بمجرد ما تخرجت من المعهد العالي للمسرح، في نهاية التسعينيات، أسست رفقة زميل الدفعة عبدالصمد مفتاح الخير وبعض الأصدقاء الشعراء جمعية سميناها، بغير قليل من الخفة، «جماعة الأكروبول». لم تكن «الجماعة» إرهابية، بل تعنى بالشعر والمسرح والعلاقة بينهما، وأعتقد أن الصديق الشاعر حسن الوزاني، هو الذي عثر على الاسم، ليس حبا في الثقافة الإغريقية، بل تيمنا بشاعر عراقي يعيش في سان فرانسيسكو، اسمه سركون بولص، وبديوانه الذي يحمل عنوان: «الحياة قرب الأكروبول»، والذي شكل إنجيلا لكثير من الشعراء الشباب في عقد التسعينيات. الحياة قرب الأكروبول المغربي لم تكن تخلو من مشاكل. بعدما نظمنا أمسية شعرية جميلة في مسرح محمد الخامس، قدمتها الصديقة لطيفة أحرار وشارك فيها محمود ميگري بقيثارته الذهبية، اختلفنا فيما بيننا كما يحدث في كل الجمعيات. انسحب الشعراء وبقي المسرحيون، فحولناها إلى فرقة تحمل ذلك الاسم الغريب: «مسرح الأكروبول». كانت وزارة الثقافة أطلقت لأول مرة برنامج «الدعم المسرحي»، وكان «مسرح الأكروبول» على قائمة الفرق التي حصلت على الدعم، بعدما تقدمنا بمشروع عرض مسرحي مستلهم من قصائد شعرية. كان الحسن الثاني على قيد الحياة والمغرب بالأبيض والأسود، والمسرح هو الطيب الصديقي والطيب لعلج ونبيل لحلو وثريا جبران وعبدالقادر البدوي وعبدالحق الزروالي… بالإضافة إلى عدد من الشباب الصاعدين، الذين تخرجوا من المعهد العالي للمسرح أو من ورشات المرحوم عباس إبراهيم في مسرح محمد الخامس. لا أعرف من أين أتتنا الفكرة، لكننا قررنا أن نجعل من مشروعنا «جسرا بين القصيدة والمسرح» و»قنطرة بين أجيال مختلفة من الشعراء المغاربة»، رغم أننا تخرجنا من «ليزاداك»، وليس من مدرسة «الطرق والقناطر»! النص كان عبارة عن توليفة من القصائد لمجموعة من الشعراء الراحلين: محمد الخمار الكنوني وأحمد المجاطي وعبدالله راجع ومحمد خير الدين وكمال الزبدي وأحمد بركات… ودائما، في إطار ولعنا بالطرق والقناطر، قررنا أن نربط بين جيلين من المسرحيين، وفتشنا عن أحد الممثلين المخضرمين كي يلعب معنا. لا أعرف كيف وقع اختيارنا على الحاجة فاطمة الركراكي، لكنني أتذكر أنها كانت في أوج العطاء، في التلفزيون والمسرح، وعندما طلبنا منها الانضمام إلى المشروع، تحمست وقالت بلا تردد: أنتم أولادي، وهؤلاء الشعراء – رحمهم الله – أحبائي، أعرفهم واحدا واحدا، وأصبحت تصل قبلنا جميعا للتداريب! التداريب كانت تجري بين دار ماراسا، مقر «الاتحاد العام للشغالين» وقتها، وملحقة «اتحاد كتاب المغرب» بالاوداية، التي كانت تؤوي فصول المعهد العالي للمسرح، قبل أن تقرر السلطات هدمها ومعها ذكريات أجيال من الفنانين، الذين قضوا أجمل سنوات العمر بين حيطانها. كانت فاطمة الركراكي راقية في علاقتها مع بقية الفرقة، التي تتكون في معظمها من شباب نزقين، تخرجوا للتو من المعهد. رغم تاريخها الحافل، وشهرتها الكبيرة، كانت تتصرف بكثير من التواضع. تأتي دائما في الوقت وتنخرط بمنتهى الجدية في التداريب وتحفظ نصها عن ظهر قلب، وفوق ذلك تتعامل معنا مثل أبنائها. عندما قدمنا العرض الأول في مسرح محمد الخامس، حصدنا تصفيقات حارة ومقالات متحمسة ودعوات لتقديم المسرحية في مدن مختلفة. لن أنسى يوم ذهبنا إلى آسفي كي نقدم العرض في أحد المهرجانات. حين وصلنا لم نجد غرفا في الفندق الذي كان يفترض أن نقيم فيه، وكنا نستعد للذهاب إلى نزل آخر، حين جاء صاحب الفندق المليء بالزبائن كي يأخذ صورة مع الركراكي، ثم اقترح عليها أن تبقى في فندقه وأنه سيتصرف كي يعثر لها على غرفة تليق بمقامها، فردت عليه مبتسمة: «شكرًا آسيدي، ولكن ما يمكنش نبقى هنا ونخلي وليداتي»… مشيرة إلينا. كنا فعلا أولادها. كانت أمًّا مثالية، وفنانة راقية! مثل كل أفراد جيلها الذهبي، كانت تسمي المسرحية ب»الرواية». وكم كنا نضحك من حكاياتها عن بدايات المسرح المغربي، عن قفشات الطيب الصديقي واحتيالاته، ومغامرات ثريا جبران مع الرقص، وعن لقاءاتهم المستمرة مع الحسن الثاني، الذي كان يتدخل أحيانا في إخراج المسرحيات… مرت السنين، ونفضت يدي من المسرح، وانقطعت عني أخبارها، مثل كثيرين. إلى أن رأيت صورها مؤخرا على أحد المواقع الصفراء في حالة مزرية. بالكاد تعرفت عليها. تحالف عليها المرض والإهمال، وتحولت إلى شبح. غالبت دموعي ولعنت من تجرّأ على تصويرها في تلك الوضعية. الفنان مثل كل الناس يمرض ويهرم ويموت، ومثلهم له كرامته وحرمته التي لا يجوز انتهاكها. اللعنة على من يتاجر في مآسي المرضى والمعدمين! الفنان يصنع سعادة الآخرين. لكي نسدد له بعض الديْن، يجدر بنا ألا نتذكر إلا وجهه المضيء. بقية الوجوه تنتمي إلى الحياة الحميمية والخاصة. الركراكي أضاءت ليالي المسرح الطويلة لمدة عقود. لعبت الأدوار الرئيسية في أشهر وأنجح المسرحيات المغربية والعالمية، في زمن كان وجود النساء على الخشبة، في حد ذاته، إنجازا عظيما. واشتهرت بتواضعها وجمالها وقربها من كل الأجيال. هذه الصورة التي ينبغي أن نتذكرها اليوم، وأن ندعو لها بالشفاء ونساعدها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. أما التشهير وانتهاك الكرامة، فمن شيم الحقراء! المبادرة التي يقوم بها هذا الأسبوع عدد من الفنانين، على رأسهم محمد الغاوي، تحت شعار: «ليلة الوفاء»، لمساندة زميلتهم في محنتها، تستحق التنويه. الفنانون هم من يصنع الفرحة والجمال والمثل العليا. ينبغي أن يكونوا جسدا واحدا، إذا اشتكي فيه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. الظروف التي تمر بها الحاجة فاطمة الركراكي يمكن أن نمر منها نحن جميعا. الفنان المغربي يُمتع جمهوره لسنوات وعقود، وحين يسقط مريضا تتحول الملهاة إلى مأساة. من العيب ألا يتذكره أحد، ومن العار أن ننشر صوره في وضعية مهينة!