أتابع بتمعن النقاش المواكب لتشكيل لجنة النموذج التنموي، وأقرأ فيها ثلاث زوايا: التوجس من خلفياتها السياسية،وصلة ذلك بالمضمون الدستوري، والانعكاسات على المسار الديمقراطي، ومساءلة النموذج المستعان به لبناءالنموذج، فضلا عن سؤال التكوين والتمثيلية والعلاقة بالمجتمع ومرجعيته. السياسيون، من القوى الإصلاحية الديمقراطية، رغم تطمينات الملك بأن اللجنة لن تكون بديلة عن الحكومة، ينظرونبتوجس لهذه الخطوة، وإن اضطرتهم ديناميات السياسة للمجاملة، فيرون أن الأحزاب، والحكومة، والانتخابات،والأغلبية، لم تعد لها المضمون عينه، مادام نموذج التنموية يصنع بعيدا عن العملية السياسية. المثقفون المنتصرون لقضايا الهوية واللغة والانتماء، يتوجسون من التماس نموذج تنموي من قاعدة نموذج تقنييتأسس على خلفية فرنكفونية، لا تربطها صلة بالمجتمع. والمنزعجون من شكل تكوين اللجنة: نخب الوساطة التي ترى أن الطلب عليها للمساهمة في بناء نموذج تنموي جديدلم يعد قائما، ومنتقدون ضمنا لتمثلات النخب العليا لمفهوم الكفاءة، وأنها توجد خارج الوطن أكثر مما توجد داخله، أوتوجد خارج الأحزاب أكثر مما توجد داخلها، وما يعنيه ذلك من إشارة لحفز الكفاءات لهجرة الأحزاب، ومنزعجون منالتمثلات الحاصلة بشأن علاقة الدين بالتنمية، وما يرمز إليه حضور لون تأويلي علماني للدين على حساب ممثلينعن مؤسسة العلماء الرسمية. والحقيقة أن هذه المستويات الثلاثة من النقاش مطلوبة وحيوية، لكننا سنضرب صفحا عنها مؤقتا لنطرح سؤالا نراهأكثر فائدة: ماذا تريد الدولة؟ الطرح التقليدي المشكك، يرى أن المقصود هو مزيد من التمدد الاستراتيجي في مساحات المجتمع، واستلاب وظائفالنخب السياسية. لكن، هل يمكن أن نذهب إلى هذا الحد من التأويل، ونزعم أن الدولة التي ترى الحراك الاجتماعييتفجر أمامها، وترى التعبيرات السياسية تخرج عن الأطر التقليدية، وتستهدف المؤسسات وتمس بالاحترام الواجبللملك، ثم تمضي في مزيد من تقويض ما تبقى من حصون منظومة الوساطة؟ الطرح التقليدي المقابل، أي المشكك في النخب بدل الدولة، يرى أن المقصود هو إيجاد حل لمشكلة انهيار الأحزاب، وأنالدولة لن تقف مكتوفة الأيدي، ريثما تشعر الأحزاب والنخب بدورها، وتخرج من أزمتها، وأنه ريثما يحصل ذلك،ستتوجه الدولة بنفسها إلى المجتمع لتوظيف الكفاءات والأطر التي لم تستوعبها الأحزاب بسبب من بيروقراطيتها أونمطها التنظيمي المغلق. لكن هل يبلغ الأمر بالدولة حد الاستعاضة بالكفاءات عن العملية السياسية برمتها، وهلتعتقد أنها ستكون بديلا عن النخب في تنزيل مخرجات هذه اللجنة على واقع الأرض في شكل سياسات عمومية، وهلستقوم الدولة بنفسها بإقناع الجمهور بفعالية هذه السياسات بعيدا عن النخب، أم ستتولى بنفسها إقناع النخبللقيام بهذا الدور؟ التأمل في حاصل القولين يرى أن النتيجة واحدة، فسواء تعلق الأمر برغبة الدولة في التمدد علىحساب النخب، أم تعلق بشعورها بضرورة ملأ فراغ النخب، فإنها ستكون من جديد أمام تحدي نخب السياسة لتقومبدورها في تنزيل نموذج تنموي لم تكن شريكا فعليا في صناعته. لا أميل شخصيا إلى الفكرة التي يتم تقاذفها من كون مزاج النخب العليا محكوم بفكرة أن السياسة مثلها مثلمشروع كبير بمدير عام قائد، مدروس من الناحية التقنية بشكل احترافي، ولا ينتظر من سوى أن يتحول فيه الجميعإلى أدوات تنفيذ سريع دون معيقات مسطرية أو بيروقراطية قانونية، وربما، حتى دستورية. لا أميل إلى هذا الرأي، وتقديري، أن أخطاء السياسة قادت إلى وضع سياسي لم تعد النخب العليا تتحمله، بل لم تعدتتحمل القواعد غير المنضبطة التي تدار بها اللعبة، لاسيما أمام واقع الفراغ الذي فرضه غياب المنافسين، وفشلمشروع حزب السلطة (البام) ومحدودية الرهان على أحزاب الإدارة، وأن فكرة لجنة النموذج التنموي، تجد فهمهاوتفسيرها في الطريقة التي تم بها تعديل حكومة العثماني في شهر أكتوبر الماضي، أي حضور قوي لتيارتقنوقراطي نافذ مع حد أدنى للسياسة تضمنها التمثيلية السياسية الموجودة في الحكومة. مضمون الفكرة، أن السلطة تبحث عن حزب سياسي جديد، أو، ربما، تخوض تمرين تهييء شروط قيام حزب سلطةآخر، تظهر تركيبة اللجنة نموذجه الفكري، وكفاءاته التقنية، وتعدد اختصاصاته المالية والثقافية والإعلامية والدينيةوالفنية والبحثية، وتجذره في بيئة المال والأعمال. وإلى أن تأخذ السلطة وقتها ومداها في تحقيق هذا المشروع، تتجه إلى منطقة وسط، بحضور تقنوقراطي قوي بحدأدنى من التمثيلية السياسية، مع تجدد الجدل داخل مكوناتها حول سؤال التعاطي مع حزب العدالة والتنمية فيالانتخابات المقبلة.