عندما قرر الطاقم أن يشد الرحال ذات فجر من 5 غشت 2019 إلى الدواوير النائية بجماعات: “أوناين“، “إيجوكاك” و“تفنوت“، كان لزاما أن نقطع الصلة بالمدينة وما تتيحه من كماليات استهلاكية وتواصلية، لننصهر في بوتقة نمطمغاير من العيش سمته المميزة التقتير وشح الموارد، ونحن في ترتيبات الاستعداد اقتنينا بعض المواد الغذائيةوالأدوية التي يمكن أن نحتاج إليها والقليل من الملابس والأغطية الخفيفة في حقائب رياضية يصل وزنها إلى 38 كيلوغراما، وهو وزن يتحول مع ساعات المشي الطويلة وقلة الأوكسجين إلى قطعة من العذاب، كانت البداية من منطقةسيدي وعزيز بضواحي مدينة تارودانت، حيث شدة القيظ وقت الظهيرة، وهي نقطة التماس بين عالمين مختلفين،أحدهما ينتمي للعصر الحالي والآخر ما زال في عداد عصر الظلمات، تابعنا السير مرورا بدواوير: أيت السايح،المداد، دويسكر، إلى أن دخلنا تراب قبيلة أوناين وأمضينا ليلتنا الأولى بالمسجد في ضيافة سكان المنطقة، ثم شددناالرحال صبيحة اليوم التالي إلى منطقة “أكنضيس” بقبيلة إيجوكاك حيث مررنا بدواوير: دالاسك، تغبارت، المغزن،تجغيجت، تزكارت، إغير، تغرويست، أيت موسى، أكرضا، أتقي، فدوار أيت أيوب، الذي حللنا فيه ضيوفا على أسرةمحماد أجرور، لنُعرَج صبيحة اليوم الثالث على دوار أوارك الذي اضطررنا للتوقف به لمدة يوم واحد لنلتقط الأنفاسوليلتئم جرح رجلي اليمنى، توجهنا مع أولى إطلالات فجر اليوم الرابع صوب الدواوير التابعة لقبيلة تفنوت: تيزغين،أمزالكو، أسارك، تسولت، ميزكنات، أربعاء توبقال، إمليل، وصول إلى دوار إمسوزارت الذي ارتحنا فيه يوما واحد،لنشد رحال العودة في اليوم السادس عبر دواوير: ألمكان، وونزورت، أكادير، تانميكر، تديلي، أيت لكير، أيتمراخ،تمسطنت أكويم وصولا إلى مدينة مراكش نقطة انطلاقتنا الأولى. عندما يسدل الليل خيوطه كنا ننصب خيمتينا بالقرب من أحد المنابع المائية ونجمع الحطب ونُعدُ موقدا من الأحجارنستخدمه للطهو والتدفئة، فتتطلع إلينا أعين السكان بفضول وسرعان ما كانوا يأتون إلينا لتقديم يد العون أو تزويدناب“تنورت” (خبز محلي) ويتبادلون معنا أطراف الحديث بنوع من التركيز الشديد لمعرفة أحوال المدينة ومستجداتها،وللحصول على بعض الضروريات كنا نلجأ إلى النظام العُرفي للمقايضة الذي يتعامل به السكان المحليون، فنتزودفي غالب الأحيان بالخبز ونعوضهم بدلا عنه بقطع من الحلوى والمصبرات، أما النقود فنادرا ما نحتاج إليها لأن العملةالمتداولة هي المواد الغذائية والتعامل بها أنجع من القطع النقدية. أثناء تنقلنا بين هذه الربوع المنسية كنا نهتدي إلى مجاري الوديان والمنابع المائية للاغتسال وتنظيف الملابس ونشرهاعلى الصخور أو أغصان الأشجار إلى أن تجف، وهو ما كان يثير حفيظة فتيات ونساء القرية، ذلك أن وظائف تنظيفوغسل الثياب هي من اختصاصهن، وهي مثار استهجان عندما يقوم بها أحد الرجال… في هذا الربورتاجالاستقصائي نتعرف على نمط عيش سكان ألفوا العزلة وتعايشوا معها، فما هي أمالاهم وآلامهم؟ وجع الانتماء للجبل (ما أجمل شجرة الدفلة، لولا مرارتها).. مثل أمازيغي وسط الامتداد الواسع لسلاسل جبلية مترامية تتراءى أطياف دواوير منسية ارتضى سكانها نمط حياة قاسية،تتوارى خلفها إكراهات معيشية تحيل نمط الحياة إلى تحديات يومية، تحديات تغزل المعاناة غزلا وتنسج منها قصةارتباط أزلي بمجال مقفر وقاس. تضطر بعض الأسر في حالة العوز والفقر المدقع إلى التضحية مؤقتا بأحد أفرادها للهجرة لكي يعمل بإحدى المراكزالحضرية القريبة لسد رمق الأفواه المطالبة بالرغيف، ثم العودة في أقرب فرصة ممكنة لمعانقة تضاريس دواويرهمالوعرة، لا يجدون لأنفسهم انتماء خارج هذه الجبال الممتدة، “حسن إدعلي” خمسيني ورب أسرة من خمسة أفراديكسب قوت يومه من رعي الماعز بين الجبال، ويشتغل أجيرا بين الفينة والأخرى لمن يطلب خدمات تتطلب مجهودهالبدني، صرح “حسن” أن زياراته للمدن معدودة على رؤوس الأصابع وتقتصر في أغلب الأحيان على زيارة السوقبمدينة تارودانت، فالمدينة مرتبطة في ذهنه بالانحلال الأخلاقي والسرقة وأغلب ساكنيها أناس قساة وماكرون، لذلكفالمرات القليلة التي يقصد فيها مدينة تارودانت يتخذ كل احتياطاته لكي لا يقع ضحية غش أو سرقة، أما الجبال فرغمقساوة مناخها ووعورة تضاريسها إلا أنها تشكل ل“حسن” حصن أمن وأمان وتوفر له ضرورياته المعيشية ولا حاجةله للمدينة إلا للضرورة القصوى التي تستدعي الحصول على بعض الأدوية، ارتباط حسن بمجاله الجبلي لا يقل عنولع مجموعة من الفتية ب“دوار أوارك” الذين يعتبرونه جنة الله في الأرض، رغم أن منسوب جريان الواد الذي يعبرالمنطقة قد تراجع في السنوات الأخيرة، فولاؤهم للجماعة وللقبيلة ولاء مطلق ولا يفكرون يوما بالعيش في مكان آخر،وبدواوير جماعة أوناين التي نضبت عيونها وجفت آبارها، ما زال أغلب سكانها متشبثون بالعيش بها، ويُمنُون النفسبأن تعود المنطقة إلى سابق عهدها لنسيان الفقر والفاقة، في انتظار ذلك اليوم يستمر الأجداد والآباء في سرد أمجادمنطقتهم للأبناء والأحفاد لتقوية وجع الانتماء للجبل. العطش يضرب دواويرالأطلس (متعبة أيتها البغلة وقد وصلت المرتفع.. فلا الكلام يجدي فيك ولا الهراوة).. مثل أمازيغي لطالما شكلت الجبال خزانا كبيرا للمياه، غير أن منطقة أوناين ضواحي مدينة تارودانت تشهدُ على هذه القاعدة دونغيرها من المناطق الجبلية، فعلى مد البصر ترتسم خيوط السراب، وتزيد من كثافتها درجة حرارة تصل إلى 38 درجةمئوية، كنا نتوقع أن يكون الجو باردا فإذا بنا أمام قيظ شديد، وعلى طول الطريق كانت تظهر بين الفينة والأخرى بقاياسواقي تشير معالمها غير الواضحة إلى أن الماء لم يجري بها منذ مدة طويلة، بتوغلنا أكثر بمنطقة أوناين تتبدىمظاهر الجفاف بشكل واضح، أشجار ضامرة إلا من بعض الوريقات، وأراض جرداء يسود فيها اللون الترابي علىغيره من الألوان. يروي السكان المحليون أن الدواوير التابعة لجماعة أوناين كانت حتى أواسط الثمانينات منطقة غنًاء وافرة الظلالوالثمار، تتوزع بها أعداد وفيرة من المنابع والعيون المائية، ويتندَرون فيما بينهم بالقول إنه “تكفي إزالة صخرة مالينفجر ينبوع مائي من تحتها..”. باستثناء فصل الشتاء بردائه الأبيض فإن المنطقة كانت تتدثر بالأخضر طيلة ماتبقى من السنة، غير أنه مع توالي سنوات الجفاف في أواسط التسعينات من القرن الماضي نضبت المنابع وجفتالآبار فأضحى سكان العديد من الدواوير مُجبرين على قطع مسافات طويلة من أجل التزود بالماء، ونتيجة ذلك تخلًىأغلب الفلاحين على أنشطتهم الزراعية والرعوية والتحقت فئة الشباب بالمدن القريبة لتأمين حاجيات أسرهم، لاسيمابعد أن فشلت محاولات حفر آبار على عمق 130 مترا دون أن يتم التزود بالماء الكافي، فأغلبها يجف بعد ساعتينعلى أكثر تقدير من الاستغلال اليومي. أرخى الليل خيوطه الأولى فاضطررنا للمبيت بدوار أوناين، وقبل أن ننصب خيمتينا أخبرنا السكان المحليون أنالحشرات السامة من العقارب والثعابين تنتشر بشكل كبير بالليل، وقاموا بدعوتنا للمبيت بمسجد الدوار، وصبيحةاليوم التالي لم نجد قطرة ماء بصنابير قاعة الوضوء، طرقنا أبواب المنازل المجاورة، واعتذر لنا ساكنوها بأنهم هوالآخرون من دون ماء وسينتظرون حتى المساء إلى أن يتم تشغيل محرك ضخ الماء في صهريج التخزين لتزويدمجموع ساكنة الدوار، غادرنا دوار أوناين بدون قطرة ماء وتركنا خلفنا أسرا تئن تحت وطأة العطش. دواوير معزولة خارج زمن التطور (لا يعرف قساوة برد الشتاء إلا ذاك الذي لا قميص له).. مثل أمازيغي طيلة مسارنا الاستطلاعي كنا نجد أنفسنا غير ما مرة في عزلة شبه تامة بدون طرق معبدة، أو شبكة اتصالاتهاتفية، وحده الفراغ والامتداد اللامتناهي لكثل صخرية متشابهة يؤثث المجال، فكنا ننحرف عن الطريق مراتعديدة، ونستمر في التقدم لبضع ساعات إلى أن نجد راعي أغنام يرشدنا إلى الوجهة المطلوبة، وتزداد صعوبة هذهالمسالك عندما تختفي المنابع المائية ونضطر مُكرهين إلى مجابهة العطش لساعات إضافية إلى أن نهتدي إلى أقربتجمع سكاني. في حديثنا مع بعض السكان أسروا أنهم ألفوا العزلة التي يعيشونها، فحتى الإحصاء لم يتم إحصاؤهم، ومن النادرجدا أن يزورهم مسؤول ما خارج فترة الانتخابات، كثيرا ما وعدهم مرشحون بشق الطرق وتوسعتها لفك العزلة، إلا أنتلك الوعود لم تر النور قط، باستثناء بعض الدواوير المحظوظة التي بدأت تستشرف بوادر التغيير، كما هو الشأنبالنسبة لدواوير قبيلة إيجوكاك بمنطقة أكنضيس وهي: دالاسك، تغبارت، المغزن، تجغيجت، تزكارت، إغير،تغرويست، أيت موسى أكرضا، أتقي، أيت أيوب، حيث بدأت هذه الدواوير في السنوات الأخيرة تعرف بعض أشغالالتوسعة للتخفيف من الحوادث المأساوية التي كانت تعرفها، وقد عاينا بشكل مباشر بقايا شاحنة سقطت في قاعيالوادي في وقت سابق. باستثناء بعض الدواوير المحظوظة التي تكون في العادة قريبة من مقر المجلس الجماعي المسير أو الأسواقالأسبوعية، فالعديد من الدواوير الأخرى التي لا يمكن الوصول إليها إلا مشيا أو بواسطة الدواب، تعيش في عزلةتامة خارج عقارب ساعة مغرب الألفية الثالثة، كما هو الشأن بالنسبة للدواوير المتواجدة بين دوار أوناين ومنطقةأكنضيس عبر المسار الغابوي، ودواوير قبيلة تفنوت: تيزغين، أمزالكو، أسارك، تسولت، ميزكنات، أربعاء توبقال،إمليل، إمسوزارت، ألمكان، وونزورت، أكادير، تانميكر، تديلي، أيت لكير، أيتمراخ، تمسطنتأكويم… طرق تداوي تقليدية تُعوض غياب المستشفيات (مريض قديم أفضل من مُداو جديد).. مثل عربي وصلنا منهكي القوى إلى دوار أوارك قبيل غروب الشمس، ما كدنا نصل إلى المكان الذي سننصب فيه خيمتينا حتىشعرت بأداة حادة تخترق باطن قدمي اليمنى، فتبيًن أنه مسمار حاد صدئ قام مرافقاي بالضغط على الجرح ليلفظالسموم الكامنة فيه، وعندما حاولت المشي تعذر علي ذلك فالجرح تحول إلى ورم ينتفخ شيئا فشيئا، استفسرنا عنمستشفى أو مستوصف قريب فأخبرنا الأهالي أنه بعيد عن المنطقة ويتطلب المرور بأزيد من ستة دواوير أخرى منأجل الوصول إلى تفنوت التي يتواجد بها مستوصف يقدم الإسعافات الأولية. تعذر علينا مواصلة المشي فلجأنا إلى الطريقة التقليدية التي يعتمدها السكان المحليون منذ غابر العصور، حيث قامعبد الكريم بتسخين السكين جيدا ثم كيه ليطرح سمومه الداخلية، فاضطررنا أن نمكث يوما آخر بدوار أوارك لكييلتئم الجرح قليلا. يفتقر سكان المناطق الجبلية إلى الحد الأدنى من الخدمات الصحية، وأغلب المستوصفات المتواجدة بالمراكز القريبةيقتصر دورها على تقديم الاسعافات الأولية وتوجيه المرضى صوب مستشفيات مدينتي مراكشوأكادير، وأمامالغياب شبه التام للمؤسسات الصحية يهتدي السكان إلى التداوي بالطرق التقليدية، وذلك باستخدام الأعشابوبعض الطرق العُرفية المتوارثة عن الأجداد، وأفصح العديد من السكان أن أغلبهم لم يزر المستشفى قط، وذلكلصعوبة التنقل التي تثقل كاهلهم بمصاريف إضافية، كما أن أغلبهم لا يثقون في المؤسسات الاستشفائية، فحسبرأي بعض المتدخلين نادرا ما تعالج المستشفى المرضى الذين يقصدونها، وذلك لأن الأطباء في نظرهم غير أكفاء،وتبقى طرق التداوي التقليدية هي الأنجع والأقل تكلفة، ويوجد بين السكان أفراد يطلق عليهم اسم “الحكيم” أوالحكيمة” يُعرفون بمهارتهم الفائقة ووصفاتهم التقليدية الدقيقة في علاج بعض الأمراض، غير أنه في السنواتالأخيرة ومع تناقص عدد “القابلات“- هن النساء الخبيرات في التوليد– يلجأ السكان إلى مستوصف صغير بدوارأمزالكو ويكابدون من أجل الوصول إليه الكثير من العناء، كما يقوم سكان بعض الدواوير المعزولة في فصلالتساقطات الثلجية بحمل النساء الحوامل فوق الأكتاف على نعش خشبي يستخدم لحمل الأموات من أجل الوصولإلى أقرب مستوصف أو دار للولادة، وتنتج عن ذلك العديد من حالات الوفاة في صفوف النساء الحوامل ومواليدهن. الزواج برجل من المدينة.. حلم الفتاة الجبلية (إذا ما أحس النحل بالاطمئنان ينسج) مثل أمازيغي طيلة اليومين اللذين مكثنا فيهما بدوار إمسوزارت، كانت تتطلع إلينا بفضول أعين فتيات قرويات في مقتبل العمريتهامسن فيما بينهن ويبتسمن، كما كن يساعدننا في غسل الثياب والأواني ويحاولن خلق جسر للحوار والتعارف،ورغم أن سكان الدوار محافظون جدا إلا أنهم يغضُون الطرف عندما يتعلق الأمر بحوار بسيط بين إحدى فتياتهن مععابر سبيل قادم من المدينة، لأنهم يرون في ذلك مشروع زواج قد يعود بالنفع على فتياتهم لانتشالهن من دوامة الفقروالفاقة، ويفتح في الآن ذاته لباقي أفراد الأسرة فرصة الانفتاح على المدينة. صرًح علي أيت وحمان، شاب ذو 21 ربيعا، أن الفتاة المحظوظة بأعالي جبال الأطلس هي تلك التي تنتقل للعيشبالمدينة، ولن يتأتى لها ذلك إلا بالاقتران بعريس قادم من هناك، فهذا الزواج هو فرصتهن الذهبية للانعتاق من الأعمالالشاقة التي تبدأ مع مطلع الفجر ولا تنتهي إلا بعد ساعات متأخرة من الليل، ذلك أن المرأة الجبلية تضطلع بمهامتتجاوز عادة ما يقوم به الرجل، فهي مطالبة منذ الساعات الأولى بالأشغال المنزلية بالإضافة إلى جمع الحطب وجلبالماء والكلأ للأغنام، كما تقوم بعض الفتيات بمهمة الرعي إذا تعذر على الأسرة استئجار راع، تشتد حدة هذه المعاناةفي فصل الشتاء عندما تتدثر المنطقة بالثلوج ويضطر الرجال للهجرة إلى المدن من أجل العمل، حينها تقوم النساءبوظائف مزدوجة، ولعل أصعبها عندما يتعين عليهن التوغل إلى الغابات وقطع الأخشاب ثم جلبها فوق ظهورهن إلىالبيت وسط درجة حرارة تتراوح ما بين 5 و10 درجات مئوية. بمنطقة إمسوزارت كان لنا حوار مع فاطمة، فتاة ذات الأربعة عشر ربيعا، تتابع دراستها بتفوق بإحدى المؤسساتالتعليمية المجاورة، احتلت الرتبة الأولى في صفها وتُمني النفس بإتمام دراستها الثانوية، وهو ما يحتم عليها السفرإلى مدينة مراكش حيث يوجد أقرباء لها، غير أن هذا الخيار يبقى محط شك لديها، لأن والدها يرفض فكرة سفرهاخوفا عليها من الانحراف، ويفضل بدلا عن ذلك تزويجها خلال السنتين القادمتين على أبعد تقدير، مشيرة في السياقذاته إلى أن أختها التي تكبرها بثماني سنوات تم تزويجها في مثل سنها من شاب زار المنطقة قادما من مدينة الدارالبيضاء، ويتمنى والدها أن تحظى هي الأخرى بزوج من المدينة. غير بعيد عن دوار أيت أيوب، ألقينا التحية على فتيات يجمعن الحشائش وهن يترنمن بأهازيج أمازيغية محلية، رحبنبالحديث معنا، بدون مواربة وبشكل مباشر سألتنا “رقية” ذات الخامسة عشر ربيعا: هل ترغبون بالزواج؟ تفاجأنابالسؤال وأجبت: نحن عابرو سبيل ليس إلا. أجابت على الفور: إذا كانت نيتك صادقة، فيمكن لأحدكم أن يفاتح أسرتي في الموضوع ولن تتطلب المراسيم أكثر منيومين، بعدها أسافر مع أحدكم زوجة له على سنة الله ورسوله. بهذه الطريقة تمت العديد من الزيجات بمنطقة أكنضيس بدون تعقيدات مالية أو طقوسية، “النية الصادقة” تكفيأفراد أسرة العروس لمباركة الزواج والدعاء لهما بالسداد، ونادرا جدا ما تحدث حالات الطلاق، ذلك أن ولاؤهنلأزواجهن ولاء شبه مطلق في كل ما يتعلق بشؤون الحياة. في السياق ذاته، ما زال زواج القاصرات شائعا في العديد من الدواوير بأعالي جبال الأطلس مع ارتفاع معدلاتالهدر المدرسي، لاسيما في صفوف الفتيات، فأغلبهن يغادرن حجرات الدراسة في وقت مبكر، وذلك لمجموعة منالأسباب، كتلك التي تحث على الزواج المبكر للفتاة لصون عفتها وضمان التزامها بالعادات والتقاليد المتعارف عليها،فالفتاة العانس ذات الطالع السيء– بالنسبة للمعتقدات المحلية– هي تلك التي يصل سنها إلى 24 ربيعا ولم تتزوجبعد، لذلك يتعين على أسرتها أن تقوم ببدل العطايا والصدقات وفي بعض الأحيان التبرك ببعض الصلحاء لفك عقدتهاوتيسير زواجها. الفقر والمعتقدات المحلية تُجبر الأطفال على ترك حجرات الدراسة (الجبل عال والركبة متعبة.. ويحي تخلى عنها النخاع في حياتها) محمد مستاوي: شاعر أمازيغي تعاني قبائل أوناين، إيجوكاك وتفنوت من ارتفاع معدلات الهدر المدرسي وتفشي معدلات الأمية بشكل كبير لاسيمافي صفوف النساء، فمن خلال المعطيات التي توصلنا بها من فاعلين جمعويين شباب بمنطقة أوناين، يُقدر عددالتلاميذ الموزعين على أربع مركزيات تعليمية ب1101 تلميذ، 543 في صفوف الاناث و558 في صفوف الذكور،ونسبة تمدرس الفتيات متقاربة مع الذكور، وإن كان عددهن يتجاوز الذكور كما هو الشأن بمركزية تمتركة التي وصلفيها عدد التلميذات إلى 211 مقابل 187 من المتمدرسين الذكور. تتوقف المسيرة الدراسية لأغلب الأطفال في مرحلة التعليم الابتدائي، حيث يقدر مجموع التلاميذ في السنوات الثلاثلمرحلة الثانوي الإعدادي ب285 تلميذا فقط، منهم 100 في صفوف الإناث، إذ تراجع عددهن من 49 تلميذة فيالسنة الأولى إلى 21 في السنة الثالثة، فيما تراجع عدد الذكور من 84 إلى 41، كما يتقلص عدد الشباب المتمدرسإلى أكثر من النصف في مرحلة التعليم الثانوي التأهيلي، وعدد قليل جدا منهم من يحصل على شهادة الباكلوريا. تعود أسباب ارتفاع الانقطاع الدراسي إلى قلة وبُعد المؤسسات التعليمية عن مقر سكن التلاميذ، بالإضافة إلىعوامل أخرى تجد مبررها في الظروف المعيشية القاسية للمنطقة، وفي ترسُخ بعض المعتقدات التي تُلخَص الوظيفةالأساسية للمرأة في الإنجاب والأشغال المنزلية. الخوف من مخاطر محدقة (جرى الوادي فطم على القرى) مثل عربي لازمني إحساس الخوف طيلة مسار الرحلة على غير العادة في استطلاعاتي السابقة، وتزايد منسوبه إلى درجةالهلع عندما وجدنا أنفسنا ضائعين بالوادي المتواجد بين بحيرة إفني ومنطقة أكنضيس، ومع أولى الزخات المطريةارتبكنا ونحن نضع أمام أعيننا السيناريو السيئ، وهو أن الأمطار التي تسقط في مثل هذه الفترة من السنة تنتجعنها فيضانات عاصفية، ويبقى الحل الوحيد حينها، هو العثور على أقرب مسلك يقود إلى أعلى الجبل، فعالية الجبلآمنة على سافلته في مثل هكذا حالات مفاجئة. في الهزيع الأخير من الليل كانت الأمطار بمنطقة إمسوزارت تقطع حبل نومنا وندخل في سباق مع قطراتها لجمعالملابس لكي لا تتبلل وإحاطة الخيمتين بقطعة بلاستيك طويلة لكي لا يتسرب الماء إلى الداخل، إلا أن ذلك لم يكنيحول دون أن يتسرب الماء من الأسفل، فنهتدي إذاك إلى حفر جداول صغيرة تقود الماء بعيدا عن مكان تواجدالخيمتين، فنمكث في الداخل مستيقظين إلى أن يتوقف المطر، وندرك حينها أنه سيكون من الصعب صبيحة اليومالموالي أن نحصل على وجبة الإفطار لأن الحطب سيكون مبللا بالكامل. كنا نعتزم صبيحة يوم السبت 11 غشت على بعد يوم واحد من عيد الأضحى أن نشد رحال العودة إلى مراكش علىمتن إحدى حافلات النقل المزدوج بدوار إمسوزارت، غير أن السكان أخبرونا أنها ستنطلق في الساعة الثانية صباحاوستكون محملة بالماعز والأغنام إلى زبناء بمدينة مراكش، لم يكن أمامنا خيار آخر، لأنه نفدت منا مدخراتنا الغذائيةوإذا فوتنا هذه الفرصة (الذهبية) سنكون مجبرين على المكوث بالمنطقة وانتظار أن تستأنف الحافلة عملها (غيرالمؤكد) ما بين سبعة إلى عشرة أيام بعد عيد الأضحى. انطلقت بنا الحافلة في الظلام الدامس عبر مسالك وعرة غير معبدة ورائحة الماعز تطغى على غيرها من الروائح،السائق يترنم على إيقاعات موسيقية أمازيغية وكأن السياقة بين هذه المنعرجات الخطيرة مجرد تمرين روتيني لايستدعي القلق، علما أن عرض الطريق غير المعبدة لا يتجاوز المترين، وأقل هفوة ستهوي بنا إلى أسفل واد يصل عمقهإلى أزيد من 2500 متر، تنفسنا الصعداء عندما خرجنا من طريق “أكويم” المرعب، فعرجت بنا الحافلة على الطريقالوطنية تشكا التي تعد أخطر الممرات الطرقية على الإطلاق بالمغرب، ففي تلك الليلة ذاتها، عايننا ثلاثة حوادث سيرخطيرة… وصلنا إلى مراكش وألسنتنا تلهج بحمد الله حمدا كثيرا على سلامة العودة. لم يغادرني إحساس الخوف إلا بعد أن أدركت أننا نجونا من فاجعة طبيعية كان من الممكن أن نكون في عدادضحاياها، ولعله كان حدسا استباقيا، فبعد أيام قليلة من عودة طاقمنا شهدت جبال الأطلس سلسلة من التساقطاتالرعدية والفيضانات الجبلية لم يعرف المغرب مثيلا لها منذ ثمانينات القرن الماضي، حيث تسببت الأمطار الرعدية يومالأربعاء 24 يوليوز 2019 في وفاة أزيد من 16 شخصا تحت الأنقاض عند النقطة الكيلومترية 230 المتواجدة بينجماعتي إيجوكاك وأسني نتيجة انجرافات صخرية، كما عرفت بلدة إمي نتيارت بدائرة إغرم نواحي مدينة تارودانتبتاريخ 28 غشت 2019 وفاة سبعة أشخاص وجرح آخرين بالإضافة إلى خسائر مادية جسيمة، وجدير بالذكر أنطاقمنا قد مر قبل ذلك من مجموعة من الدواوير التي استهدفتها الأمطار الرعدية. أثارت الفيضانات وما خلفته من خسائر مادية ومعنوية الرأي العام الوطني، وخلَفت ردود أفعال قوية عبر مواقعالتواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الوطنية، التي أشارت إلى ضرورة تحسين نمط عيش ساكنة الجبل وفك العزلةعنها، وضرورة اتخاذ الإجراءات الاستباقية للوقاية من أخطار الفيضانات والكوارث الطبيعية المحدقة بها.