سيدي شمهروش..عندما تمتزج الأسطورة بالتفكير الخرافي ضريح ملك الجن على بعد ثلاث ساعات من المشي في مسالك جبال الأطلس الكبير من منطقة “إمليل”، تظهر منطقة نحتت جغرافيتها بقايا صخور صلبة سقطت من أعالي الجبال في واد دائم الجريان، تتوسطها صومعة مسجد بالقرب منها صخرة كبيرة بيضاء اللون يعلوها علمين أحدهما أبيض والأخر يمتزج به لونين: أخضر وأحمر مثلثين الشكل، تتوزع بها دكاكين وبيوت صغيرة وغرف استحمام تتناوب بعض النسوة على الدخول اليها، ويسمع بين الفينة والأخرى تردد صيحات وصرخات عالية تتسبب في إخافة بعض طيور الغربان التي تنتشر بشكل واسع بالمنطقة . إنها المنطقة التي يوجد بها ضريح “سيدي شمهروش” كما يسميه السكان المحليون، الذي اتخذ مكانه تحت صخرة ضخمة بيضاء اللون، وشمهروش هذا حسب الرواية المحلية هو ملك الجن الذي جعل من هذه المنطقة محكمة له، للفصل في النزاعات التي تحصل بين “الجنون” فيما بينهم، وبينهم وبين الإنس. كانت وراء استقرار ملك الجن “شمهروش” بهذا المجال أسطورة ذكر أحد العارفين بها من أبناء المنطقة، أن ملك الجن استوطن في وقت سابق ب”عين تالامومن” بالقرب من دوار “إمليل” الذي يبعد عن مراكش بحوالي سبعين كيلومترا، وكان يلحق الأذى بكل من اقترب من العين للسقي أو الشرب منها، فالتمس الساكنة من “مولاي عبد الله بن احساين” أحد الأولياء الصالحين بالمنطقة التوسط لهم واقناع “شمهروش” بالسماح لهم للإستفادة من ماء العين، فتم لهم ذلك، وطلب الولي الصالح منه أن يخلي المنطقة ويسكن ب”أدرارن إدرن” بالأطلس الكبير، فقبل ملك الجن الطلب واشترط على الولي الصالح أن يمنحه مسافة أمان لكي لا يلحق به الأذى، وقدَرها بالمسافة التي تسمح للحصان الذي يمتطيه بأن يتصبب عرقا، وهي من “تالامومن” الى “أكادير تساوت” وتحولت جراء مرور شمهروش منها منذ تاريخ تلك الواقعة الى اليوم الى منطقة جرداء لا غرس فيها ولا كلأ، بعدما كانت مخضرة وافرة العطاء، واسترسل نفس المتحدث في القول أن ملك الجن وصل الى منطقة “أدرارن إدرن” ليلة يوم خميس من شهر غشت في سنة مجهولة، وواكب دخوله للمنطقة رياح قوية وضباب كثيف وهيجان الماء، ومنذ ذلك التاريخ حلت بركة ملك الجن “شمهروش” بالماء المنساب عبر الوادي بالمنطقة. وقسم القائمون على تنظيم الإقامة بالضريح ذلك الماء الى ثلاثة عيون: الأولى للنساء، والثانية للرجال والثالثة مختلطة، وتصلح هذه المياه حسب نفس المتحدث لفك السحر ومس الجن، وتيسير زواج النساء العوانس، وتغيير سوء الطالع..الخ منطقة شمهروش حسب الرواية الشفوية المحلية يتناوب على حكم منطقة “أدرارن إدرن” خلال الأسبوع الى جانب “الملك شمهروش” الذي يحكم يوم الخميس ستة ملوك أخرين منهم: “الملك الأبيض” يوم الجمعة، “الملك الأحمر” يوم الثلاثاء، “الملك الأسود” يوم السبت، “الملك الأزرق” يوم الأربعاء و”الملك مورا” يوم الأربعاء. ووفق نفس الرواية فوَض الملوك الستة للملك المسلم شمهروش ترأس مجلس محكمة الجن للفصل بين المتنازعين من الإنس والجن، لما يتميز به من قوة وجبروت، وتقضي أعراف المحكمة أن يقيم الشخص “المسكون” من طرف الجني الذي استولى بموجب عقد على جسمه وعقله بالمنطقة لمدة قد تطول أو تقصر حسب ما تقره المحكمة، وذكر لنا “عبد الكبير.ر” (40 سنة) أحد النزلاء الذين طال مقامهم بهذا المجال لما يزيد عن عشرة سنوات، أن جنيا يسكن جسده بشكل متوارث عن جده وأبيه المتوفيان اللذان كان يسكنهما نفس الجني، وطيلة فترة إقامته فيه لازمه الشؤم وسوء الطالع وقلة الرزق، وبعد التحاقه بمحكمة الجن ب”سيدي شمهروش” شعر بنوع من التحسن لكنه لم يتعافى بشكل كامل، وهو ما زال ينتظر الموعد الذي يعلن فيه “رجال المكان” عن خلاصه وتحرره، وفي انتظار ذلك الموعد استأجر لنفسه دكانا لصنع وبيع الخبز لتوفير مصاريف الإقامة. وحسب الرواية المحلية فإن فترة إقامة الشخص “المسكون” بالمنطقة هي بمثابة مدة السجن والعقوبة التي أصدرتها المحكمة في حق الجني، وبموجب خروج هذا الأخير من الذات الإنسانية المسكونة يتطلب العقد المبرم بالمقابل توفير مجموعة من الشروط التي يحددها الجني من قبيل: نحر ديك أسود أو خروف أقرن أو معزة سوداء… يشرف على مراسيم الزيارة داخل الضريح فقهاء من منطقة “بويا عمر” ومن “تساوت” الذين يتكلفون بتحديد الطقوس والمعايير الواجب توفرها لقضاء الحاجة التي جاء من أجلها الزائر، وتتجلى مظاهر إحدى تلك الطقوس في الإستحمام سبع مرات ، اشعال شموع سوداء اللون وأخرى بيضاء في بعض الأماكن المخصصة لها داخل الضريح وخارجه في بعض المغارات القريبة… حاول فريق عمل الجريدة الدخول الى الضريح لكن تعذر عليه الأمر، بعدما منعنا المشرفون الذين أقلقتهم تحركاتنا بالمنطقة، وصرحت بعض المصادر التي فضلت عدم الكشف عن هويتها أن العائدات المادية للضريح يقتسمها الفقهاء والمقدمين فيما بينهم، وقيمة هذه العائدات تبقى سرية بين المستفيدين، ورجح مصدرنا أنها عائدات مهمة نظرا لطول فترة إقامة بعض الزوار ولارتفاع ثمن البخور، ناهيك عن العديد من التحايلات التي يقوم بها الفقهاء باسم المتطلبات على جيوب الزوار الذين يكونون في غالب الأحيان مستعدين لبدل الغالي والنفيس من أجل إتمام ما جاؤوا من أجله، خاصة خلال فترة الأوج التي تكون بين شهري يونيو وغشت، واللافت للإنتباه أن أغلب الزوار هم من النساء الشابات في مقتبل ربيع العمر وشبان يافعون، بالإضافة الى شيوخ متقدمين في السن تكبدوا مشاق السفر من العديد من المدن المغربية وتحملوا عناء المشي لساعات في مسالك جبلية وعرة للوصول الى الضريح الذي يعتقدون أنه يحمل مفاتيح خلاصهم وسعادتهم المفقودة. تبقى المنطقة مجالا خصبا للدراسات الأنتربولوجية، السوسيولوجية والدينية لفك طلاسم هذه المعتقدات وكشف الحد الفاصل بين الحقيقة والخرافة وتحديد الأنساق الثقافية الاعتقادية المنتجة لهذه الطقوس الغريبة والشعائر المحيرة، التي تنهل من سذاجة بعض الأفراد وانتشار الأمية وقلة الوعي واستفحال التفكير الذي يقتات على الخرافة وضعف الوازع الديني، عاكسة بذلك الوجه الأخر المشوه لنسيج التراث المغربي المتجدر في عمق التاريخ. على ضوء هذا الواقع، الى أي حد يستوي الحديث عن المغرب الحداثي المتقدم؟ منطقة “أكنضيس”..هبة الأطلس الكبير دوار ايت يوب بمنطقة أكنضيس إذا استطاع المؤرخ الإغريقي “هيردوت” الذي عاش خلال الخامس قبل الميلاد، أن يصف العطاء الوافر الذي يجود به نهر النيل على بلاد الكنانة بقوله” أن مصر هبة النيل”، فإن القولة نفسها تصلح للإستعارة أثناء الحديث عن المياه الوفيرة التي تجود بها جبال الأطلس الكبير على منطقة “أكنضيس” التي توجد بها مجموعة من الدواوير التابعة لتراب جماعة إيجوكاك وهي: تازكارت، إغير، تغرغيست، أيت موسى، أكرضا، أتقي، أيت يوب، تكندفين، إمنزال، أكنزضم وأنم. ارتبط وجود هذه الدواوير بالمجاري المائية الناتجة عن ذوبان الثلوج بمرتفعات الجبال، وبفضل هذه المياه الدائمة الجريان استقر الإنسان الأمازيغي على ضفاف الأودية منذ غابر العصور، واختط لنفسه مساكن في تناسق معماري بديع يتناسب وطبوغرافية المجال، فتظهر من بعيد كلوحة فنية غاية في الروعة والإتقان، كما استطاعت ساكنة المنطقة استغلال المياه المتدفقة ليل نهار في إيجاد زراعة معيشية توفر لهم أصناف عديدة من الخضروات والفواكه، فتحولت جنبات الدواوير التي كانت خاوية على عروشها الى جنان مخضرة تسر الناظرين، تجلب اليها صيف كل موسم سياحا مغاربة وأجانب تستهويهم روعة مناظرها الطبيعية ونقاوة نسيمها العليل. سالف القول قد يحيل للوهلة الأولى على أن ساكنة هذه المنطقة يعيشون في هناء نعيم وترف دائم، لكن واقع الحال غير ذلك، فما ذكرناه سابقا لا يعدو أن يكون مجرد سحابة عابرة تضل المنطقة بضلال مؤقتة خلال فصل الصيف، لتتركها عرضة لقساوة المناخ وشظف العيش مع أولى بشائر فصل الشتاء، حيث تتحول الدواوير الغناء الوافرة الضلال والغلال، الى تجمعات سكنية شبه مقفرة شديدة البرودة لا تتوفر فيها أدنى شروط العيش الكريم، وفي هذا الصدد صرح ” الحسين واجري” الكاتب العام لجمعية “دوار أيت يوب للبيئة والتنمية” أن أغلب شباب ورجال المنطقة يهاجرون قراهم بمجرد انقضاء فصل الصيف في اتجاه العديد من المدن المغربية القريبة، بحثا عن عمل من أجل توفير مصاريف عيش أسرهم، بعدما ضعفت إمكانية تحصيلها في دواويرهم الأصلية، فتساقط الثللوج خلال شهري دجنبر ويناير يتلف مزروعاتهم بشكل كبير، ويتسبب في تراجع مداخليهم التي هي في الأصل محدودة، وفي مثل هذه الظروف القاسية يتعذر توفير الكلأ للماشية، والأسوأ من ذلك حسب الكاتب العام لجمعية “دوار أيت يوب للبيئة والتنمية” أن الساكنة لا تجد ما تسد به رمقها الذي يقتصر في غالب الأحيان على “تانورت”(خبز محلي) والشاي وبعض القطاني في أحسن الأحوال، فما بالك بتوفير الكلأ للماشية الذي تعرف أسعاره ارتفاعا كبيرا إذ يتراوح ثمن التبن مابين خمسة وثلاثون وأربعون درهما، ويصل في بعض الأحيان الى ستون درهما، وعندما تنفذ مدخرات الفلاح تموت بعض رؤوس الأغنام ويضطر لبيع المتبقي منها بأثمنة بخسة، قد لا تتجاوز في السنوات الجافة مائتين وخمسون درهما أو ثلاثمائة درهم بالنسبة لرأس الخروف الواحد أو الماعز الذي تم تعليفه لمدة سنة ونصف أو سنتين. شاحنة تتجاوز الحمولة المسموح بها في طريق غير معبدة لا يتجاوز عرضها مترين ونصف على ارتفاع يتجاوز 300 متر وعن سعر بعض المواد الغذائية ذكر نفس المتحدث أن السعر الأصلي لبعض المواد خلال الأيام العادية تضاف عليه مصاريف النقل التي تتراوح ما بين عشرة وعشرون درهما حسب حجم ووزن البضاعة المقتناة، وخلال فصل الشتاء الذي يعرف انهيار بعض المسالك والطرق نتيجة تراكم الثلوج التي لا تسمح للسيارات التي تقل البضائع من الوصول الى الدواوير المحاصرة، يعتمد السكان في جلب المواد الغذائية على البغال التي تصبح وسيلة النقل الوحيدة المتوفرة، ويكلف ثمن كرائها بالنسبة للأفراد الذين لا يملكونها ما بين خمسون وسبعون درهما للتَنقل مرة واحدة الى السوق الأسبوعي ب”إجوكاك” الذي يقام يومي الثلاثاء والأربعاء، ويستغرق جلب المواد الغذائية على ظهر هذه الدواب مدة يومين كاملين. وقد يستمر انقطاع الطرق والمسالك حسب نفس المتحدث مدة خمسة أشهر، الى أن يتمكن سكان الدواوير المحاصرة بأنفسهم إصلاحها عن طريق التويزة وبعض المساهمات المادية. يتراوح ثمن قنينة لتر واحد من الزيت خلال فصل الشتاء ما بين ثمانية عشر وعشرون درهما، وعلبة الشاي عشرون درهما، ويصل ثمن كيلوغرام واحد من السكر الى خمسة عشرون درهما، ويرتفع سعر قنينة الغاز الكبيرة الى مائة درهم، أما بخصوص الدقيق المدعم فقد صرح الكاتب العام للجمعية المذكورة أن سعره محدد في مائة وعشرون درهما والكمية التي تخصص للدوار، الذي يضم حوالي ستة وتسعون كانونا هي ثلاثون كيسا فقط، موزعة بالتناوب على ثلاثون كانونا كل ثلاثة أشهر، علما أن الكانون الواحد قد يضم أسرة لها أربعة أبناء متزوجون وكل واحد منهم له ثلاثة أو أربعة أبناء على الأقل، فتنفذ الكمية في ظرف زمني وجيز لتجد الأسرة نفسها مرة أخرى في مواجهة ارتفاع سعر الدقيق غير المدعم الذي يصل ثمنه خلال الأيام العادية الى مائة وثمانون درهما وفي فصل الشتاء يرتفع الى مائتين وخمسون درهما. الظروف المعيشية الصعبة لسكان منطقة “أكنضيس” بمرتفعات جبال الأطلس الكبير تطرح علامات استفهام حول دور السلطات المحلية وعن المهام الموكولة اليها، وفي هذا الإطار صرح بعض الفاعلين الجمعويين أن عددا من المنتخبين الذين صوت عليهم السكان من أجل الدفاع عن مصالحهم الجماعية، روجوا لهم أثناء المعترك الإنتخابي الكثير من الوعود كتمكين الفلاحين من تربية أبقار التعاون الفلاحي، وجلب مشاريع تنموية الى المنطقة من أجل محاربة الهشاشة الإجتماعية والرفع من الدخل المادي الذي سيحول دون استمرار هجرة أبناء المنطقة الى المدن المجاورة..و..و.. لكن اتضح فيما بعد أن تلك الوعود لم تكن سوى أوهاما اختفت بمجرد انقضاء المعترك الإنتخابي وتواري منتخبيهم عن الأنظار لتستمر معاناة دواوير منطقة “أكنضيس” تحت وطأة الفقر وقساوة المناخ علما أن المنطقة تزخر بمخزون مهم من المعادن بأعالي الجبال وفق ما صرح به فريق تنقيب فرنسي، وفي هذا الإطار تجب الإشارة الى أن المعمرين الفرنسيين أثناء فترة الحماية قاموا سنة 1938 بإحداث معمل لعزل المعادن بمنطقة “المغزن” التي تبعد عن “إيجوكاك” بحوالي ثلاث كيلومترات، واستمرت فيه الأشغال الى غاية سنة 1953، للتتوقف بشكل كلي غداة تحقيق الإستقلال، ومنذ ذلك التاريخ توقفت بشكل كلي عملية استخراج المعادن الى حدود كتابة هذه السطور، ولم يبق من ذلك المشروع سوى بناية متآكلة وبعض المعدات الصدئة. والسؤال الذي يطرح نفسه ما الذي يمنع من إعادة الإستثمار في هذا المشروع؟ والى متى ستستمر معاناة ساكنة هذه المناطق التي تختزن إمكانيات طبيعية ومعدنية مهمة؟ حسن البوهي