استغرب الناس ما وَقَعَ، فقد نهش كلب الحراسة جسد أحد أبناء الحي القدامى، الذي ألِفه الناس رجلا خيّراً مستقيما، ومتفانيا في إسداء الخدمة العامة لسكان الحي، ثم إنهم لطالمَا شاهدوه وهو يُداعب الكلب ويقدم له الطعام، فماذا حصل إذن؟. استبعد الجيران فرضية أن يكون الكلب جائعا، فوجباته تُقدم له بانتظام من طرف الحارس، ثم إنه يتدبر أمره أحيانا بمعرفته الخاصة، كما أن مسألة إصابته بالسُّعار غير واردة، وإن كان انتقال هذا الداء، عبر معاشرة الكلاب الضالة، أمرا محتملا، وهو ما ضاعف من هلع وخشية السكان على أنفسهم وذويهم من عضات الكلب. وتساءل أحدهم قائلا: قد لا تنسب العَضَّة إلى كلبنا، فأجابه صاحبه: أخبرتني زوجتي أن عَاِئلة الضحية الحاج الفلاني أفادتها بأن كلب الحي هو الجاني !! لم يفطن السكان إلى أنهم لم يذكروا في مَدَاولتهم الحارس الليلي، وتدارك أحدهم ذلك قائلا، اسمعوا: سألت الحارس في الموضوع فلاذ بالصمت، وإذا كنا بالفعل خائفين على أنفسنا وأبنائنا من هذا الحيوان الشرس، وإذا كان الحارس بدوره مقصرا في الحماية، فلنتخذ قرارا بطرده وكلبه معا!! لم يجد الحارس بُدا من الجواب، بعد أن حاصره السكان بأسئلتهم، قائلا: في الهزيع من الليل، مر الحاج المَعْضُوض أمامي وَرَبتَ على ظهر الكلب، بعد هنيهة سَمِعْتُ النّباح، ثم صيحة أنين حادَة كسّرت سكون الليل. انتقلت على وجه السرعة متتبعا آثار الصياح، فوجدت الحاج يهم بفَتَحَ الباب الخلفي لشاحنة جارنا المخصصة للمواد الغذائية، ثم خَرَّ صريعا بعد أن أمعن الكلب في عضه مرديا إياه جريحا، هذا ما حصل بالفعل، وقد خشيت افتضاح أمره، فاستكنت للصمت !! ذُهل السكان لأمرين هامين: عظمة الخالق الذي أودع في الكلاب فضيلة الوفاء، إذ لم يقو الضحية على المراوغة، بل ذهبت مداعباته ومظهره الخارجي أدراج الرياح، ونَفَذ الكلب إلى مَكْنُونِ صدره، فاعتبره سارقا خائنا غدّارا بأبناء حيه، وعاقبه بما يملك من سلاح !! وذُهل السكان أيضا لقدرة الضحية على إيقاع أبناء الحي في الغلط، وتأكدوا أن الإنسان عاجز بمفرده مستطيع بكلبه، وتأكدوا مرة ثانية أن كلب الحراسة قادر على تنظيم الحارة، فلن يقوى أحد من أبنائها على الخروج في الظلام الحالك ليلا أو نهاراً لسرقة أهله !! لن يقوى أحد على تمثيل دور القدوة الحسنة، فهناك حارس أمين، لا ينتظر صدور حكم القضاء ليُنَفّذ الجزاء، فعقوبة الجاني بين فكيه، إذ يستوي عنده الفاعل/ الجاني سواء أكان غريبا أو من أهل الدار !! ليست الحكاية من وحي الخيال، بل هي مستوحاة من واقعنا الحي. لقد بلغ وفاء الكلب منزلة، وهي ما جعلت الشاعر البدوي يقول على سجيته مادحا الخَليفَة: «أنت كالكلب في وفائه»، لم يغضب الخليفة، ولم يدعَن لتأليب المنافقين، لكنه أوصى بإكرام وِفادة الشاعر الصادق حتى استقام اللفظ لديه والمعنى فقال: عُيُونُ المَهَا بَيْنَ الرُّصَافَةِ والجسْر أقْبَلنَ مِنْ حيْثُ يَدْري ولا يَدْري لو ضُربَ عنق الشاعر أو قُطِّعَت يداه وأوصاله لما تغنت الأجيال بأخلاق الخليفة، ولما ردّدت أبيات الشاعر!!
رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]