في ظروف تاريخية وسياسية شبيهة بتلك المعتادة في جل دول العالم، كان المغاربة سيحتفلون هذا السبت بالذكرى 63 لعيد استقلالهم. ففي مثل هذا اليوم من العام 1956، أي يوم 2 مارس، شهد مقر الخارجية الفرنسية توقيع إعلان مشترك ينهي قانونيا مفعول معاهدة 30 مارس 1912، والتي فرضت بموجبها فرنسا حمايتها على المغرب. فقرات مقتضبة وسط بروتوكول بسيط واهتمام إعلامي متوسط، جرى الإعلان رسميا عن “استقلال” المغرب عن فرنسا، لكن ذلك اليوم، لم يعد يمثل عند المغاربة سوى شارع يتيم يحمل تاريخ 2 مارس، أحد أكبر الشوارع بمدينة الدار البيضاء. يومها جلس امبارك البكاي، رئيس أول حكومة، سمحت فرنسا بتشكيلها في المغرب، ووزير الخارجية الفرنسية كريستيان بينو، ووقعا على وثيقة من بضع فقرات، تُرسِّم ما سبق الاتفاق عليه في مفاوضات “إيكس ليبان” وإعلان “سان كلو”، وملحق يرتب بعض الخطوات التي ينبغي القيام بها. توّجت تلك الجلسة نحو ثلاث سنوات من المخاض العسير الذي مر منه المغرب منذ نفي ملكه محمد الخامس، وما تلا ذلك من أحداث سياسية جعلت استعادة المغرب لملكه الشرعي رديفا لحصوله على الاستقلال، حيث كان البكاي المقرب من القصر يوقع تحت النظرة الفاحصة لرجل البلاط ومدير التشريفات السلطانية، الفقيه محمد المعمري الزواوي، فيما يجلس الوزراء المتحدرون من الحركة الوطنية في الصف الخلفي، في مشهد سيحكم السلطة في المغرب منذ ذلك الحين. إعلان الاستقلال ماذا تقول هذه الوثيقة؟ في استحضار خاص لمعاهدة الحماية التي جرى توقيعها في 1912، تفتتح الاتفاقية بالتأكيد على أن الأمر يتعلق بتفاهم بين حكومة فرنسا و”حكومة جلالة الملك”، يقضي بإعطاء مفعول قانوني لاتفاقية “سان كلو” التي تم توقيعها متم 1955. وتضيف الوثيقة كما لو كان الأمر يتعلّق بمجرد تحيين لمعاهدة 1912، بكون هذه الأخيرة لم تعد “مطابقة لمقتضيات الحياة العصرية، ولا يمكن أن تكون أساسا لأن تتحكم في العلاقات الفرنسية المغربية”. في الفقرة الموالية، تعلن الحكومة الفرنسية اعترافها الرسمي باستقلال المغرب، “مع ما يقتضيه من وجود جيش وتمثيل خارجي”، وعزمها على العمل على احترام وحدة الأراضي المغربية “المضمونة بالاتفاقات الدولية”. عبارات فضفاضة سيتبين في وقت لاحق أنها لم تضمن للمغرب حقوقه الترابية لا في الشرق ولا في الجنوب. البروتوكول الملحق بالوثيقة الأساسية، يتضمن ما يشبه تمديد العمل بالوضع القائم حينها، حيث يحفظ لفرنسا استمرار وجودها العسكري في المغرب، وحقها في الاطلاع على الظهائر التي سيصدرها ملك المغرب وإبداء الملاحظات عليها مسبقا في حال مساسها بالمصالح الفرنسية، ويفرض الإشراف الفرنسي على تشكيل جيش مغربي، وعدم تسليم “ميادين التسيير” التي توجد بيد الفرنسيين إلا بعد التوصل إلى اتفاقات، واستمرار عمل المغرب بعملة “الفرنك”، وجعل ممثل فرنسا لدى المغرب يحمل صفة “مندوب فرنسا السامي”، عوض لقب السفير المعمول به بين جميع دول العالم. هي إذًا أهم وثيقة وقعها المغرب طيلة القرن 20، حسب المؤرخ المعطي منجب، والذي يعتقد أن النسيان طال هذه الوثيقة “عنوة”. لكن ماذا عن التاريخ؟ هل ينقاد بهذه السهولة لاختيارات السلطة السياسية؟ “لقد أجمع المؤرخون المغاربة على أن كتابة التاريخ الراهن للمغرب، الذي يبدأ مع السنوات الأولى للاستقلال، تعتريه إشكالات معرفية ومنهجية متعددة”، يقول سعيد الحاجي، أستاذ التاريخ. مضيفا “أن كتابة التاريخ الراهن تحيلنا بالضرورة على ما تنتجه ذاكرة الأشخاص الفاعلين في الأحداث التي عرفها المغرب في الفترة المدروسة، سواء أكان ذلك عبر الرواية الشفوية أو عبر كتابة السياسيين لمذكراتهم، من قبيل مذكرات عبدالرحمان اليوسفي وبنسعيد آيت يدر والهاشمي الطود وغيرهم … “، وهو ما يضعنا أمام الإشكال التالي: إلى أي حد يمكن اعتماد الذاكرة كمصدر من مصادر التاريخ؟ وهل يمكن أن تكون الذاكرة موضوعية بالشكل الذي يسمح بكتابة تاريخ سليم للمرحلة؟”. أسئلة يحيلها الحاجي على المؤرخ الفرنسي لوسيان فيفر لالتماس أجوبتها، حيث يقول: “إن الذاكرة غالبا ما تخضع للوصاية السياسية أو الدينية، وأن من مميزاتها إصدار الأحكام، بينما التاريخ على عكس ذلك يُخضع الحدث للدراسة والنقد تحت وصاية العلم، وهدف التاريخ هو تقديم الحقائق وتمحيصها وفق منهجية علمية دقيقة. لذلك، فإن كتابة التاريخ الراهن للمغرب تستوجب حذرا كبيرا على المستوى المنهجي حتى لا ننساق وراء الخلفيات السياسية”. عيد العرش.. عيدا للاستقلال يعتبر التاريخ الرسمي يوم 18 نونبر 1955 عيدا للاستقلال، وهو اليوم الذي كان يصادف ذكرى عيد العرش في عهد محمد الخامس، وصادف في تلك السنة عودته من المنفى قبل يومين وإلقائه أول خطاب كملك لدولة مستقلة. المراجع الرسمية تتحدّث في هذا الصدد عن “الأعياد الثلاثة”، والتي تتمثل في كل من يوم عودة محمد الخامس من منفاه بعد توقف مؤقت في فرنسا، أي يوم 16 نونبر 1955، واليوم الموالي الذي يسمى “عيد الانبعاث”، ثم اليوم الثالث الذي يصادف عيد العرش حينها. الأستاذ الجامعي المتخصص في التاريخ، الموساوي العجلاوي، أوضح ل”أخبار اليوم” معنى “عيد الانبعاث” الذي يصادف 17 نونبر، بالقول إنه “اليوم الذي أعقب عودة محمد الخامس، وتميّز باستقباله الوفود الممثلة للقبائل والجهات والأعيان في المشور السعيد بالقصر الملكي، وهي المراسيم التي أشرت لاستعادة المغرب لسيادته، ولذلك سمّي بعيد الانبعاث”. “الآن، وقد تجلت أهدافنا، يجب عليكم أن تتمسكوا بحبل الإخاء وتتجنبوا ما يؤدي إلى التفرقة والبغضاء، إذ لا نجاح يرجى إلا بصفاء القلوب، وتوحيد الصفوف، حتى نكون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا”، يقول الملك الراحل محمد الخامس في خطاب 18 نونبر 1955، الذي كان إعلانا رسميا للاستقلال بغض النظر عن الشكليات القانونية التي ستأتي لاحقا. الموساوي العجلاوي قال ل”أخبار اليوم” إن هذا الخطاب كان متميزا واستثنائيا، “لأنه لم يكتف بإعلان استعادة السيادة، بل كان مليئا بعبارات التأكيد على إقامة نظام فصل السلط والملكية الدستورية والديمقراطية، وهو ما ظلّ يميّز خطب محمد الخامس في السنوات الأولى للاستقلال، أي بما يشير إلى التوجه نحو ملكية برلمانية”. أسرار المفاوضات أول الكتب التي أصدرها المعهد الملكي لتاريخ المغرب، المؤسسة التي تأسست حديثا، تضمّن معطيات وتفاصيل مثيرة وجريئة عن التاريخ الحديث للمغرب، لكنه سكت بشكل شبه كلي عن هذه المرحلة الحساسة. يقول الكتاب إن مشاورات “إيكس ليبان” (غشت 1955) أدت إلى تمهيد السبيل لعودة السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى عرشه في 16 نونبر 1955، وتشكيل حكومة البكاي الأولى، ثم إلى اعتراف فرنسا باستقلال المغرب بتاريخ 2 مارس 1956. فيما يذهب المؤرّخ الراحل عبدالكريم الفيلالي، في حوار سابق مع “أخبار اليوم”، إلى أن المفاوضين المنتمين إلى حزب الاستقلال كانوا خلال مفاوضاتهم مع الفرنسيين، قد قبلوا بمبدأ عدم عودة محمد الخامس إلى المغرب، “وهو ما ظلّ الحسن الثاني متأثرا به، وهذا من حقّه”. ويضيف المؤرخ الراحل في الحوار ذاته، “أن هذا ما يفسّر كون الحسن الثاني “أصبح محاطا بعدد من الخونة أو الذين تعاملوا مع الاستعمار. فقد كان الاستقلاليون متلهفين لتحقيق ما حقّقته تونس التي حصلت على الحكم الذاتي، ولو ضمن لهم الفرنسيون أن يحكموا المغرب، لتخلو عن محمد الخامس. فكان أول من اقترب من ولي العهد هو محمد أوفقير، وتوالى التحاق الخونة، وهنا أخطأ، لأنه حمّل حزب الاستقلال بكامله خطأ شخصين فقط، هما محمد اليزيدي وعمر بن عبد الجليل، هذا الأخير كان هو المسؤول المالي لحزب الاستقلال، والذي أسس البنك الشعبي”.. هذه الرواية ينفيها بشدة قادة حزب الاستقلال، إذ يؤكّد الشاهدون منهم على كواليس تلك المرحلة على أن مطلب عودة السلطان كان شرطهم الأول والأخير قبل الدخول في أي مفاوضات. لكن السؤال الذي لا يجيب عنه شهود المرحلة، هو السقف الذي وقفت عنده تلك المفاوضات، والذي جعل البعض يعتبر ما حصل عليه المغرب حينها استقلالا شكليا. فالزعيم التاريخي لمنطقة الريف، الراحل محمد بن عبد الكريم الخطابي، كان أحد أبرز القائلين بشكلية هذا الاستقلال، لمحدودية مجاله الجغرافي، والشروط الاقتصادية والعسكرية التي رافقته. ففي مستهل العام 1962، أي شهورا قليلة بعد وفاة الملك محمّد الخامس، وتولي ابنه مولاي الحسن عرش المملكة، أجرى الخطابي حوارا مطولا مع جريدة “أخبار الدنيا” المغربية بمقر إقامته في منفاه الاختياري بالعاصمة المصرية القاهرة. الخطابي قال حينها “إنه تراجع بالفعل عن وعد سابق قدّمه لمحمد الخامس، يقضي بعودته إلى المغرب، وذلك بسبب استمرار الوجود العسكري الفرنسي في المغرب”. شروط محمد الخامس التفاهم المغربي الفرنسي الذي أفرزته محادثات “إيكس ليبان” تجسده وثيقة سرية أمريكية مؤرخة في 5 شتنبر 1955، رفعت عنها السرية في السنوات الأخيرة. بنود الاتفاق تتمثل، حسب الوثيقة، في تغيير المقيم العام الفرنسي، الجنرال كراندفال، وتعويضه ببوايي دولاتور. هذا الأخير تصفه الوثيقة الأمريكية بغير الشعبي سواء لدى المستوطنين الفرنسيين أو المغاربة. أما ثاني نقطة في التفاهم، فتتمثل في إقامة مجلس للعرش يشرف على الترتيبات الأولية لعودة محمد بن يوسف إلى إقامة فرنسية. خطوة تقول الوثيقة إن إزاحة ابن عرفة مازالت تعيقها، بسبب الاعتراضات الشديدة من جانب المستوطنين ومن يساندهم. “على الأقل، هناك وزير الدفاع الفرنسي الذي يعارض عزل ابن عرفة، مقابل سعي وزير الخارجية إلى تنفيذه. وفيما تكشف الوثيقة انتقال موفدين فرنسيين إلى مدغشقر للاتفاق مع ابن يوسف حول ترتيبات العودة، تقول الوثيقة إن هذا الأخير اشترط اعتراف فرنسا بكون نفيها له عام 1953 كان خطأ، وذلك بشكل علني. كما اشترط محمد الخامس إيقاف فرنسا عمليات “الإرهاب” التي يقوم بها المستوطنون الفرنسيون بالمغرب. كما أوضح محمد الخامس للمبعوثين الفرنسيين، أنه لن يصدر أي تصريح قبل مغادرته مدغشقر. وثيقة مؤرخة في 6 شتنبر 1955، تقول إن “المستوطنين الفرنسيين يعارضون بشدة الاتفاق الذي توصل إليه الوطنيون والفرنسيون بعد جلسات “إيكس ليبان”. هؤلاء الفرنسيون يرفضون بشدة، حسب الوثيقة، التعاون مع الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، ويمارسون ضغوطا كبيرة على السلطان المنصّب، محمد بن عرفة. هذا الأخير تحول إلى عبء ثقيل بالنسبة إلى فرنسا، حيث تقول الوثيقة إن: “المظاهرات المطالبة برحيله تتزايد، وإن المقيم العام الفرنسي قد يعمد إلى عزله بالقوة لتنفيذ التزامات فرنسا مع الوطنيين”. ترتيبات الحل الذي سيُفضي إلى إعلان استقلال المغرب، بدت واضحة في وثيقة استخباراتية أمريكية مؤرخة في 2 نونبر 1955، حيث أصبحت فرنسا مستعدة لاستقبال محمد الخامس العائد من منفاه بمدغشقر. الوثيقة الاستخباراتية الأمريكية، تضيف أنه ورغم الدعم الذي تبديه إسبانيا لمحمد بن يوسف، إلا أنها لم تكن ترغب في عودته وقتها. مدريد حسب الوثيقة الأمريكية، كانت لها انتظارات أكبر من سياسة تقاربها مع العالم العربي، “وأي تفاهم بين فرنسا وبن يوسف، سيهدد هذا الدور الذي حاولت إسبانيا لعبه، ويفرض ضغوطا كبيرة على مدريد كي تقبل بحلول مماثلة لما تم تطبيقه في المنطقة الفرنسية، داخل المنطقة الخاضعة لنفوذها من المغرب”. المطالب الإسبانية من بين أولى الإشكالات التي ظهرت لحظة الشروع في إلغاء معاهدة الحماية، كانت اختلاف الأوضاع القانونية لأجزاء التراب الوطني، بين خاضع للحماية الفرنسية ومندرج تحت الحماية الإسبانية، ومنطقة دولية في طنجة، وصحراء مستعمرة من طرف إسبانيا وأراض شرقية مستعمرة من طرف فرنسا ومندرجة ضمن المجال الجزائري… “إسبانيا لم تكن تعتقد أن فرنسا ستعترف باستقلال المغرب، وتسمح بعودة السلطان إلى العرش؛ وعندما أخذت تلوح بوادر حل الأزمة المغربية في أعقاب محادثات “إيكس ليبان”، وظهرت المؤشرات الأولى لعودة السلطان إلى فرنسا، أخذت مدريد تهدد بفصل المنطقة الخليفية، حيث مارس ضغوطا على الخليفة ليعلن نفسه سلطانا بها”، يقول كتاب المعهد الملكي للبحث التاريخي، مضيفا أن هذه المناورات الإسبانية أثارت غضب الوطنيين، وأدت بعبدالخالق الطريس إلى تقديم استقالته من الحكومة الخليفية، جاعلا بذلك حدا لتجربة التعاون مع السلطات الإسبانية، “قبل أن يلتحق بمدينة طنجة، حيث أعلن يوم 18 مارس 1956 عن خطوة جريئة تستهدف قطع الطريق أمام كل مناورة إسبانية تروم عرقلة استكمال المغرب لاستقلاله ووحدته؛ وتتمثل هذه الخطوة في القرار الذي اتخذه بدمج حزب الإصلاح الوطني في حزب الاستقلال”. جزء من الوثائق السرية الجديدة التي رفعت عنها السرية ضمن أرشيف الاستخبارات الأمريكية، يكشف أن البعد الجيو استراتيجي الدولي، كان حاضرا في معركة استعادة المغرب لسيادته واستقلاله. فإلى جانب الوضع الدولي الذي كانت تتمتع به مدينة طنجة، والامتيازات التي كانت جل السفارات الأوروبية تتمتع بها داخل المغرب إلى جانب الحمايتين الفرنسية والإسبانية، فإن بعدين أساسيين طبعا المسار الذي أفضى إلى استقلال المغرب بالطريقة التي احتفظ بها التاريخ. البعد الأول، يتمثل في الصراع الفرنسي الإسباني، ولعبت الجارة الشمالية للمغرب دور “المعارضة” تجاه السياسات الفرنسية بخصوص المغرب. فيما يتجسد البعد الثاني، في الحضور الأمريكي القوي على الساحة المغربية، والذي أعلن عن نفسه رسميا مع دخول واشنطن على خط الحرب العالمية الثانية، ومجيء الرئيس فرانكلين روزفلت إلى الدار البيضاء عام 1943، ولقائه بالسلطان محمد الخامس. وثيقة مؤرخة في 21 يناير 1954، وهي عبارة عن “بيان موجز” موجه إلى مجلس الأمن القومي الأمريكي، تكشف عن خلفيات الموقف الذي عبّرت عنه إسبانيا حينها، والمتمثل في رفض قرار فرنسا نفي محمد الخامس. يتعلّق الأمر بمشروع إسباني كان يهدف إلى فصل المنطقة الشمالية الخاضعة لحماية مدريد، عن باقي التراب المغربي، وإعلانه مملكة مستقلة. وتضيف الوثيقة أن فكرة الإمبراطورية المغربية غير القابلة للتقسيم أصبحت مجرد وهم منذ 1912 بالنسبة إلى القانون الدولي، “ولا تنبني على واقع”. مناورات الكلاوي وثيقة أخرى مؤرخة في 14 غشت 1953، أي أسبوعا واحدا قبل نفي فرنسا لمحمد الخامس، يقول فيها مكتب الاستخبارات الراهنة، التابع لوكالة الاستخبارات المركزية، إن ارتفاعا حادا في التوتر شهده المغرب بسبب “المكائد” التي يقوم بها الباشا الكلاوي ضد السلطان “المعتدل والمتمكن سيدي محمد بن يوسف”. وتذهب الوثيقة الأمريكية إلى أن الخلاف الطويل بين السلطان والباشا الكلاوي، قد جرى اقتراح حلّه من خلال إقامة دولتين منفصلتين، واحدة يرأسها السلطان محمد بن يوسف، والثانية يرأسها الباشا الكلاوي. الاقتراح صدر حسب الوثيقة الأمريكية عن الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، “وليست هناك أي مؤشرات عن احتمال قبوله في باريس”. في هذا السياق، سيبرز الدور الأمريكي، ومن بين الوثائق المفرج عنها مؤخرا من الأرشيف السري للمخابرات الأمريكية، وثيقة مؤرخة في 21 يناير 1954، وهي عبارة عن “بيان موجز” (briefing) موجه إلى مجلس الأمن القومي الأمريكي (NSC). الوثيقة تحمل عنوان: “اشتعال الأوضاع في المغرب ” (flare-up in Morocco)، وتنقسم إلى ثلاثة أجزاء رئيسة. الجزء الأول يشرح الموقف الإسباني من تطور الأوضاع في المغرب، والجزء الثاني مخصص للموقف الفرنسي، فيما يستشرف الجزء الثالث النتائج الممكنة للتوتر بين البلدين. فبخصوص الموقف الإسباني، تقول الوثيقة الاستخباراتية الأمريكية، إن التوتر الحاصل حينها بالمغرب، ناتج عن مصالح معينة كانت تريد تحقيقها. هذه المصالح تتمثل، حسب الوثيقة نفسها، في استفزاز فرنسا والتموقع بشكل يسمح لإسبانيا عندما تحين الفرصة، بالحصول على مكانة مساوية لفرنسا داخل المغرب. مدريد تسعى، حسب الوثيقة الأمريكية، إلى الحصول على مكانة جيدة في العالم العربي، عبر تغذية الشعور المعادي لفرنسا، ودعم السلطان المعزول وتقديم وعود بمنح حكم ذاتي للمنطقة الخليفية. في تفاصيل مشروع الانفصال في شمال المغرب الذي أنهته توافقات 1955-1956، نجد إحدى الوثائق الأمريكية التي تشخص حالة الصراع بين فرنسا وإسبانيا مع اقتراب حصول المغرب على استقلاله، مرفقة بوثيقة أخرى تتضمن خلفيات الأحداث (background)، وتفسيرا للصراع الفرنسي الإسباني. الوثيقة تقول إنه “عندما قامت فرنسا بعزل السلطان محمد الخامس في 20 غشت 1953، أعلنت إسبانيا بشكل غير رسمي أن هذه الخطوة خرق أحادي الجانب لاتفاقية 27 نونبر 1912 التي أقامت الحماية الإسبانية في المغرب. وفي المقابل رفضت الاعتراف بخليفته محمد السادس”، تقول الوثيقة في إشارة إلى محمد بن عرفة. ويضيف البيان المرفق بالوثيقة الأمريكية، أن مدريد أطلقت يد الصحافة المقربة منها لمهاجمة القرار الفرنسي، فيما فتح الباب أمام الوطنيين القادمين من منطقة النفوذ الفرنسي، للحصول على اللجوء في المنطقة الخليفية في الشمال. جزء آخر من الوثيقة الاستخباراتية الأمريكية، يقول إن خلفيات التوتر الفرنسي الإسباني، تتضمن تلويحا إسبانيا قديما بخلق مملكة مغربية منفصلة عن المنطقة الفرنسية، “والصحافة المراقبة من طرف مدريد رددت ذلك كثيرا منذ شهر غشت الماضي”. وأوضحت الوثيقة الأمريكية أن اجتماع 600 من الوطنيين المغاربة المقربين من إسبانيا في مدينة تطوان يوم 20 يناير 1954، هو استعراض أمام الرأي العام، بهدف إدانة السياسة الفرنسية، وإبراز السياسة الإسبانية، وتجديد البيعة المقدمة للسلطان المعزول محمد الخامس، “والمطالبة بفصل الحماية الفرنسية عن بقية المغرب، وترقية الخليفة (نائب السلطان) إلى دور “الأمير المستقل”. وتضيف الوثيقة أن فكرة الإمبراطورية المغربية غير القابلة للتقسيم أصبحت مجرد وهم منذ 1912 بالنسبة إلى القانون الدولي، “ولا تنبني على واقع”. وتضيف أن فكرة الدولة الواحدة غير القابلة للتقسيم، تنبني على مبرر خاطئ، يتمثل في كون الخليفة هو مجرد ممثل للسلطان المغربي. وتضيف الوثيقة أن المنطقتين، الخليفية والسلطانية، أصبحتا تدبران بشكل منفصل ومتنافس، وتمضي الوثيقة الأمريكية في تقديم مبررات الانفصال الممكن، بالقول إن حتى إدارتي الحمايتين الفرنسية والإسبانية في المنطقتين، ترتبطان بعلاقات سطحية. توجس أمريكي هذا الاهتمام الأمريكي بالوضع في المغرب لحظة الاستقلال يكشف وجود توجس خيفة من انعكاسات التوتر الأمني على مصالح واشنطن، والذي كان حاضرا في جل وثائق المخابرات لتلك الفترة. وثيقة مؤرخة في غشت 1953، أي بُعيد نفي محمد الخامس، ترصد بدقة المصادر الممكنة للتهديد. وتقول إن التصرفات الفرنسية تسبب الكثير من المشكلات، وأن حزب الاستقلال مدعوم من قرابة مليوني مغربي، ولديه حوالي 100 ألف عضو، وأنه بعد التطورات الأخيرة قد يتحول من الاعتدال إلى التطرف. كما تبدي الوثيقة الأمريكية توجسها خوفا من التهديد الشيوعي لمصالحها بالمغرب، حيث تقول إن هناك نحو 5 آلاف شيوعي داخل المغرب تؤطرهم قيادات أوروبية. وتبدي الوثيقة توجسا كبيرا خيفة من احتمال توجه حزب الاستقلال نحو تبني الخيار المسلح، وشروعه في البحث عن الدعم الدولي والأسلحة. في المقابل، تقول الوثيقة إن فرنسا عبأت كل قدراتها العسكرية، ورفعت حضورها العسكري إلى 66 ألف عنصر، وحشدت دعم كل من بريطانيا وهولندا، في مقابل الاعتراض الإسباني. وفيما تحرّكت الكتلة العربية الآسيوية داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد فرنسا بعد نفيها سلطان المغرب، وقفت واشنطن إلى جانب باريس. الوثيقة تكشف واحدة من نقاط الصراع الخفي الفرنسي الأمريكي بالمغرب، حيث تقول إن واشنطن كانت تخشى أن يقدم السلطان الجديد، محمد بن عرفة، على إلغاء معاهدة أبرمها المغرب مع أمريكا سنة 1836، والتي تعتبر الأساس القانوني لمعاهدة الحقوق الأمريكية بالمغرب. “فرنسا بحثت طويلا عن إلغاء امتيازات ما وراء الحدود التي تعتبر الولاياتالمتحدة الدولة الوحيدة التي تحتفظ بها بعد إلغائها من طرف المحكمة الدولية في غشت 1952. إلغاء هذه المعاهدة سوف ينهي الباب التجاري المفتوح مع المغرب، والذي خرج إلى الوجود منذ توقيع معاهدة “الخزيرات” سنة 1906″. هاجس آخر يتمثل في القواعد العسكرية الأمريكية في المغرب التي تحضر بقوة في الوثائق السرية لأجهزة المخابرات الأمريكية عن فترة احتلال المغرب. وثيقة تحمل تاريخ 26 غشت سنة 1958، توضح كيف أن أربع قواعد عسكرية أمريكية تم بناؤها في المغرب، إلى جانب ميناء لإسناد القوات الجوية يحمل اسم “بور ليوتي” (القنيطرة حاليا)، كانت تستعمله كل من واشنطنوفرنسا بشكل مشترك ابتداء من الحرب العالمية الثانية. “الوطنيون المغاربة اعتبروا دائما أن الاتفاقات المتعلقة بهذه القواعد غير شرعية، لأن الملك لم يستشر بشأنها”. وتضيف الوثيقة أن القواعد في حقيقة الأمر هي ملكية فرنسية وتحت قيادة فرنسية، وأنها ترفع الأعلام الفرنسية إلى جانب الأمريكية. رسائل تبادَلَها المغرب وفرنسا بمناسبة استقلال المغرب سنة 1956، استثنت القواعد الأمريكية من الاتفاقيات الدولية التي التزم المغرب بالانضمام إليها. وبالتالي، فإن مفاوضات أمريكية مغربية ينبغي أن تجرى لكي تتم تسوية وضعية هذه القواعد، وقد انطلقت في ماي 1957″. الوثيقة الأمريكية تقول إن المغاربة بدوا مفاوضين شرسين، “حيث ألحوا على الاحتفاظ بحق الاختصاص القضائي تجاه العناصر الأمريكية الموجودة في القواعد، كما طالبوا بتشكيلة من الرسوم والضرائب التي ينبغي دفعها، منها رسوم جمركية على المواد التي لا تستعمل لأغراض عسكرية، والتي تستورد بهدف استهلاكها من طرف أفراد القواعد العسكرية”.