تحلّ هذا الاثنين 18 نونبر، ذكرى عيد الاستقلال الذي يحتفل به المغرب في هذا التاريخ منذ اعتلاء الملك الراحل، الحسن الثاني، عرش البلاد في مستهل عقد الستينيات من القرن الماضي. وإذا كان الاعتراف الدولي الرسمي باستقلال المغرب مؤرخ في العام 1956، فإننا سنكون بصدد الاحتفال بالذكرى 63 للاستقلال. لكن التاريخ الرسمي المعتمد في الاحتفال بخروج الحماية الفرنسية من البلاد، أي 18 نونبر، يحيل على اليوم الثاني بعد عودة الملك الشرعي للبلاد، الراحل محمد الخامس، من منفاه الاستعماري، وإلقائه خطابا رسميا إلى الأمة، كان بمثابة إعلان للاستقلال، ما يعني أننا بصدد الذكرى 64. في قلب المتاهة التي يدخلها عادة الباحثون عن استجلاء الحقيقة الفعلية لما جرى في لحظة الخروج من قيد معاهدة الحماية الموقعة عام 1912، وما سبقها من معاهدات ومؤتمرات دولية سلبت المغرب كامل سيادته وأدت إلى تفتيت إرثه الإمبراطوري، توجد حقيقة ثابتة، مفادها أن المخاض الذي عاشه المغرب بين عامي 1953 و1955، كان أكثر من مجرد صراع بين شعب واستعمار، بقدر ما كان تدافعا مريرا بين عديد القوى الداخلية والخارجية، حول تحديد مصير وملامح وحجم الدولة التي سيكونها المغرب بعد عبوره مرحلة الاستعمار. نافذة أمريكية المعطيات والوثائق التي يوفّرها الأرشيف الرسمي، سواء للمغرب أو لمحتليه السابقين، الفرنسيون والإسبان، لا يقول الكثير خارج ما هو متداول منذ سنوات الاستقلال الأولى، وهو ما تردده السردية التقليدية التي بُنيت في سياق يتسم بالحماسة والسعي إلى بناء لحمة وطنية جديدة تتجاوز تمزّقات المرحلة الاستعمارية. وحده أرشيف غني بالأسرار والمعطيات تحوزه وكالة الاستخبارات الأمريكية (السيا)، يجود بين الفينة والأخرى بنُتف من الوثائق والتقارير والبرقيات التي جرى توثيقها في تلك اللحظة المصيرية بالنسبة إلى المغرب، ما يسمح باستجماع معطيات تكميلية أو توضيحية لما هو متوفر من روايات. وقفت “أخبار اليوم” على نشر ما يناهز 30 وثيقة جديدة من الأرشيف السري الأمريكي حول مخاض استقلال المغرب، خلال الشهور العشرة التي مرّت من العام 2019. وثائق لا تضيف الكثير إلى ما سبق لهذه الجريدة أن تناولته في السنوات القليلة الماضية حول أسرار تلك المرحلة، إلا أنها تسلّط المزيد من الأضواء على جانبين أساسيين ظلا غائبين عن السرديات المتداولة حتى الآن، وهما كلّ من الدور الدولي في التحضير للحظة استقلال المغرب عن فرنسا، وخاصة منه الدور الأمريكي الذي لم نكن نعرف عنه أكثر مما تجود به الروايات الرسمية الممجدة لمؤتمر أنفا في يناير 1943، والذي ضمّ كلا من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل وقائد تحرير فرنسا من الغزو النازي الجنرال دوغول، والذين جلسوا جميعا إلى مائدة محمد الخامس. أما الجانب الثاني، فهو المرتبط بالوضع الداخلي للمغرب، حيث حسم النصف الأول من عقد الخمسينيات، طبيعة النظام السياسي الذي أصبح عليه المغرب بعد استقلاله، حيث كانت جميع السيناريوهات مطروحة على الطاولة، لكن الوطنيين المغاربة فرضوا على فرنسا إعادة النظام الملكي إلى طبيعته وشرعيته الأصلية، قبل أي تفاوض حول ما بعد الحماية. صراعات دولية في الواجهة الدولية، من بين آخر ما كشفت عنه الوثائق السرية الأمريكية المنشورة خلال العام الحالي، وثيقة مؤرخة في 10 نونبر 1955، أي أسبوعا واحدا قبل عودة محمد الخامس إلى المغرب، تقول فيها المخابرات الأمريكية إن مسؤولا كبيرا في الخارجية الفرنسية، طلب من الممثلين الدبلوماسيين الأمريكيين في باريس، التفكير في فتح مباحثات ثلاثية، فرنسية أمريكية بريطانية، بخصوص مستقبل المغرب. وتوضح الوثيقة أن المسؤول الفرنسي يقصد دراسة مستقبل الوضع الدولي للمغرب في حال التخلي عن معاهدة الحماية الموقعة عام 1912، ووثيقة مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي انعقد عام 1906، والذي كانت روسيا طرفا فيه. باريس كانت تخشى إقدام إسبانيا على لعب الورقة الروسية، في حال عدم التوصل إلى اتفاق معها حول مستقبل المغرب. بعد الفقرتين المخصصتين لنقل هذه الوقائع، تنتقل الوثيقة إلى التعليق عليها من منظور أمريكي، وتقول إنه وبعد عودة السلطان محمد بن يوسف، فإن محادثات مغربية فرنسية ستنطلق لتحديد معالم المستقبل. وتضيف الوثيقة أن الوطنيين المغاربة أصروا على إلغاء معاهدة الحماية، وهو ما باتت فرنسا تقبله باعتباره حتمية. في المقابل، تسجل الوثيقة اعتراض إسبانيا على أي تغيير في هذه المعاهدة، وتلوّح بالدعوة إلى مؤتمر دولي، في حال الإقدام على ذلك دون موافقتها. وتضيف الوثيقة أن مدريد تتخذ هذا الموقف رغم أنها ليست طرفا في معاهدة الحماية الموقعة بين المغرب وفرنسا، وهو ما يفسّر، حسب الوثيقة، سعي فرنسا إلى إحراز التأييد الأمريكي البريطاني كي تقطع الطريق على أي تحرك إسباني. جزء من الوثائق السرية الجديدة التي رفعت عنها السرية ضمن أرشيف الاستخبارات الأمريكية، يكشف أن البعد الجيو استراتيجي الدولي، كان حاضرا في معركة استعادة المغرب لسيادته واستقلاله. فإلى جانب الوضع الدولي الذي كانت تتمتع به مدينة طنجة، والامتيازات التي كانت جل السفارات الأوروبية تتمتع بها داخل المغرب إلى جانب الحمايتين الفرنسية والإسبانية، فإن بعدين أساسيين طبعا المسار الذي أفضى إلى استقلال المغرب بالطريقة التي احتفظ بها التاريخ. البعد الأول، يتمثل في الصراع الفرنسي الإسباني، ولعبت فيه الجارة الشمالية للمغرب دور “المعارضة” تجاه السياسات الفرنسية نحو المغرب. فيما يتجسد البعد الثاني، في الحضور الأمريكي القوي على الساحة المغربية، والذي أعلن عن نفسه رسميا مع دخول واشنطن على خط الحرب العالمية الثانية، ومجيء الرئيس فرانكلين روزفلت إلى الدارالبيضاء عام 1943، ولقائه بالسلطان محمد الخامس. مخاض داخلي أما على المستوى الداخلي، فإن الدور المحوري الذي قام به الوطنيون المغاربة، تؤكده وثيقة للاستخبارات الأمريكية تحمل تاريخ 5 نونبر 1955، أن الوطنيين المغاربة يواصلون ضغوطهم لمنع السلطان ابن يوسف من تقديم التنازلات قبل عودته إلى المغرب، “فيما تبدو فرنسا حريصة على انتزاع اتفاق مع محمد بن يوسف قبل عودته”. وتخلص الوثيقة الأمريكية إلى أن تحركات الوطنيين المغاربة تجعل الشك يخيم حول احتمال استعادة الهدوء في البلاد بمجرد عودة محمد بن يوسف. وثيقة جديدة أخرى رفعت عنها واشنطن السرية، وهي مؤرخة في 14 أكتوبر 1955. تحذر هذه الوثيقة الاستخباراتية من احتمال وقوع تمرد في صفوف القوات الفرنسية المنتشرة بالمغرب، من جانب الضباط والجنود المغاربة المنتمين إلى صفوفها. وتضيف الوثيقة إن التمرد المحتمل مرتقب في شهر نونبر المقبل، على أن يتزامن ذلك مع تصعيد لعمليات جيش التحرير المغربي ضد فرنسا، وذلك بهدف الحصول على المزيد من الأسلحة والمعدات من يد الجيش الفرنسي. وتعلّق الوثيقة على هذه الوقائع بالقول إن حالات قليلة تم تسجيلها بالفعل لتمردات وانسحاب من صفوف الجيش من جانب المغاربة، “كما أنه من المعروف أن الوطنيين المغاربة نجحوا في اختراق عدد من الوحدات المغربية، لكن هذه الأنباء هي الأولى التي تتحدث عن إمكانية حدوث تمرد شامل في مجموع البلاد”. وتضيف الوثيقة أن قرابة ربع القوات الفرنسية المنتشرة في المغرب، البالغ تعدادها 70 ألف رجل، هم مغاربة، موضحة أن امبارك البكاي نفسه، الذي كُلّف بتشكيل الحكومة، يعتبر من عناصر الاحتياط للجيش الفرنسي. الوطنيون المغاربة لم يكونوا الفاعل الوحيد في المشهد الداخلي للمغرب. وثيقة مؤرخة في 6 شتنبر 1955، تقول إن المستوطنين الفرنسيين يعارضون بشدة الاتفاق الذي توصل إليه الوطنيون والفرنسيون بعد جلسات “إيكس ليبان”. هؤلاء الفرنسيون يرفضون بشدة، حسب الوثيقة، التعاون مع الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، ويمارسون ضغوطا كبيرة على السلطان المنصّب، محمد بن عرفة. هذا الأخير تحول إلى عبئ ثقيل بالنسبة لفرنسا، حيث تقول الوثيقة إن المظاهرات المطالبة برحيله تتزايد، وإن المقيم العام الفرنسي قد يعمد إلى عزله بالقوة لتنفيذ التزامات فرنسا مع الوطنيين. لكن ترتيبات الحل، الذي سيفضي إلى إعلان استقلال المغرب، بدت واضحة في وثيقة استخباراتية أمريكية مؤرخة في 2 نونبر 1955، حيث أصبحت فرنسا مستعدة لاستقبال محمد الخامس العائد من منفاه بمدغشقر. الوثيقة الاستخباراتية الأمريكية، تضيف أنه ورغم الدعم الذي تبديه اسبانيا لمحمد بن يوسف، إلا أنها لم تكن ترغب في عودته وقتها. مدريد حسب الوثيقة الأمريكية، كانت لها انتظارات أكبر من سياسة تقاربها مع العالم العربي، “وأي تفاهم بين فرنسا وابن يوسف، سيهدد هذا الدور الذي حاولت إسبانيا لعبه، ويفرض ضغوطا كبيرة على مدريد كي تقبل بحلول مماثلة لما تم تطبيقه في المنطقة الفرنسية، داخل المنطقة الخاضعة لنفوذها من المغرب”. ألغاز “إيكس ليبان” التفاهم المغربي الفرنسي الذي أفرزته محادثات “إيكس ليبان” تحمله وثيقة سرية أمريكية مؤرخة في 5 شتنبر 1955، رفعت عنها السرية في السنوات الأخيرة. بنود الاتفاق تتمثل حسب الوثيقة في تغيير المقيم العام الفرنسي، الجنرال كراندفال، وتعويضه ببوايي دولاتور. هذا الأخير تصفه الوثيقة الأمريكية بغير الشعبي سواء لدى المستوطنين الفرنسيين أو المغاربة. أما ثاني نقطة في التفاهم، فتتمثل في إقامة مجلس للعرش يشرف على الترتيبات الأولية لعودة محمد بن يوسف إلى إقامة فرنسية. وثيقة سرية جديدة جرى نشرها حديثا، تحمل تاريخ 2 أكتوبر 1955، كشفت عن شكوك أمريكية كبيرة حول إمكانية تشكيل مجلس للعرش بمجرد مغادرة محمد بن عرفة للرباط وعزله من الحكم. وتضيف الوثيقة أن المقيم العام الفرنسي بالمغرب، لم يحصل على دعم اليمينيين الفرنسيين المتشددين لفكرة عزل ابن عرفة، إلا بعدما منحهم تنازلات بخصوص تشكيل مجلس للعرش. في المقابل، تقول الوثيقة إن الوطنيين المغاربة سيرفضون أي تغيير لما تم الاتفاق حول بهذا الخصوص، وذلك بعد لقاءات “إيكس ليبان”. وتحذر الوثيقة من احتمال عودة الوطنيين المغاربة إلى التصعيد في منتصف أكتوبر في حال طرأ أي تغيير في الاتفاق المبرم. ما توقعته الاستخبارات الأمريكية يوم 2 أكتوبر وقع بالفعل، في وثيقة بتاريخ 18 أكتوبر 1955، تسجل الاستخبارات الأمريكية ردود فعل غاضبة من جانب قادة حزب الاستقلال بعد تعيين مجلس العرش، ورفضهم بالتالي المشاركة في الحكومة التي كان يفترض أن يقودها الفاطمي بن سليمان. وتوضح الوثيقة أن الوطنيين المغاربة يريدون من فرنسا أن تعترف أولا، باستقلال المغرب وتتفاوض حول معاهدة جديدة معه لتعوض معاهدة الحماية لعام 1912. يوم الانبعاث تتحدّث المصادر التاريخية الرسمية عن “الأعياد الثلاثة”، والتي تتمثل في كل من يوم عودة محمد الخامس من منفاه بعد توقف مؤقت في فرنسا، أي يوم 16 نونبر 1955، واليوم الموالي الذي يسمى “عيد الانبعاث”، ثم اليوم الثالث الذي يصادف عيد العرش حينها. عيد الانبعاث الذي يصادف 17 نونبر، هو اليوم الذي أعقب عودة محمد الخامس، وتميّز باستقباله الوفود الممثلة للقبائل والجهات والأعيان في المشور السعيد بالقصر الملكي، وهي المراسيم التي أشرت لاستعادة المغرب لسيادته ولذلك سمّي بعيد الانبعاث. “الآن، وقد تجلت أهدافنا، يجب عليكم أن تتمسكوا بحبل الإخاء وتتجنبوا ما يؤدي إلى التفرقة والبغضاء، إذ لا نجاح يرجى إلا بصفاء القلوب، وتوحيد الصفوف، حتى نكون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا”، يقول الملك الراحل محمد الخامس في خطاب 18 نونبر 1955، الذي كان إعلانا رسميا للاستقلال، بغض النظر عن الشكليات القانونية التي ستأتي لاحقا. الموساوي العجلاوي قال ل”أخبار اليوم” إن هذا الخطاب كان متميزا واستثنائيا، “لأنه لم يكتف بإعلان استعادة السيادة، بل كان مليئا بعبارات التأكيد على إقامة نظام فصل السلط والملكية الدستورية والديمقراطية، وهو ما ظلّ يميّز خطب محمد الخامس في السنوات الأولى للاستقلال، أي بما يشير إلى التوجه نحو ملكية برلمانية”.