أحرج توفيق بوعشرين، مؤسس «أخبار اليوم» و»اليوم 24»، المحكمة، مفاجئا الجميع بمرافعة متميزة جدا، وصفها ممثل النيابة العامة ب»الفذة»، بعدما هدّم «الأدلة» التي اعتمدتها النيابة العامة والطرف المدني في توجيه الاتهام إليه، حيث تناول جميع الوقائع وحيثيات القضية بالأدلة والبراهين، ابتداء من اعتقاله التعسفي، وانتهاء بتقديم أسانيده في اللجوء إلى فريق العمل المعني بالاعتقال التعسفي التابع للأمم المتحدة، الذي اعتبر اعتقاله تعسفيا، وتم خارج القانون، وطالب بإطلاق سراحه فورا، وتعويضه، ومحاسبة المسؤولين عن اعتقاله. وفي نهاية مرافعته، أعلن توفيق بوعشرين أنه قرر الصمت والانسحاب من الجلسة، لعدم تجاوب المحكمة مع القرار الأممي. وعاد بوعشرين في تتمة كلمته للجلسة الثانية على التوالي، يسائل المحكمة عن أسباب استبعاد مجموعة من الوسائل والشهود الذين يدعمون براءته من التهم المنسوبة إليه، من قبيل رسائل في هاتفه المحمول واستدعاء حسن طارق وعاملة النظافة، موضحا لهيئة الحكم أنه قدم للمحكمة كطرف ضعيف، مقابل النيابة العامة وهي طرف قوي، مضيفا أن المحاكمة مبنية على وجود طرفين أحدهما يقدم أدلة، والآخر ينفيها، والمحكمة في الوسط تقيم الأمور بميزان القناعة والخبرة والنزاهة والضمير، وتصدر الحكم. وعرج بوعشرين للحديث عن القرار الأممي، موضحا أنه لجأ إلى فريق العمل المعني بالاعتقال التعسفي التابع للأمم المتحدة، لأنه يعتبر ذلك حقا دستوريا وقانونيا، وأن الدولة المغربية أعطت مواطنيها حق رفع طلبات إلى المقرر الخاص بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وذلك اعترافا بكونية حقوق الإنسان وأصول المحاكمة العادلة، مضيفا أن الحكومة نفسها لم تعترض على ذلك، وقبلت استفسار الفريق الأممي، وبعثت أجوبتها إليه، ولم يعترض ممثل النيابة العامة أيضا عن ذلك، لكن دفاع المطالبات بالحق المدني أنكر عليه ذلك. وعدّد بوعشرين آراء دفاع الطرف المدني، بين من طالب بمتابعته بتهمة التأثير على القضاء، ومن وصف التقرير بأنه «أمي» بدل «أممي»، وبين من قال إن المقررة الأممية تكن عداءً للمغرب، علاوة على من اعتبر أن الأممالمتحدة تطعن في السيادة المغربية، مبديا استغرابه التناقض الذي وقع فيه دفاع الطرف المدني بإساءته إلى الفريق الأممي من جهة، قبل أن يحاول نفس دفاع الطرف المدني استصدار رسالة من الفريق الأممي نفسه وتقديمها للمحكمة، في تناقض تام مع موقفه السابق من الفريق الأممي. وأوضح بوعشرين أن النيابة العامة رفضت إحالة شكايته بخصوص الاعتقال التعسفي على محكمة النقض، والأخيرة رفضت البت في الشكاية دون مرورها على الوكيل العام للملك باستئنافية الدارالبيضاء، الذي حفظ الشكاية، مؤكدا أن الحكم بإيداعه السجن لا يستند على أساس قانوني، وأصبح عاجزا، لا يمكنه الطعن في قرار إيداعه السجن، بما يعني أن النيابة العامة أصبحت خصما وحكما في القضية، وهو ما دفعه للجوء إلى الأممالمتحدة. وبرر بوعشرين لجوءه إلى الأممالمتحدة بكونه جاء بعد المس بحقوق أعضاء من هيئة دفاعه، مثل النقيب محمد زيان والأستاذ عبدالصمد الإدريسي، وتهديدهم بالمتابعة في قضايا ذات صلة بالملف، موضحا أنه لما حصل على قرار الفريق الأممي المكلف بالاعتقال التعسفي، الذي رأى أعضاؤه، وكلهم خبراء في القانون الدولي، وفي مجال حقوق الإنسان والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة، وبعدما راسل الحكومة وتلقى (الفريق الأممي) ردودها ورأيها في الخروقات التي عرضها دفاعه على الفريق الأممي، أصر على وضع الرأي الأممي أمام القضاء المغربي، وهذا أمر له دلالة كبيرة للأسف لم يقرأها الطرف الآخر، رغم أنه كان بوسع دفاع بوعشرين التشبث بالقرار الأممي ولجوئه إلى هيئات أممية أخرى، غير أنه فضل وضعه أمام القضاء المغربي إيمانا منه بأن القضاء المغربي يمتلك من الجرأة والكفاءة والمقاربة الحقوقية ما يكفيه للبت بكل حرفية واجتهاد، وربما يشكل علامة فارقة في تطور العمل القضائي ومنظومة حقوق الإنسان بالمغرب، موضحا أن دستور البلاد فتح التشريع والقضاء الوطني والفكر الحقوقي على أنماط عالمية لكي يتطور ويواكب روح التقدم والحضارة، مشيرا إلى أن ما قام به يدخل في صلب اختيارات البلاد في الانفتاح على العالم في شتى المجالات، ومنها معايير المحاكمة العادلة والفكر الحقوقي والقانوني العالمي. مخرج السراح المؤقت واعتبر بوعشرين أنه بلجوئه إلى الأممالمتحدة لم يمس بالسيادة المغربية، بل إن الدولة تنازلت بمحض إرادتها عن جزء من صلاحياتها، وسمحت للمواطنين باللجوء إلى الأممالمتحدة، وهذا الأمر من شأنه تطوير البلاد، فالقانون الدولي يسمو على القانون الوطني، حسب الدستور، والقانون لا قيمة له إذا بقي محصورا داخل الكتب ولم يترجم إلى واقع وأحكام، مشيرا إلى أن التوجه إلى المؤسسات الأممية هو اختيارات بلد برمته وليس أشخاصا بعينهم، وبالتالي، فالسيادة في كل دول العالم صارت نسبية، والدول تجعل من القانون الدولي مرجعها لها وتحتكم بكل تحضر إلى الآليات الأممية التي ساهمت هي نفسها في إنشائها، والمغرب ضمنها وله تمثيلية في الأممالمتحدة. واسترسل بوعشرين في حديثه عن القرار الأممي، بتقديمه أمام محكمة الاستئناف، وطلب البت فيه، وهذا أكبر اعتراف بالقضاء المغربي، مشيرا إلى أن المقرر الأممي يحترم القضاء ويطلب منه النظر في القضية بناء على نصوص القانون وغيرها، مؤكدا أنه لم يمس بالقضاء المغربي، مضيفا أن الفريق الأممي المكلف بالاعتقال التعسفي، أوصى في فقراته الختامية بإحالة ملفه على فريق أممي آخر مكلف بحرية التعبير والصحافة، على اعتبار أنه صحافي، وسبق للحكومة وللوزراء أن تابعوه في قضايا لا أساس عادل يبررها. مؤكدا أنه طلب من دفاعه أن يلتمس من الفريق الأممي المكلف بالاعتقال التعسفي التريث، وألا يحيل الملف على فريق أممي آخر، أو يرفع تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان ليطلب من الحكومة المغربية تطبيق الرأي القانوني، معللا ذلك بثقته في القضاء المغربي، لعل الحكم الاستئنافي يجبر ما انكسر من قانون وحريات وحقوق وكرامة وإنسانية في هذا الملف. وتحدث بوعشرين عن تقدم دفاعه بطلب السراح المؤقت لتقديم مخرج قانوني للمحكمة من ورطة البت في رفع الاعتقال التعسفي الذي قضت به الأممالمتحدة، لكنها، مع الأسف، لم تستجب لذلك، وهذا ما دفع النقيب محمد زيان إلى مقاطعة جلسات المحكمة، مشيرا إلى أن الحكومة ورطت القضاء في ملفه. وعاد بوعشرين يحلل مجموعة من النقط المرتبطة بدوافع استئناف الحكم الابتدائي الصادر في حقه بالسجن 12 سنة نافذة، آملا في أن تنصفه المحاكمة الاستئنافية، وأن تعود النيابة العامة إلى الرشد القانوني واحترام القانون، وعدم تبييض خروقات الشرطة القضائية، وترفع يدها عن الملف، وتترك القضاء يطبق القانون، مذكرا أنه سيأتي يوم يفتح فيه دفتر ومحاضر هذه المحاكمة أمام الحقوقيين والمؤرخين، ودعاة العدالة الانتقالية، مشيرا إلى أنه كان شاهدا على أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة التي فتحت أكثر من 27 ألف ملف قضائي صدرت فيه أحكام قضائية لم تحترم فيها شروط المحاكمة العادلة، ولا قوانين المسطرة الجنائية، في إطار الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان، مذكرا النيابة العامة بالتزامها بعدم تكرار الخروقات القانونية التي عرفها المغرب في سنوات الجمر والرصاص، وبالتالي، وجب عليها الانتباه لملفه. مشيرا إلى أنه وقع عليه ظلم كبير. ووقف بوعشرين على التناقضات التي كشفتها الخبرة التقنية التي أنجزها الدرك الملكي، من قبيل أنها «حولت» كاميرا، حسب محاضر الضابطة القضائية، إلى ميكروفون (أبيض)، مرورا بتناقض المطالبة بالحق المدني «أ.ح» في تصريحاتها بعد اعترافها بعدة أشرطة جنسية، لتعود وتصرح للمحكمة أن شريطي فيديو ليسا لها، بل لسيدة أخرى نفت بدورها أن تكون هي من تظهر في الشريطين، كما أكد بوعشرين للمحكمة أن أغلب النساء اللواتي استدعتهن المحكمة نفين أن يكن هن من يظهرن في الأشرطة. ووقف مؤسس «أخبار اليوم» على التناقضات المكشوفة للبعض الآخر، مثل المصرحات اللواتي قلن إنه هددهن بنشر فيديوهات يظهرن فيها، ليفاجأ الجميع أنهن أنكرن وجودهن في أي من الأشرطة المعروضة أمام المحكمة، وهذا قمة التناقض، واضعا المحكمة أمام معادلة المصرحات والشاهدات اللواتي برأنه أثناء حضورهن المحكمة، وأخريات فضلن عدم الحضور لخوفهن من المضايقات، وأخريات تعرضن فعلا لمضايقات ومتابعات قضائية، في مقابل مطالبات بالحق المدني متناقضات في تصريحاتهن وأقوالهن غير منسجمة، موضحا أن المحكمة يلزمها اليقين، والدليل الجنائي لا يحتمل الشك، وإلا فإن الشك يفسر لصالح المتهم، معتبرا أن قضيته اعتمد فيها مبدأ جديد هو «المتهم مدان حتى إشعار آخر» وليس «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، مؤكدا أن التحقيق في ملفه كان سياسيا. وبعدما أدهش توفيق بوعشرين الجميع بمرافعة راقية ومتماسكة منطقيا وقانونيا، أبهرت دفاع المطالبات بالحق المدني، مثل المحامي عبدالفتاح زهراش الذي خرج يقول إن «بوعشرين يرافع أحسن من كثير من المحامين»، عاد مؤسس «أخبار اليوم» مهدما كل أوجه اتهامه بالاتجار في البشر، وخلص إلى أنه ضحية مجزرة قضائية استعملت خلالها أسلحة بئيسة للنيل منه كصحافي وبدوافع سياسية أكثر منها قانونية وحقوقية، قبل أن يعلن للمحكمة أنه سيلتزم الصمت، لإحساسه بالظلم في هذه القضية، وسينسحب من المحاكمة.