الممارسة السياسية في المغرب عصية على الفهم. النخب نفسها لا تستطيع تحديد ماهيتها، وهي مكتفية بتقديس ذاتها في إحساس عميق بالعظمة. لا يمكن، بأي حال، النظر إلى الوجوه المثقلة بالهموم للسياسيين المتنكرين في هيئة أشخاص ذوي قلوب رحيمة، دون أن تستوعب الدرس المفجع؛ هذه ليست نخبة لا تحتاج إلى تغيير، بل هي بنية ذهنية تحتاج إلى الاستئصال. بين المتنمرين الذين شكل منهم إلياس العماري ثم عزيز أخنوش الخط الأمامي لصناعة نخبة سياسية غير سوية، وبين العجرفة التي صنع حزب العدالة والتنمية وقبله حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية رأسمالها الرمزي، وهو الآن قيد الاضمحلال، ليس هناك شيء إضافي يمكننا تقديمه. اليسار المنهك تحت عبء نظريته السياسية، واليمين وقد عجز عن تحديد درجة ميلانه، ليسا هما أيضا بديلا عمليا عن الفتك الجاري بالنخبة في الوقت الحالي. السياسيون ليسوا نقودا غير قابلة للصرف، لكنهم أيضا منتَج خالص لعملية شاقة حيث تطبع العملة على خط تلوين واحد. إن دور النخبة قد جرى تحديده سلفا، ولم يبق سوى ضبط الميلان. الإصلاح السياسي المستنزف بالمقدرة الهائلة للسلطة على التعبئة، لا يترك للتيار الرئيس في السياسة سوى تدقيق الهوامش. ولقد وجدوا في هذه المهمة أيضا عبئا زائدا. يمكنكم الاطلاع على لوائح التعيينات في عضوية المجالس الوطنية المستحدثة في دستور 2011 لأخذ العبرة. المسؤولون السياسيون فقدوا كل تحلٍّ بالاستقامة وهم يشرعون في دفع غير المؤهلين من ذوي القربى إلى المناصب. هذه موضة قديمة، حيث لا يستقيم تعيين دون وجود محاباة. بشكل عمودي، تنتقل العدوى المرضية إلى الطبقة السياسية دون أي اكتراث بوجود علاج. الوقائع واضحة؛ لكن الحقائق مازالت نسبية. يمكنك التحقق من ذلك من الانتشاء الغريب لشخص مثل إدريس لشكر بمضامين خطاب ملكي يكاد يضع صفرا على ورقة امتحان حكومة يشارك داخلها بابتذال. النخبة السياسية ككل وجدت في الابتذال حرفة. هناك مشكلة ذهنية لدى النخبة دون شك؛ لكن ما هو أعمق من هذه المشكلة هو ما يحدث للموظفين الإداريين أو رجال الأعمال غير المسيسين، وبصفة عامة، من نطلق عليهم ذوي الياقات البيضاء، عندما يصبح الطلب على الكفاءات تجارة مزدهرة. في السجل الحافل لهؤلاء الحرفيين المهرة، ليس هناك ميراث مجيد. ليس لدى صلاح الدين مزوار شيء ليحتفي به، ومحمد بوسعيد بالكاد عثر على بطاقة حزب تنقذه من النسيان. لكن اللعبة تستمر. دون كلل، لا يتوانى صناع النخب في تجريب الوصفة نفسها كل مرة، في محاولات مجنونة للحصول على نتائج مغايرة. بالطبع، من الصعب التيقن من أن النية ليست هي الحصول على النتائج نفسها. الكفاءات وقد جرى استقدامها من مدارس القناطر، وكأننا إزاء ورش بناء يحتاج إلى مراقبين للتصاميم، لم تفد كثيرا. الطرق السيارة شُقّت، وكانت ستُشق بوجود هؤلاء أو بدونه. التقنوقراط مفهوم مبالغ فيه، يغذيه بالأفكار الخاطئة، والتزييف، بعض المدرسين الجامعيين الذين بالكاد يستطيعون إنعاش فكرة سياسية لدى طالب مبتدئ. الخطة كما عمل على تنفيذها عبد العزيز مزيان بلفقيه، كان يجب أن تتوقف منذ تلك الفترة المعتمة حيث كانت الحاجة إلى أطر، إذ ضلت الرؤية وهي تفسح المجال للقتل الرمزي للسياسيين، ولقد رأينا النتائج جميعا في 2007. النخبة السياسية المجردة من وسائل العمل، باستثناء صدقة تمنحها الدولة إياها لصرف أغلبها على دعم مرشحين للانتخابات لا يحتاجون إلى مال، أو كراء أو بناء مقرات بالكاد تحتفي بعشرة زائرين في الأسبوع.. هذه النخبة لا تستحق كل هذا البرود، كذلك، وهي توضع وكأنها جثة متعفنة فوق طاولة المشرحة. إننا لا نحصد الريح في نهاية المطاف، كل ما لدينا زرعناه بأيدينا منذ 20 عاما على الأقل. الإدارة نفسها، وهي عقل السلطة، ارتكبت جريمة مرت دون حساب، وهي تسرح أفضل الموظفين مهارة في حملة مغادرة طوعية قادها شخص ليبرالي مزعوم اسمه بوسعيد، ثم بعدها، أعاد تشغيلهم وفق عقود سمينة. لم يفكر سياسي في هذا، بل تلك الحفنة من التقنوقراط من فعل ونفذ. التقنوقراط أداة سهلة في يد السلطة، والتنخيب، كما حدث طيلة هذه السنين، لم يتغلب على منطق التحليل السائد، حيث تصبح الثقة العمياء وسيلة للإدارة. النظام المؤسساتي، كما هو عندنا، لا يسمح سوى بمراقبة شكلية لأعمال ذوي الشأن في الإدارة، وجلسات الاستجواب في البرلمان للمديرين العامين للمؤسسات والشركات العامة تجري وكأنها حفلات استقبال. السياسي هو هذا في طبعته المغربية. لا مفر من الاعتراف بذلك، فبمجرد ما يكتسب صفة تمثيلية تتبدل أولوياته، وهو في ذلك يعكس «نضجا محليا» في السلوك السياسي الملائم. التربية، كما يجب أن تتولاها الأحزاب، جرى التخلي عنها وكأنها زاد سفر ثقيل. هي لعبة ليس فيها رابح أيضا، وينبغي ألا نجعل الشعور بالضيق من النخبة السياسية طريقا للاستيلاء على السياسة. يجب أن نكون حذرين من التأويل المغرض لخطاب الملك، وهؤلاء الذين لا يطيقون السياسيين، لا ينجحون، في اللحظات الحرجة، حتى في الحصول على وقت قصير من صياد سمك لإقناعه بشيء غير موجود. على الأحزاب أن تداوي جراحها، أو أن تستسلم للموت. من الغريب أننا، طيلة عشر سنوات، لم ننهض بمشروع سياسي بديل، وقد أصبح «الأصالة والمعاصرة» جزءا من الماضي. تتطور الشعوب، لكن سياسييها يتعثرون في الزمن. بعض الأحزاب لم تعد في ملك أصحابها، وقد غدا زمامها في أيدي أعيان مشغولين بتنمية مصالحهم. ذلك أفضل من أخرى وضعت مناصب عليا على لائحة للأسعار لمن هو قادر على الدفع، وذلك أسوأ من تلك التي وجدت في صباغة التقنوقراط وظيفة تضمن لها الاستقرار. ماذا سيتبقى لنا إذن؟ إذا كنّا في حاجة إلى موظفين إداريين مهرة، فإننا لسنا مجبرين على جعلهم وزراء. جوقة الكاذبين وهم يلوون عنق الحقائق، وحدهم من يستطيع تحديد مفهوم الكفاءات في شهادة مدرسية تتيح لك تركيب جمل بالفرنسية، وبذلة رسمية، ومنصب سابق في بنك.