من الحقوق السياسية والصحافية”، واعتبرت أن “التقارير والتصريحات التي يقدمها المعطي منجب للدوائر الخارجية تضرّ بالأمن العام المغربي وتنشر الفوضى وتغطّي على جرائم السياسيين باسم حقوق الإنسان، فضلا عن اتهامه بالتنكر لحقوق الإنسان وحقوق المرأة وهو يدافع عن أصدقائه المرتبطين بالأجندات نفسها. وقد راهن المعطي منجب على تيار التغيير الذي مثلته دوائر أجنبية بتحالف مع الإخوان لزعزعة استقرار المغرب تحت يافطة التغيير الديمقراطي، حيث كان منسقا لفرع المغرب في جمعية مواطني الشرق الأوسط”. بعبارات أخرى، صار المعطي منجب أقرب إلى خائن للوطن، بحسب هذه الصحيفة، التي لازالت تحتفظ بمثل هذه المقالات على موقعها الإلكتروني.
فعالية التشهير لم تتجاوز الجهات التي اتخذت من التشهير أسلوبا لها في إدارة الصراع السياسي عن منجب والبلغيثي أو غيرهما، ودائما ما تذكر “من تسول له نفسه” بما تعتبره جرائم تستحق المتابعة القضائية، لكن تضيف في كل مرة ضحية جديدة، وآخرها هذه الأيام آمنة ماء العينين، التي يبدو أن حزبها قد تخلى عنها، رغم التصريحات التي تصدر هنا وهناك ضد التشهير بالشخصيات العمومية، وهي موقف مبدئي معلوم لدى الجميع، ولا يحتاج التذكير به إذا لم يتم تنزيله على الحالات التي تعاني بسبب التشهير. والمثير أن تلك الجهات تنجح في الوصول إلى هدفها، أي عزل الشخص المستهدف بالتشهير وإحالته على التقاعد المبكر، وهذا ما حصل مع نادية ياسين وعمر بنحماد وفاطمة النجار ورشيد غلام وآخرين كثر، لكن هناك شخصيات قاومت التشهير ولا تزال، مثل المعطي منجب.. وغيره. سعيد السالمي، أستاذ العلوم السياسية في فرنسا، وبعدما حدد في حديثه مع “أخبار اليوم” الهدف من وراء التشهير في هدفين: الأول هو العزل، والثاني، هو نزع المصداقية عن المعارضين، يشرح موضحا “العزل من صميم الأسس التي تبنى عليها الأنظمة السلطوية، ويتخذ أشكالا مختلفة، على غرار الضغط على العائلة أو الزوج حد التطليق، أو الفصل من العمل، أو الشيطنة باستعمال النظم الاجتماعية والدينية”، أما نزع المصداقية من المعارضين السياسيين المؤثرين داخل المجتمع، فيستهدف حياتهم الخاصة من أجل كشف التناقض بين سلوكهم والمثل القيمية والأخلاقية التي يدافعون عنها”. ويرى السالمي أن هذه الاستراتيجية مافتئت تحقق أهدافها “فعلى المستوى النفسي والاجتماعي، يؤدي قطع مورد الرزق وتأثر المحيط المباشر بحملات التشهير إلى إنهاك المستهدفين، خصوصا وأن الأنظمة تتوفر على وسائل فعالة استخباراتية، تستطيع من خلالها الوصول إلى حميمية الناس وتعزز بها إخضاعهم”. أما على المستوى السياسي، فإن “حملات التشهير تحقق أهدافها، لأنها تُوظف من قبل الخصوم السياسيين”، وهم خصوم يستحلون كل الوسائل من أجل تحطيم الخصم، علما أن الدائرة قد تدور عليهم، كذلك.