خلال العشرين سنة الماضية، عرفت السياسة الخارجية المغربية في عهد الملك محمد السادس عدة تحولات وتغيرات جوهرية، يمكن إجمالها في ثلاثة مستويات أساسية: العلاقة مع الغرب، خاصة إسبانيا وأمريكاوفرنسا، وقضية الصحراء والعمق الإفريقي، بالإضافة إلى العلاقة مع الدول العربية والخليجية. العلاقة مع الغرب.. بين التعاون والفتور والندية اتسمت العلاقة مع الشركاء الغربيين بدورها بالتحول، حيث بدا واضحا أن هناك عقيدة سياسية جديدة في إطار التبلور، عقيدة، ربما، ترتكز على ثلاثة مقومات، استقلالية القرار المغربي، وتنويع الشراكات من خلال الانفتاح على روسيا والصين وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، والدفاع عن مصالح المغرب بشكل برغماتي وعقلاني.. لكن العنوان الأبرز لتدبير الملفات الخارجية طيلة العشرين سنة، هو الندية والعقلانية أحيانا، والمزاجية والتسرع، في أحايين أخرى. بالنسبة إلى الجار الإسباني، فعلى مستوى علاقة المغرب ببعض الحلفاء التقليديين، أو الجارة الإسبانية، فقد تراوحت بين المد والجزر، ووصلت في بعض الأحيان إلى درجات عالية من التوتر والاحتكاك وسوء الفهم. فصعود اليمين بزعامة أثنار في هذا البلد، انعكس سلبا على العلاقة بين البلدين، حيث سرعان ما اصطدمت هذه العلاقة على صخرة جزيرة ليلى سنة 2002، وكادت تؤدي هذه الأزمة إلى وقوع سيناريوهات غير متوقعة وصعبة، لولا الوساطات الأمريكية والفرنسية. امتحان صعب عاشه الطرفان خلال هذا الحادث، لكن سرعان ما عادت العلاقة المغربية الاسبانية إلى طبيعتها، خاصة في ظل تزايد الطلب الإسباني على التعاون الأمني المغربي، خاصة وأن درس تفجيرات 2004 كان صادما ومؤلما بالنسبة إلى النخبة اليمينية الإسبانية، التي أدركت أنه لا يمكن حماية أمنها القومي من شبح الخلايا الإرهابية دون الاعتماد على الخبرة والتمرس المغربيين في هذا الجانب. حافظ المغرب خلال هذين العقدين على علاقته مع الجارة الإيبيرية وفق مستويات مقبولة، رغم تقلبات السياسة التي عاشتها إسبانيا، خاصة صعود أحزاب جديدة مناوئة لمصالح المملكة ووحدتها الترابية، مثل حزب “بوديموس”، حيث إن اندفاع الساسة الجدد بإسبانيا اصطدم بتعقيدات الواقع والمصالح، لاسيما وأن المغرب في عهد الملك محمد السادس تمكن من توظيف ملفات الإرهاب والهجرة والمخدرات بشكل جيد، واستطاع بواسطة هذا الثالوث تطويع المارد الإسباني. أما العلاقة مع فرنسا، فقد حافظ المغرب طيلة العشرين سنة على علاقته مع هذا الحليف التقليدي، بل شهدت هذه العلاقة طفرة نوعية فيما يتعلق بالاقتصاد والتعاون الأمني والتنسيق بين البلدين. لكن، شهدت هذه العلاقة بدورها نوعا من التوتر والفتور، خلال أزمة سنة 2014 التي امتدت سنة تقريبا بسبب محاولة اعتقال المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني بسبب شكاية وضعت ضده عندما قام بزيارة لهذا البلد. لكن المتغير الأساسي والجوهري، أنه بعد هذه الأزمة التي تعامل معها المغرب بندية كبيرة كانت مفاجئة حتى لدوائر الحكم في الإليزيه، إذ استطاعت المملكة أن تؤسس لمحددات جديدة في علاقتها بفرنسا، علاقة لا تتأثر بتغير الرئيس، لاسيما بالاعتماد على ميكانيزمات جديدة لاختراق الوسط السياسي والاقتصادي والمالي والفني في فرنسا، وتوظيف حجم المصالح الفرنسية الكبيرة بالمغرب. بالنسبة إلى العلاقة مع أمريكا، الأصل في علاقة المغرب بأمريكا، أنها طبيعية وتدبر وفق مستويات تتداخل فيها المصالح والملفات ومدى تأثير اللوبيات في تطوير وتذبذب هذه العلاقة، لكن، من اللافت أنها خلال العشرين سنة الماضية تراوحت العلاقة كذلك، بين التعاون والتوتر والفتور، لاسيما في ظل الرئيس السابق بارك أوباما والرئيس الحالي ترامب. ويمكن إجمال أبرز المتغيرات والمحطات في حادثين اثنين: الأول، وقوع أزمة غير مسبوقة مع إدارة أوباما سنة 2013، عندما تم تسريب مسودة مشروع القرار الخاص بالصحراء يتضمن توسيع صلاحية بعثة المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، ليتم استنفار كافة الإمكانات والحلفاء واللوبيات من طرف المغرب، استنفار وتمرد مغربي على الإدارة الأمريكية ساهم في تراجعها على مسودة القرار بتلك الصيغة، تراجع بطعم الانتصار، والذي ما كان ليكون لولا توظيف جيد لبعض الأوراق من طرف الملك وحزم يستدعي التأمل.. أما الحادث الثاني، فيرتبط بمجيء إدارة ترامب، هذا الأخير من الواضح أنه لا يحمل الكثير من الود تجاه المغرب، وذلك، بسبب المغامرة غير المحسوبة التي قامت بها المملكة إثر حديث بعض التقارير والتسريبات عن تمويلها بما يقارب 12 مليون دولار لحملة هيلاري كلنتون الرئاسية التي كانت تنافس ترامب. مغامرة يحاول الملك تجاوزها ويعمل على تفادي تأثيرها على مصالح الأمن القومي المغربي، لاسيما أنها لاتزال ترخي بِظلالها على العلاقة بين الطرفين (التأخر كثيرا في تعيين سفير لدى المغرب، تقليص مدة بعثة المينورسو لستة أشهر بدل سنة..)، خاصة في ظل وجود طاقم كمستشار الأمن القومي جون بولتون، الذي يتبنى مواقف وتصورات، من المؤكد أنها لا تخدم الوحدة الترابية. العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي.. فك “عقدة الصحراء” يعتبر قرار عودة المغرب إلى الحضن الإفريقي قرارا استراتيجيا وحيويا، إذ ساهم في إعطاء دفعة قوية وزخم جديد للدبلوماسية المغربية على مستوى آليات الترافع عن قضية الوحدة الترابية من داخل القارة الإفريقية. غير أن هذه العودة؛ بالنظر إلى دلالاتها وخلفياتها، لاقت تجاوبا كبيرا من لدن حلفاء المغرب، وكذلك معارضة قوية من طرف المحور الموالي للجزائر داخل الرقعة الإفريقية. كما أفرز مسار انضمام المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، منذ إعلان الطلب إلى قبول الانضمام، ظهور حالة من التقاطب الحاد بين المعسكرين؛ الأول الذي يقوده المغرب، والثاني الذي تقوده الجزائر. وطفت على السطح ثلاث محطات رئيسة تعكس “الاشتباك الدبلوماسي” واشتداد المعارك التي قرر المغرب خوضها، بعدما اتضح أن هناك تباينا بين مواقف منظمة “الاتحاد الإفريقي” ومواقف عدد كبير من أعضائها. سياقات ومحددات العودة المغربية إلى الأسرة الإفريقية قرر المغرب أن يعود إلى الحظيرة الإفريقية بعد مضي 32 سنة من انسحابه من منظمة الاتحاد الإفريقي (الوحدة الإفريقية سابقا)، من خلال الرسالة التي بعث بها الملك إلى القمة 27 للاتحاد الإفريقي، التي عقدت بالعاصمة الرواندية كيغالي، المتضمنة طلبا رسميا بالعودة إلى أحضانه، بعدما أدرك أن سياسة المقعد الشاغر أثرت سلبا على مصالحه الحيوية. وجاء قرار العودة بالتناغم مع “العقيدة السياسية” الجديدة للمغرب على مستوى الرهانات الدبلوماسية تجاه القارة الإفريقية، وذلك من خلال تكثيف وتنويع العلاقات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والدينية مع مختلف دول إفريقيا، لاسيما أنه بعد إعلان المغرب عن نيته العودة إلى منظمة “الاتحاد الإفريقي” في السنة نفسها، تم تغيير 80 في المائة من المناصب الدبلوماسية بإفريقيا، وفتح خمس سفارات جديدة بتانزانيا ورواندا والموزمبيق وجزر موريس والبينين. ومن أجل تحقيق هذا الرهان الاستراتيجي قاد وأشرف الملك شخصيا على جميع التحركات والمبادرات الميدانية الرامية إلى عودة المغرب إلى أسرته الإفريقية، وبغية اختراق القلاع الموالية لأطروحة الانفصال، تم تحييد ملف الصحراء، ولم يعد هذا الملف عقدة في تحركات المغرب، حيث تم التركيز على نسج علاقات ثنائية في كافة المجالات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية مع مختلف دول شرق وغرب ووسط إفريقيا.. هذا التحول الاستراتيجي في السياسة الخارجية ظهر بشكل جلي في الزيارات الملكية إلى روندا وتنزانيا ونيجيريا وأثيوبيا. لم يكن خيار العودة سهلا، لكن تحقيق هذا الرهان، جاء بعد معارك دبلوماسية شرسة خاضها المغرب ضد الجزائر وجنوب إفريقيا. حضور الملك شخصيا، الذي كان يوجد على بعد أمتار قليلة من مقر القمة ويقود بنفسه “غرفة العمليات” المتعلقة بالتنسيق والتشاور مع الحلفاء والأصدقاء لإنجاح رهان العودة، توج بعودة المغرب إلى أسرته الإفريقية في آخر لحظة، وهو مؤشر على فشل جميع المخططات والمناورات التي وظفها الخصوم لعرقلة وإفشال انضمام المملكة إلى أسرته المؤسسية. إن عودة المملكة إلى الاتحاد الإفريقي، تعني إغلاق قوس سياسة الكرسي الفارغ التي انتهجها المغرب طيلة ثلاثة عقود منذ انسحابه من هذه المنظمة الإفريقية سنة 1984، ويعتبر أبرز حدث دبلوماسي تحقق طيلة العشرين سنة من حكم الملك. وبقدر ما تتيح عودة المغرب إلى أسرته الإفريقية مزايا عدة للدفاع عن مصالحه من داخل الاتحاد، فإن الانضمام وفق الشروط الحالية والسياقات المرتبطة بوجود كيان وهمي يحظى بدعم بعض الدول الإفريقية، يطرح إشكالات عديدة ومحاذير قانونية وسياسية يحاول خصوم المملكة، دون شك، توظيفها لتسييج المغرب وتضييق هامش تحركاته داخل الاتحاد، وجعله يقبل بالوضع القائم الذي يخدم أطروحة الانفصال. لكن من جانب آخر، فالانتصار وتحقيق خيار العودة إلى المنظمة الإفريقية، وإبرام عدة شراكات واتفاقات واختراق معاقل الخصوم، قابله فشل في الانضمام إلى بعض التكتلات الاقتصادية في إفريقيا، كتجمع دول غرب إفريقيا المعروف ب”إيكواس”، رغم ما يقارب سنتين على وضع الطلب. العلاقة مع الدول العربية والخليجية تحولات مهمة مست السياسة الخارجية المغربية في عهد الملك محمد السادس، وأول هذه التحولات هو الموقف الرسمي المغربي من القمم العربية، حيث اعتاد الملك محمد السادس على مقاطعة القمم العربية منذ سنة 2005، بفعل الاختلالات التي تشوب العمل العربي وتجعله غير مجد كما جاء في إحدى الرسائل الملكية، هذا، بالإضافة لحالة البرود والجفاء والتوتر التي صارت عناوين بارزة لعلاقة المغرب ببعض دول الخليج.