قبل إلقاء الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى ال20 لتولي الملك محمد السادس الحكم، وبعده، أثارت انتباهي ظاهرة تحتاج إلى الفهم والتفسير، تتمثل في الخطاب الاحتفائي الواسع بمنجزات الملك.. خطاب حمل معاني الإشادة، والثناء، والتمجيد، والتبجيل، تبارى في إلقائه باحثون، سياسيون، صحافيون، مثقفون، وغيرهم، وحملته قنوات التلفزة، كما بثته الصحف الحزبية والخاصة. ولولا أن الخطاب الملكي الأخير، وخطبا أخرى سبقته، تعترف بوجود نواقص وإخفاقات أو اختلالات في الأداء والمنجزات، لما أقرّ جل من كلّفوا أنفسهم الدعاية لمنجزات النظام بأي نقيصة أو خلل، وهذا أمر طبيعي لأن غرض هؤلاء ليس الحقيقة، التي تفضي إلى مزيد من التقدم الجماعي، بل أشياء أخرى في الغالب. منذ ثلاث سنوات، على الأقل، باتت الخطب الملكية نقدية أكثر، تدافع عن المنجزات، لكنها تركز أكثر على كشف الاختلالات، وإذا كان البعض يُدرجها ضمن استراتيجية تواصلية فعالة، تنزع عن المشككين إحدى أهم أوراق اللعب السياسي، فإن الاحتمال الآخر الذي لا يمكن استبعاده أيضا هو أن الخطب الملكية صارت نقدية لأن الملك صار أمام فئتين من الناس؛ إما مطبلين دون حدود، وإما مشككين دون حدود، ما يدفعه إلى رسم خط ثالث بينهما، تتمثل عناصره في المضامين النقدية التي لم تعد تخلو منها أي من خطبه الأخيرة. لقد وصلنا، بعد 20 سنة من حكم الملك محمد السادس، إلى مرحلة يكاد يكون فيها النظام دون معارضة سياسية وازنة، سواء من داخله أو من خارجه. فمن داخل المؤسسات السياسية، صارت الأحزاب والنقابات، والقوى المالية والاقتصادية والمدنية، تتكلم لغة شبه موحدة، حتى إن البعض، ممن هم في موقع القرار، صاروا يدفعون بقوة نحو توحيد كل شيء؛ التصورات، والتوجهات، والخيارات، والنموذج، والبرنامج… الخ؛ في الوقت الذي صارت فيه الأصوات المعارضة لهذه القناعة خافتة أو هامشية، ومن يرفع صوته أكثر من اللازم يجري إقصاؤه، وهذا شيء جديد بالنسبة إلى المغرب، لم يكن في السابق. أما من خارج النظام، فإن المعارضات مشتتة (شباب الحريات الفردية، نخب الخارج، الراديكالية اليسارية، جماعة العدل والإحسان…)، ويغلب على أدائها الطابع الإيديولوجي الفج، ما يجعل تأثيرها محدودا جدا في السياسات المتبعة. في عهد الملك الراحل، ظلّ الاتحاد الاشتراكي قوة معارضة منذ منتصف السبعينيات، مدافعا عن أفكار وتصورات وبرامج. ومنذ الاحتجاجات الكبرى التي عرفها المغرب في بداية الثمانينيات، كان يُتعامل معه بمثابة قوة اقتراحية أساسية، يُستشار ويُؤخذ برأيه. لقد قيل لي ممن عايشوا المرحلة عن قرب إن الملك الحسن الثاني، رحمه لله، كان يستشير قيادات الاتحاد، وفي كثير من الأحيان تُعدَّل سياسات أو برامج بناء على ذلك، علما أن الاتحاد الاشتراكي كان يدافع عن خيارات مختلفة جدا عن خيارات النظام، لكن وجود الطرفين داخل النظام نفسه، لم يكن يمنعهما من الإنصات إلى بعضهما البعض، والقيام بعمل مشترك لفائدة المغاربة. وفي عهد الملك محمد السادس، حاول حزب العدالة والتنمية أن يلعب، خلال العشرية الأولى من حكم الملك، دور المعارضة من داخل النظام، لكنها كانت معارضة قصيرة النفس، حيث انتقل سريعا، أي خلال 12 سنة الأخيرة تقريبا، إلى موقع الحكومة. ورغم أن مركز السلطة حاول إيجاد قوة بديلة لإحداث التوازن، تمثلت في حزب الأصالة والمعاصرة، فإن هذا الأخير وُجد من أجل معارضة الحكومة وليس معارضة مركز الحكم، وكان من الطبيعي أن يسقط سريعا، دورا وحزبا أيضا. وعموما، تتميز المعارضة المؤسساتية في عهد الملك محمد السادس بالنفس القصير، على خلاف معارضة والده التي عمّرت في موقعها عقودا من الزمن. هل النظام في حاجة إلى المعارضة؟ من منظور ديمقراطي، تعد المعارضة ضرورية، لأنها جزء أساسي من شرعية النظام السياسي، لأن دفاعها عن تصورات وتوجهات وخيارات بديلة هو ما يعطي شرعية لتصورات وخيارات وبرامج النظام القائمة، ودون هذا الدور يفقد سلوك النظام معناه ومبرراته، وعليه حينها أن يتوقع المفاجآت التي لا تكون سارة دائما، لأن ديناميات المجتمعات في زمن الثورة الرقمية أوسع وأعمق مما يمكننا توقعه أو حتى تصوره.