يونس مسكين -سليمان الريسوني هل تأسست في منطقة الريف جمهورية ودولة مستقلة عن المغرب، أم إن الأمر، وفي غياب دولة مركزية قوية، وفي ظل وضع البلد المقسم بين استعمارين فرنسي وإسباني، حيث سلطة المخزن الشريف على الدولة – في عهد السلطان المولى يوسف- ضعيفة ومراقبة وموجهة من طرف الإقامة العامة الفرنسية وسلطات الاحتلال الإسبانية.. تطلب من مجموعة من المجاهدين تشكيل كيان لحماية مقاومتهم وجهادهم من أي اختراق؟ وبما أن المرحلة كانت مرحلة قيام جمهوريات ودول قطرية (تركيا في 1923)، فقد دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الريف قد شق في طريقه إلى الانفصال عن الدولة المغربية وتأسيس كيان مستقل، وهو ما دفع بعض المغامرين الأوروبيين لزيارة الخطابي وعرض عملة “ريفية” عليه، وهي التي لم يحصل أن تم تداولها في المعاملات المالية والتجارية؟ نسأل مرزوق أزرقان بن محمد أزرقان، الذي ذكرته المراجع التاريخية باعتباره وزير خارجية “جمهورية الريف”: كيف كان والدك يقوم بمهام الدبلوماسية الريفية، يجيب: “أودّي هادوك راهم غير المجاهدين، آش من خارجية وآش من دبلوماسية الله يهديك”. عندما تستيقظ الريف.. بعدما أنهى محمد بن عبدالكريم الخطابي، الشهير بعبدالكريم الخطابي، دراسته بالقرويين، عُيّن معلما، ومترجما، ثم قاضيا بمليلية، وفي سنة 1915 سينصّبه الإسبان قاضيا للقضاة بهذه المدينة، قبل أن تقوم السلطات الإسبانية بسجنه، إرضاء لفرنسا. يروي عبدالكريم الخطابي في مذكراته: “سنة 1915 وهو الوقت الذي كنت لا أزال فيه قاضيا للقضاة حدث لي حادث خطير، وهو صدور أمر السلطة الإسبانية بحبسي نزولا منهم عند رغبة المارشال ليوطي بسبب العلاقات التي كانت بيني وبين رجل يُدعى فرانسيسكو فارل، وهو من أصل ألماني… أما علاقتي مع فرانسيسكو الألماني الأصل، فتتلخص في أن هذا الرجل راح يعرض عليّ، فيما إذا قمت بحركة ثورية ضد فرنسا في مراكش) أي المغرب)، كل المال اللازم والذخائر التي أحتاجها… وهو ما حملني على أن أطلب من فرانسيسكو أن يساعدني على إنشاء فرقة مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل تحمي الريف من كل اعتداء، بينما أكون أنا أناوش الجنود الفرنسيين في مراكش (يقصد أجزاء المغرب الخاضعة للاستعمار الفرنسي). وقد عرف الإسبان بهذه المخابرة فأحالوني إلى مجلس عسكري، وقد صدر الأمر بحبسي لأني اعترفت أمام قُضاتي برغبتي الثابتة في احتلال المنطقة الإسبانية”. بعد أشهر من اعتقاله بدأ عبدالكريم يفكر في الهروب من سجنه؛ وبمساعدة عمه عبدالسلام الخطابي، الذي تسلل إلى مليلية ومدَّهُ بحبل لتسلق الجدران، استطاع تخطي جدران سجنه. هذه العملية ستنتهي بعبدالكريم في المستشفى، ثم في المحكمة من جديد؛ فعندما كان يتدلى من سور المعتقل سقط وتكسرت قدمه. أثناء إعادة محاكمته، سينصحه أحد أصدقائه الإسبان، واسمه الجنرال ريكارمي، بأن يصرّح أمام هيأة المحكمة بأنه لم يكن ينوي الهروب، وإنما حاول الانتحار، جراء الظلم الذي أصابه من محاكمة واعتقال غير عادلين. هكذا قضت المحكمة العسكرية بمليلية بتبرئة ساحة عبدالكريم من التهم المنسوبة إليه. ورغم إطلاقها سراح عبدالكريم، لن تسمح له بمغادرة مليلية، إلا بعدما تأكدت من مرض والده، وبعدما رهن مبالغ مالية مهمة في أحد البنوك الإسبانية. بعد حوالي سنة من عودة عبدالكريم إلى الريف، سيموت والده، تاركا مسؤولية الدفاع عن الريف وأهله لابنه. يحكي عبدالكريم في مذكراته: “دام مرض والدي اثنين وعشرين يوما ثم توفي في أجدير، وقد ظن الإسبان في أول الأمر أن موت والدي سيثير انقلابا أو ثورة في الريف، ولكن شيئا من هذا لم يقع… وكان المرحوم قبل وفاته قد دعانا إليه وقال لنا: “إذا لم تستطيعوا الدفاع عن الريف وحقوقه فغادروه إلى مكان غيره”. رغم وصية الوالد سيعطي عبدالكريم الأولوية لمهادنة الإسبان، وتقديم الحوار على الحرب. “اتفقت وشقيقي على أن نعمل المستحيل لاجتناب الحرب، حتى أننا قررنا بعد وفاة والدي بيومين أن نكتب إلى القيادة الإسبانية نسألها الإقلاع عن سياستها الخرقاء، والاتفاق معنا على حكم الريف حكما يساعده على التقدم ويغمره طمأنينة وسلاما”. إلا أن إسبانيا ستسخر من دعوة قاضيها السابق في مليلية للسِّلم، وستواصل الزحف نحو قبائل الريف. لكنها ستذوق مرارة الهزيمة تلو الهزيمة. فما بين غشت 1920 تاريخ وفاة والد عبدالكريم، ويونيو 1921 تاريخ معركة أنوال، ستخسر إسبانيا آلاف الجنود، ومئات المواقع، وما لا يُحصى من العتاد والأسلحة. بالمقابل ستتيح لعبدالكريم الخطابي أن يعلن قيام دولة الريف. «الجمهورية» الاتحادية لقبائل الريف سنتان بعد إعلان قيام «الجمهورية»، وبالضبط في فاتح فبراير من سنة 1923، سيدعو عبدالكريم جميع قبائل الريف وعددا من قبائل جبالة لمؤتمر بأجدير، إلى تكوين برلمان وحكومة الدولة التي سيطلق عليها اسم«الجمهورية» الاتحادية لقبائل الريف”، وقد اتفق برلمان «الجمهورية» المعروف ب”الجمعية الوطنية”، في هذا المؤتمر التأسيسي، على ثلاث نقط ستكون عماد دستور «الجمهورية»، وهي: “تنصيب الأمير عبدالكريم رئيسا ل«الجمهورية» مدى الحياة. تسميته بالأمير بدلا من الفقيه؛ وهو اللقب الذي كان الريفيون ينادون به عبدالكريم. إعطاؤه كامل الصلاحية لتشكيل الحكومة تحت رئاسته، بحيث يمكنه تعيين أو عزل أعضائها دون اللجوء إلى “الجمعية الوطنية”. “وقد تطلب تنظيم كيان الدولة عامين، ورفض عبدالكريم أن يكون له لقب سلطان، بل رضي بلقب أمير الريف، ولم يكن إلا أمير الجهاد دون مدلول آخر، والقائد الأعلى لقوات المجاهدين، ورئيس الدولة الناشئة وحكومتها معا، فلم تكن هناك مملكة ولا أسرة ملكية ولا بلاط ولا حاشية… وقد منع الأمير محمد بن عبدالكريم أن يذكر اسمه في خطبة الجمعة”، كما أورد محمد الحسن الوزاني في كتابه:” حياة وجهاد”. إلا أن عددا من القبائل الريفية رأت في الخطابي رئيس دولة، وأميرا للمؤمنين، تستوجب نصرته، الدعاء له في المساجد. هكذا” أصبح اسم محمد بن عبدالكريم الخطابي يذكر في خطب الجمعة على منابر جوامعها بدل اسم السلطان الشرعي”، يقول المؤرخ عبدالكريم الفيلالي. وقد استمرت«الجمهورية» الاتحادية لقبائل الريف “من يوليوز 1921 حتى ماي 1926، تاريخ تسليم محمد بن عبدالكريم الخطابي نفسه للفرنسيين حقنا لدماء الريفيين، خصوصا بعدما دخلت فرنسا على خط الحرب وبعدما اشتد قصف الإسبان للريف بالأسلحة الكيماوية. هكذا نفت فرنسا الخطابي وأسرته إلى جزيرة لاريونيون الفرنسية التي استمر فيها إلى حدود سنة 1947؛ ليستقر بعد ذلك بشكل نهائي في مصر.
* أعضاء الحكومة: – الرئيس: عبدالكريم الخطابي. – الخليفة: امْحمد الخطابي (أخ عبدالكريم). – وزير المالية: عبدالسلام الخطابي) عم عبدالكريم). – وزير الخارجية: محمد أزرقان. – وزير الحربية: عبدالسلام الحاج موحند (تم تغييره باحمد بودرّة، بعد فشله في معركة تيزي عزّا). – وزير الداخلية: اليزيد بن الحاج حمو. دستور «الجمهورية» بعد تشكل الحكومة، وسيطرة” «الجمهورية» الاتحادية لقبائل الريف” على أغلب أجزاء الريف، سيفكر محمد بن عبدالكريم الخطابي في وضع دستور للبلاد. كان دستور جمهورية الريف يستند على مبدأ السيادة للأمة الريفية، وقد أخذ بن عبدالكريم ظروف الحرب التي كانت تشهدها المنطقة بعين الاعتبار، أثناء صياغة الدستور، بحيث ركز كل السلط في يده. عن ظروف تأسيس الدستور يقول بن عبدالكريم الخطابي في مذكراته: “ثم وضعت دستورا للبلاد مبدؤه سلطة الشعب، وجعل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في يد الجمعية الوطنية، أي أن الدستور لم يفصل بين السلطتين وفقا للقواعد الدستورية الأوروبية، وجعل رئيس «الجمهورية» رئيسا للجمعية الوطنية، وحتّم على كل شيخ وزعيم وقائد من أعضاء المجلس تنفيذ المقررات التي تُقرّها الجمعية، وهؤلاء مسؤولون عنها تجاه الرئيس بصفته رئيس الحكومة، والرئيس مسؤول عنها إزاء الجمعية”. أما الوزارات فلم ينص دستور «الجمهورية» إلا على أربع مناصب رئيسية هي: رئاسة الوزراء، ووزارة الخارجية، ووزارة المالية، ثم وزارة التجارة، أما بقية الوزارات كالداخلية والدفاع، فقد جعلها الدستور من اختصاص رئيس «الجمهورية». الدستور حدد، كذلك، شكل العلم؛ ذي الأرضية الحمراء يتوسطها هلال في داخله نجمة سداسية. ويذهب محمد حسن الوزاني في كتابه :”حياة وجهاد” إلى أن بن عبدالكريم” كان يفكر في اقتباس الدستور الإنجليزي، فأمر وزير خارجيته باستحضار نسخة منه، وكان اندهاشه كبيرا لما علم أن انكَلترا لا تملك دستورا مكتوبا، وأن دستورها يتكون من تقاليد قومية ورثتها من عهود تاريخها الوطني”. دبلوماسية «جمهورية» الريف وعيا من محمد بن عبدالكريم الخطابي بأهمية الدبلوماسية في نقل حقيقة الريف إلى العالم، كلف غداة تأسيس «الجمهورية»، شقيقه امحمد، والشريف التيجاني، والحاج الحاتمي سفراء متجولين، كما نصّب عبدالكريم الحاج ممثلا عاما للجمهورية بطنجة، التي كانت خاضعة للنظام الدولي، أما حدو لكحل، فقد كان مكلفا بالاتصال مع فرنسا، بحكم إتقانه الفرنسية. كما جعل الخطابي من حقيبة الخارجية، التي أسندها إلى محمد أزرقان، واحدة من أنشط الوزارات، بحيث كان رئيس «الجمهورية» يشرف بنفسه على الشؤون الدبلوماسية، من إرسال البعثات والوفود والاطلاع على الحوارات والمفاوضات التي كان موفدو «الجمهورية» يجرونها مع باقي الدول. بداية من سنة 1923 سيبعث بن عبدالكريم أخاه امحمد، رفقة الحاج محمد الحاتمي إلى عدد من الدول الأوروبية. كانت المهمة صعبة، بحيث لم يستطع موفدا «الجمهورية» الوصول إلى فرنسا إلا متنكرين، بعدما تدبّرا جوازي سفر مزورين من الدارالبيضاء. استمرت رحلة امحمد الخطابي والحاج محمد الحاتمي ثمانية أشهر، قضاها أخ الأمير ومرافقه بين عدد من الدول الأوروبية، يجريان اتصالات مع مسؤولي الحكومات، والأحزاب المعارضة، خصوصا الأحزاب الشيوعية التي كانت ضد سياسة إسبانيا، كما عقدوا لقاءات مع الصحافة الأوروبية لحشد الدعم الشعبي لقضية الريف. امحمد الخطابي ومرافقه الحاج محمد الحاتمي سيبذلان جهودا كبيرة للوصول إلى عصبة الأمم بجنيف لإسماع صوت «الجمهورية» للعالم، إلا أن هيمنة الدول الاستعمارية على هذه العصبة حال دون تمكن ممثلي جمهورية الريف من الدخول إلى مقرها. بموازاة هذه الرحلة الدبلوماسية، سيبعث بن عبدالكريم الخطابي، في السنة نفسها، أي1923، وفدا آخر إلى لندن، يقوده عبدالكريم الحاج، لكي يشرح موقف جمهورية الريف من الحرب، ويفضح عدوانية إسبانيا أمام البريطانيين. وقد صرّح الوفد لإحدى المجلات هناك، كما جاء في مذكرات محمد بن عبدالكريم الخطابي: “إن اسبانيا بعدما فشلت في حربها معنا عمدت إلى الحصار البحري وأخذت ترمي قرانا بقنابلها مستعملة حرب الجبن والدناءة، فلا يقع في يدها أسير منا إلا وتمثل به أفظع تمثيل، بينما نحن لا نعامل أسراها إلا بالحسنى”. ولتعميق الهوة بين المملكة الإسبانية ونظيرتها البريطانية، سيضيف الوفد الريفي: “لقد وفدنا إلى أوروبا وبودنا إسماع صوتنا وشرح قضيتنا إلى العالم المتمدن”. إلا أن هذه الحملات التحسيسية لم تكن لتجد لها صدى من لدن دول بنت سياستها الخارجية على الاستعمار والتوسع. هذا الأمر سيتأكد لرئيس «الجمهورية» لاحقا، حيث سيصرح الخطابي لمراسل جريدة “لوماتان” العسكرية الفرنسية، قائلا: “إن هذه السفرة كانت فشلا عظيما خسرنا فيه مبلغا من المال كنا في أشد الحاجة إليه، في ذلك الوقت”. بنك حكومة الريف مطلع سنة 1923 بدأ الخطابي يفكر في إحداث عملة خاصة ب «الجمهورية»، فبعدما اهتدى رفقة عمه ووزيره للمالية عبدالسلام الخطابي إلى تسمية عملة الريف ب” ريفان”. سيكلف الخطابي شقيقه امحمد بأن يتعاقد مع بعض البريطانيين لسكّ ورقتين من “الريفان”، واحدة من فئة واحد ريفان، حمراء اللون، وأخرى من فئة خمسة ريفانات لونها أخضر، وكان الريفان الواحد يعادل ما مقداره “بسّيطة” واحدة من العملة الإسبانية، وقد كانت الورقتان النقديتان مكتوبتين بالعربية والإنجليزية. وبعد استقدام عملة «الجمهورية» قرر عبدالكريم أن يتم تداول “الريفان” بشكل إجباري، دون سواها من العملات التي كانت متداولة في المنطقة الشمالية، ويظهر أن ترويج هذه الأوراق كان يرتكز على عقد مبرم بين أحد الرعايا الانكَليز المعروفين جدا بالمغرب، وبين أخ محمد بن عبدالكريم، والذي يرخص فيه للأول أن ينشئ بنكا للحكومة في الريف يكون مركزه أجدير من أجل ترويج هذه الأوراق وإذاعتها، وتقديم القروض، واعدا في مقابل ذلك بأن يعمل على تسهيل الموارد التي تحتاج إليها حكومة الريف”، حسب ما يؤكده محمد بلحسن الوزاني في كتابه سالف الذكر، الذي يضيف: “إن هذا البنك لم ير النور، وحيث لم تكن هناك ضمانة مالية فيمكن بسهولة فهم المقاومة التي أبداها رجال القبائل في عدم قبولهم لهذه الأوراق التي كانت تفتقر إلى قيمة حقيقية”. فهل تعامل الريفيون بالعملة المحلية” ريفان”؟ لا، لم يحدث ذلك. هذا ما يؤكده الوزير الأول السابق عبدالرحمان اليوسفي، الذي كان قد أنجز بحثه للدراسات العليا في موضوع جمهورية الريف، إذ يقول: “لم يسبق لعبدالكريم الخطابي أن اعتمد “الريفان” كعملة رسمية للجمهورية، بحيث إن الحكومة الريفية كانت تستعمل “البسّيطة” الإسبانية، كعملة للتداول، وأحيانا العملة الحسنية الشريفة. أما العملة الريفية “ريفان”، وكذا بنك الحكومة الريفية المزعومين، فلم يوجدا إلا في مخيلة مجموعة من رجال الأعمال البريطانيين يترأسهم السيد كَارديني. لقد حدث فعلا أن قام هؤلاء بطبع الأوراق البنكية في لندن، ونقلوها على متن “يخت” إلى الحدود الريفية، حيث اقترحوا على السلطات الريفية طرح هذه العملة للتداول على غرار البلدان العصرية، وكانت نواياهم آنذاك استنزاف المدخرات الريفية. وبعد أن استمع عبدالكريم إلى العرض المدهش لكَارديني، نظر إلى زائره بهدوء وقال: إذا كان لديكم شيء آخر لتقترحوه علينا فيمكننا أن نكمل الحديث”. وعن أوراق الريفان التي ما يزال الريفيون يحتفظون بها إلى الآن للذكرى، يضيف عبدالرحمان اليوسفي: “لقد تخلص كَارديني من شحنات العملة في البحر، وأغلب الظن أن الأوراق الموجودة حاليا تم انتشالها من السواحل”. أما اقتصاد جمهورية الريف فكانت أهم موارده تتشكل من: الضرائب المفروضة على تصدير البضائع واستيرادها، وقد كانت قيمتها تصل إلى 5000 بسيطة في اليوم- مدا خيل الأحباس وقد ألحقها عبدالكريم بالمالية العامة، بمبرر استعمالها في محاربة الكفار، وقد بلغت قيمة مداخيل الأحباس 75 ألف بسيطة في السنة- ضريبة الترتيب، وهي الضريبة المفروضة على الأملاك العقارية، والمحاصيل، و رؤوس الماشية… وكانت تقدر ب 300ألف بسيطة سنويا- الغرامات التي فرضت على القبائل التي مانعت الالتحاق ب «الجمهورية»، مثل قبيلة بني زروال التي فرضت عليها غرامة قدرها نصف مليون بسيطة. وقبيلة الأخماس التي غرمها عبدالكريم 20 ألف بسيطة اسبانية- وأخيرا مالية افتداء الأسرى الإسبان.
«جمهورية» الحرب القاسم المشترك الذي كان يجمع بين رئيس جمهورية الريف وأبسط رجل في الريف، هو حمل السلاح وخوض الحرب. فمنذ قيام جمهورية الريف سنة1921، وإلى حين سقوطها في 1926، لم يشهد الريفيون يوما من دون حرب، أو من دون التفكير فيها والتهييء لها،” فلم يكن رئيس «الجمهورية» طيلة السنوات الخمس، من عمر «الجمهورية»، إلا أمير الجهاد دون مدلول آخر، والقائد الأعلى لقوات المجاهدين” يؤكد محمد بلحسن الوزاني. فكيف كانت جمهورية الحرب” تجنّد رجالها، وكيف كانت تنظم حروبها؟ كان نظام التجنيد في الريف إجباريا بالنسبة إلى كل من وصل 15 سنة، وذلك بقرار صادر عن برلمان الريف”الجمعية الوطنية”، وكان المجاهدون يتكونون من محاربين متطوعين، ومن جيش نظامي يبلغ عدده حوالي 8000 جندي، وقد أحدث عبدالكريم، إلى جانب وزارة الحربية، منصب” دافع مرتبات القوات النظامية الريفية” كلف به علي ولد فطومة، وكان “البراح” يجول الأسواق مناديا في الناس بالالتحاق بجيش المجاهدين. أما أجرة الجنود فكانت محددة في 150 “بسيطة” إسبانية في الشهر لقائد الطابور، و100 “بسّيطة “لقايد المائة والعشرين )أي من يقود 120 عسكريا)، و80 “بسيّطة” لقايد الخمسين، و70 “بسّيطة” لقايد الخمسة وعشرين، و60 “بسّيطة” للجندي. كان جيش «الجمهورية» يتوفر على مخزن رئيس للعتاد الحربي بمنطقة أزغار قرب عاصمة «الجمهورية» أجدير، يشرف عليه محمد بوجيبار، وكان هذا المخزن مخصصا لتخزين الأسلحة ومد الجنود بالخراطيش، كما كان به معمل لإصلاح العتاد الحربي، يديره لمْعلم محمد التمسماني، يساعده 26 عاملا من بينهم بعض يهود قبيلة بني بوفراح. أما المخزن الرئيس لسلاح المدفعية، فكان مقره في منطقة بوحن ببني ورياغل، وكان به معمل لصنع قذائف الطائرات، بالإضافة إلى مخازن أخرى في كل مناطق «الجمهورية» أقيمت لتلبية حاجة المجاهدين إلى السلاح. أما عتاد «الجمهورية» من التجهيزات الحربية الثقيلة، فكان يتكون من عدد كبير من المدافع والسيارات العسكرية والشاحنات، كما كانت «الجمهورية» تتوفر على زورقين حربيين كبيرين، وستة زوارق متوسطة. وقد عيّن عبدالكريم في مهمة “مفتش القوات البحرية” حدّو بن علي المعلم، الذي كان يساعده أحد التقنيين من الجزائر، مختص في ميكانيك السفن. أما سلاح الجو، فقد كان نصيب «الجمهورية» منه ثلاث طائرات يقول عنها عبدالكريم في مذكراته” :كنت أستطيع أن أضحي بأي شيء من أجل أن تُحلق طائرة ريفية فوق الخطوط الإسبانية، وكان في مقدوري بهذه الطريقة أن أثبت لقبائلي بأنني مسلح بطريقة حديثة، أما أعدائي ،فإنهم من جهتهم كانوا يتأثرون من رؤية طائرة ريفية تحلق فوق سماء العرائش، أو تطوان، أو مليلية”. محاكم «الجمهورية» أنشأ عبدالكريم عددا من المحاكم للنظر في نزاعات المتقاضين الريفيين، الذين كانوا قبلها يلجؤون إلى أخذ حقوقهم بيدهم. وقد ألغى عبدالكريم الثأر، وجرّم الانتقام، ومنع العقاب بالسوط،” وألغى الدية، واستعمال الرصاص إلا في قتال العدو، وحطم ما بني بجوار كل دار من مخبأ لرمي الجار بالرصاص كلما نشب خلاف تطلب الانتقام، وهذه أفظع عادة كانت هناك، وكان الأمير يسميها بلعنة الريف…” يضيف محمد بلحسن الوزاني. وكانت المحاكم التي أسسها عبدالكريم موزعة على امتداد تراب منطقة الريف وجبالة كالتالي: المحكمة المركزية في مزماط بأجدير- محكمة آيت قمرة- محكمة أكشاب بتمسمان- محكمة تارجيست- محكمة تغزوت- محكمة اخريرو في بني حزمار- ومحكمة بني بربر. استخبارات «الجمهورية» كان أغلب جواسيس عبدالكريم الخطابي ينحدرون من المناطق التي كانت تقع تحت السيطرة الإسبانية، وكان أشهرهم شيخ عجوز اسمه عليّ بن حموش، كان يجتاز الحدود، محملا بالرسائل والجرائد والأخبار، من دون أن يلفت انتباه الإسبان. كما اشتغل ضمن جهاز استخبارات «الجمهورية» عدد من الأجانب، أشهرهم الألماني جوزي كليمبس، الذي كان معروفا لدى الريفيين بالقايد الحاج، وقد كان كليمبس يقوم، إلى جانب إرشاد الجواسيس، بتدريب المدفعيين وتنظيم خطوط الجيش. وقد تم اعتقاله، بعد استسلام عبدالكريم، متنكرا في لباس مغربي، حيث حكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص. ميثاق «الجمهورية» مباشرة بعد تأسيسها، عقد برلمان «الجمهورية»، المعروف بالمجلس الوطني، عددا من اللقاءات والمداولات، أسفرت عن صياغة الميثاق وطني، وقد نص هذا الميثاق على النقط التالية: عدم الاعتراف بأي معاهدة تمس بحقوق البلاد المغربية، وخاصة بمعاهدة “الحماية” المفروضة في 1912. جلاء الإسبان عن الريف الذي لم يكن في حوزتهم قبل إبرام المعاهدة الفرنسية الإسبانية سنة 1912. الاعتراف بالاستقلال التام للحكومة الريفية. تشكيل حكومة دستورية بالريف. دفع إسبانيا للريف تعويضات عن الخسائر التي ألحقتها بسكانه من جراء الاحتلال، ولفداء الأسرى الذين وقعوا في يد المجاهدين. إنشاء علاقات ودية مع جميع الدول بدون استثناء، وإبرام اتفاقيات تجارية معها. هل كانت «الجمهورية» صنيعة ألمانية؟ في مذكراته لم ينف عبدالكريم الخطابي اتصاله سنة 1915 بشخص ألماني اسمه فرانسيسكو فارل، من دون أن يخبرنا عن الأسباب الحقيقية التي تدفع رجلا ألمانيا للتحريض ضد فرنسا أو إسبانيا؟ فهل يمكن أن تكون فكرة «الجمهورية» قد استهوت عبدالكريم لدرجة التحالف مع الألمان، الذين كانوا يسعون إلى السيطرة على مناجم الثروة بالريف؟ هذا ما يريد المؤرخ عبدالكريم الفيلالي قوله في كتابه:” التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير”. كيف ذلك؟” من خلال ما نقله الصحفيون من مختلف الجنسيات عن الزعيم عبدالكريم نفسه، ما يؤكد أن” دولة الريف” في اعتباره وما خطط له شيء واقع انساق إليه واستهواه”. فهل يعني ذلك أن عبدالكريم كان مجرد أداة لتنفيذ مخطط أكبر منه، وأن هذا المخطط كان من الممكن أن يسند أمر تنفيذه إلى أي شخص آخر؟ ولكن، كيف استطاع الخطابي أن يعد العدة للحرب ويجمع القبائل حوله؟ يجيب الفيلالي: “حسب الذي يتبين من الاستنتاج أنه (أي محمد بن عبدالكريم الخطابي) خطّط وتابع التخطيط اتفاقا مع الزعامة ومن وراء المجاهدين الذين كانوا حسب اعتقادهم وصادق نواياهم إنما يحاربون الكفار ولم يدركوا أن الذين وراء الجميع، إنما هم الألمانيون أصحاب شركة “مانسمان”، وذلك حتى تضفي (شركة مانسنمان) المشروعية على وجودها واستغلالها الذي كان حوله نزاع من أجل الامتياز الذي حصلت عليه فيما يتعلق بمنجم الحديد… ولذلك، اختارت الشركة العمل على تكوين دولة تشمل منطقة المعدن فأعلن عن تكوينها بتلك السرعة المذهلة، اثر معركة أنوال”. إلا أن السؤال الذي يبقى عالقا، إذا نحن سلمنا بما يقوله عبدالكريم الفيلالي، هو: لماذا تخلت ألمانيا عن الخطابي، وساندت إسبانيا في حربها القذرة على الريف؟