في الخلفيات العميقة للعوامل التي أدت إلى انتفاضة يونيو 1981 والنهاية الدامية التي آلت إليها، نجد معطيات تهم اختلال التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، ما جعل القرارات الحكومية برفع الأسعار تنزل كالصاعقة فوق رؤوس المهمشين. إحدى وثائق حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التي وثّقت لهذه الأحداث، تنقل عن دراستين همّتا مستوى الاستهلاك سنتي 1960 و1971، أن مستوى معيشة 20 في المائة من الأسر الأكثر فقرا، تدنى بنسبة 36 في المائة، وفي الفترة نفسها، ارتفع مستوى معيشة 20 في المائة من الأسر الأكثر غنى ب54 في المائة. خالصة إلى أن نحو 19 في المائة من ساكنة المغرب، كانت تقوم بنصف الإنفاق العام بالمملكة. فقراء السبعينيات أحد تقارير البنك العالمي لسنة 1978، يفيد أن مغربيين من أصل كل خمسة، يعيشون تحت عتبة الفقر المطلق، أي قرابة 7 ملايين مغربي، أي بزيادة أكثر من مليون وربع مليون نسمة، مقارنة مع 1960. أما المغاربة، الذين كانوا يعانون من سوء التغذية عام 1971، فيقدرون بنحو 46 في المائة، أي أولئك الذين يحصلون على قدر أقل من الحد الأدنى للسعرات الحرارية. وهو المعدل الذي لا يمكن إلا أن يتفاقم مع استمرار ارتفاع كلفة المعيشة واستقرار موارد الأسر المغربية. في مجال التعليم، يفيد الإحصاء العام للإسكان والسكنى للعام 1982، أن قرابة 56 في المائة من السكان تقل أعمارهم عن 20 سنة، ما يعني نحو 11 مليون شاب وشابة من أصل أكثر من 20 مليون نسمة. بينما معدلات التمدرس، آنذاك، تبين أن نحو 60 في المائة فقط، من الأطفال في سن التمدرس (7 سنوات) يلجون المؤسسات التعليمية، أي إن نحو مليونين ونصف مليون طفل يوجدون في الشارع. وبخصوص البطالة، تفيد الأرقام الرسمية أن عدد طلبات العمل التي لم تتم تلبيتها عام 1978، فاق 850000 طلب، ما يعني، رسميا، نسبة بطالة بنحو17 في المائة. إضافة إلى نسبة أخرى من البطالة المقنعة. وفي التجهيزات الاجتماعية في الحواضر، فإن نسبة 66 في المائة من سكان المدن المغربية فقط، كانت حينها مزودة بالكهرباء، نظرا إلى ضعف التجهيزات، وغلاء سعر الكهرباء. و52 في المائة منهم يتوفرون على الماء الصالح للشرب، حسب تقرير للبنك العالمي، دون حاجة إلى رصد الوضع الكارثي للتطهير والنظافة. اختلالٌ فاقمته الهجرة القروية، والتي تكاد تكون السبب الأول لما حدث، حسب خطابات الراحل الحسن الثاني. أما جذورها فتعود إلى ضيق العيش في القرى المغربية بتعميق الفوارق وتوالي الجفاف. وتبين بنية الاستغلاليات الفلاحية حينها، أن 80 في المائة منها كانت تقل مساحتها عن 5 هكتارات، بينما تسيطر 3 في المائة فقط، من الاستغلاليات، على ثلث الأراضي الصالحة للزراعة بالمغرب. ومن أصل 7 ملايين فقير، الذين تم إحصاؤهم عام 1977، 5 ملايين يوجدون في العالم القروي. مغرب أغنى، لكن أقل عدلا بعد أكثر من ثلاثة عقود من تلك الأحداث، أصبح المغرب أغنى، لكن مواطنيه أصبحوا أفقر. خلاصة تواترت التقارير والدراسات لتأكيدها، منذ خرج الملك محمد السادس صيف العام 2014 ليتساءل “أين هي هذه الثروة؟”. الكم الأكبر من هذه الدراسات والتقارير، أصدره الجهاز الإحصائي الرسمي والأكثر وثوقية، أي المندوبية السامية للتخطيط، والتي تكشف كيف أن ارتفاع حصة الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي، تخفي وراءها خللا في التوزيع الحقيقي لثمار هذا النمو، حيث تؤول غالبيته إلى الأغنياء ومالكي رأس المال، مقابل انسداد قنوات توزيع فائض القيمة المضافة، عن طريق تقلّص وتيرة التشغيل بالأساس. الثروة الإجمالية للمغرب تضاعفت منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم، حسب ما خلص إليه تقرير بنك المغرب والمجلس الاقتصادي حول الثروة الإجمالية للمملكة، وحصة كل فرد مغربي من هذه الثروة الإجمالية ارتفعت ب2.7 مرات بين 1999 و2013. لكن العامل الأكثر مساهمة في خلق الثروة بالمغرب، كان هو “الإنتاجية”، أي مغاربة يعملون أكثر من السابق. النمو الاقتصادي الشامل الذي شهده المغرب في العقدين الماضيين، أتى على حساب الشرائح الواسعة من المغاربة، لكونه أغلق قنوات التوزيع الأساسية لثمار أي نمو اقتصادي، والتي هي فرص الشغل. فمجموع عدد فرص الشغل، التي كان الاقتصاد المغربي يخلقها سنويا في الفترة ما بين 2001 و2008، كان يصل إلى أكثر من 186 ألف وظيفة، لينخفض هذا الرقم في الفترة المتراوحة بين 2008 و2015، إلى 70 ألف وظيفة جديدة كمتوسط سنوي. هذا التطوّر الإجمالي في ثروة المغرب، وإن كانت الثروة اللامادية تمثل أكثر من 60% منه، إلا أن تعميقا للفوارق الاجتماعية رافقه خلال الفترة التي شملها التقرير. ف10 في المائة من مجموع الأسر المغربية، والتي يصفها التقرير بكونها الأكثر غنى، تستهلك لوحدها أكثر من ثلث إجمالي نفقات الاستهلاك لدى مجموع الأسر المغربية (33.8%)، بينما يكتفي العُشر الفقير من بين مجموع الأسر المغربية، بما نسبته 2.6 في المائة من مجموع استهلاك المغاربة، والذي يقدّره التقرير بأكثر من 718 مليار درهم. قنبلة البوادي وثيقة أخرى أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط، تقول إن في المغرب 4 ملايين فقير، يتمركزون، أساسا، في البوادي وداخل جهات معينة دون أخرى. هؤلاء الفقراء الذين أحصتهم المندوبية السامية للتخطيط، يتوزعون بين مجموعتين مختلفتين، الأولى تضم الفقراء من الناحية النقدية، أي ممن يتلقون دخلا ماديا هزيلا، وهؤلاء يفوق عددهم المليون ونصف مليون مغربي. أما المجموعة الثانية، التي تضم فقراء بفعل مستوى الخدمات العمومية والبنيات المحيطة بهم، فيبلغ عددهم مليونان و800 ألف مغربي. بين هذه الفئة وتلك، يوجد نصف مليون مغربي ممن يجمعون بين نوعي الفقر، أي الذين يتوفرون على دخل مالي هزيل أو منعدم، وتحرمهم الدولة والجماعات من الخدمات والبنيات الأساسية لمباشرة الحياة اليومية في حدودها الدنيا، بفعل سوء التدبير والتوزيع غير العادل للموارد العمومية. المندوبية كشفت النقاب عن خريطة جديدة ترسم معالم فقر آخر، ينتج عن غياب خدمات التعليم والسكن والصحة والطرق، والتي تجعل المعنيين بها في وضعية فقر وعوز، وإن توفروا على دخل مالي مرتفع. المعطيات التي استخرجتها المندوبية من نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى، الذي جرى عام 2014، تقول إن 1.4 في المائة من سكان المغرب، أي ما يناهز 463 ألف شخص، يعانون من الفقر المدقع، ولا يتوفرون لا على دخل مالي للإنفاق على حاجياتهم الأساسية، ولا الخدمات الاجتماعية الأساسية. إلى هؤلاء ينضاف قرابة مليونين ونصف مليون مغربي، ممن يجعلهم تدبير الشأن العام فقراء بالمعنى متعدد الأبعاد، إلى جانب مليون و200 ألف ممن يعانون من الفقر النقدي، في مقابل توفر الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية. أطفال فقراء وإذا كان الأطفال شكلوا وقود وحطب انتفاضة 1981، فإنه وبمناسبة اليوم العالمي لحقوق الطفل، الذي حلّ في 20 نونبر الماضي، كشف صندوق الأممالمتحدة لرعاية الطفولة، يونيسيف، عن معطيات صادمة حول وضعية الأطفال في المغرب. الصندوق الذي أعد ورقة تتضمن جلّ المعطيات الإحصائية التي توفرها المصادر الرسمية المغربية والدولية؛ قال إن قرابة مليون و700 ألف مراهق وشاب مغربي، تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، يوجدون في وضعية بطالة وعدم انخراط في أي مسار تعليمي أو تكويني. هؤلاء يمثّلون أكثر من ربع المغاربة المندرجين ضمن هذه الشريحة العمرية، ويعتبرون ضمن المقبلين على ولوج فئة المواطنين النشيطين. في مستهل العام 2018، كشف المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، عن جزء من الجواب الذي طلبه الملك في خطابه بمناسبة افتتاح السنة التشريعية شهر أكتوبر 2017، وأعلن فيه فشل النموذج التنموي القائم في المغرب. المجلس أجاب عن سؤال النموذج البديل، من زاوية تخصصه في الشأن التعليمي، وكشف كيف أن المدرسة المغربية تحولت إلى قناة لتوريث الفقر ومعاودة إنتاجه، بدل أن تكون “مصعدا” اجتماعيا. التقرير قال إن أبناء الفقراء يدخلون المدرسة ليبقوا فقراء أو يتقهقروا اجتماعيا، بالنظر إلى العجز الذي يحملونه معهم إلى مقاعد الدراسة، مقارنة بنظرائهم المتحدرين من أسر ميسورة أو متوسطة. الأستاذة الجامعية وعضو المجلس، رحمة بورقية، التي كانت ضمن الفريق الذي قام بإعداد هذا التقرير، قالت إن المجلس لا يسعى إلى إيجاد وصفة تنهي الفوارق الاجتماعية، لكنه يقدم تصورا لعدم بقاء المدرسة وسيلة لإعادة إنتاج هذه التفاوتات، من خلال المساس بمبدأ الاستحقاق. غيتوهات الفقراء وفي الوقت الذي توالى فيه الاحتجاجات الشعبية المناطقية في السنوات الأخيرة، يكشف تقرير نشره المرصد الوطني للتنمية البشرية حول خريطة الفقر متعدد الأبعاد مؤخرا، أن الجماعات الأكثر تنمية، تتركز بشكل كبير داخل جهتي الرباط والدار البيضاء، وتتسم بكونها جميعا جماعات حضرية ومعروفة “تاريخيا” ببنياتها المتطورة ومستوى عيشها المرتفع، حسب تقرير المرصد. ترتيب هذا الأخير للجماعات المحلية من حيث مستوى تنميتها، يكشف تصدّر الجماعات التي يوجد داخلها القصر الملكي في كل من مدينتي الرباط والدار البيضاء، حيث تأتي جماعة “تواركة” في الرباط في الرتبة الأولى وطنيا، وهي جماعة مستقلة عن جماعة الرباط رغم نظام وحدة المدينة، وجماعة “المشور” بالدار البيضاء في الرتبة الثالثة، وغير بعيد عنهما عدد كبير من جماعات الرباط والدار البيضاء وجماعة “كليز” بمراكش. تقرير المرصد قال إن جميع الجماعات الحضرية توجد ضمن 40 في المائة من الجماعات المغربية الأكثر تنمية، مقابل اندراج جماعة قروية واحدة، هي جماعة مرس الخير قرب تمارة، ضمن الجماعات الأكثر تنمية في المغرب. فيما أكثر من ألف جماعة قروية تتوزع كلها ضمن ال60 في المائة من الجماعات الأكثر فقرا بالمغرب. ومن أكثر المؤشرات إثارة، حسب تقرير المرصد، أن أكثر من 60 في المائة من الجماعات التي شملتها مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مازالت مصنفة ضمن ال40 في المائة من الجماعات المغربية الأكثر فقرا. احتجاج متماسك في مجتمع يتفكك من جانبه، المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، كشف من خلال إحدى النسخ الأخيرة من تقريره الاستراتيجي، أن غالبية الشباب المغربي، يتطلّع إلى تحقيق مستقبل أفضل خارج المغرب وليس داخله. المعطى يفسّره التقرير بكون هذا الشباب يواجه التهميش والإقصاء من الاستفادة من عائدات التغيير الذي يعرفه المغرب، وبالتالي، لا يستطيع التطلّع إلى مستقبل جيّد داخل البلاد. دراسة أخرى هي الأكبر من نوعها في مجال قياس مستوى التماسك الاجتماعي بالمغرب، أنجزها المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، تقول إن المجتمع المغربي ظل قائما على بنيات تقليدية من حيث العلاقات والتماسك والثقة، لكن هذه البنيات التقليدية آخذة في التآكل والضعف دون أن تعوّضها بنيات عصرية قادرة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي وضمان قنوات الوساطة وتصريف التوتّرات. الدراسة نفسها حذّرت من خطر سمّته ب”تجذّر الحركات الاجتماعية الذي لا يستهان به”، موضحة أن هناك تغيّرا حصل في شكل الاحتجاج والشعارات المرفوعة، “هكذا أصبحت الحركات الاجتماعية مهيكلة ومؤطرة بشكل أفضل، وهي تسعى إلى تحقيق مطالب اجتماعية، أساسا، وترفع شعارات قطاعية، مما يدل على أن الاحتجاج قد اتّخذ شكلا حديثا…”.