كأي زوجة وفية ومخلصة لزوجها في السراء والضراء، تروي أسماء الموساوي، زوجة توفيق بوعشرين، مؤسس جريدة “أخبار اليوم”، المعتقل تعسفيا على خلفية تهم ثقيلة ومختلقة منذ 23 فبراير 2018. في هذا الحوار الإنساني والمؤثر، تسرد حبها لتوفيق وزواجها منه، وأشياء أخرى حول عشق وشغف توفيق للصحافة، وعلاقته بطفليه وأصدقائه وتعلقه ببلده، وصولا إلى إيمانها المطلق ببراءة زوجها، مؤكدة أن المغتصب الحقيقي للنسوة المغرر بهن، هو من جرجرهن إلى ملف لا ناقة لهن به ولا جمل. ما الذي تقولينه لزوجك توفيق بوعشرين في عيد ميلاده وهو وراء القضبان؟ لا أجد سبيلا لتهنئته بالطريقة التي أحبها، والتي اعتدناها معا. أقول له: «كل عام وأنت تاج فوق رأسي، ورفيق دربي، وأتمنى أن يجمعنا لله قريبا، أتمنى لك طول العمر وموفور الصحة». أقول له: «يكفي أنك في حياتي، والباقي تفاصيل». في أي سياق تعرفت على زوجك توفيق بوعشرين؟ تعرفت على توفيق منذ عشرين سنة، كان صديق أخي وكان مقربا من العائلة. أعترف بأنني أنا من أعجبت به أولا، وألهمتني شخصيته وأخلاقه. أما هو فكان عازفا عن الزواج لأن مهنته كانت مستحوذة على قلبه وعقله. لكني استطعت أن أسرق قلبه على الأقل. كانت خطبتنا في مدينتي الناظور، ولم تخل من قفشات وأسلوب توفيق الساخر، إذ لم يعثر بالمدينة على محلات لبيع الورود، وتعطل المكيف في الفندق الذي كان يقيم فيه (شهر يوليوز)، وكان أغلب من يلتقيهم يحدثونه بالأمازيغية الريفية… حدثينا عن دراستك وعملك وعلاقتك بالسياسة؟ أنا خريجة مدرسة علوم الإعلام، وأشتغل في وزارة التجهيز والنقل، وإلى حدود يوم اعتقال زوجي، لم تكن لي علاقة بالسياسة وبالصحافة. اهتمامي كان مقتصرا على أسرتي وبيتي وعملي. احكي لنا عن حفل زفافكما الذي حضره سياسيون ومثقفون وإعلاميون من مختلف الأطياف والألوان؟ زفافي، الذي مر عليه أكثر من 13 سنة، كان بمثابة ندوة كبيرة. وكما قال الأستاذ مصطفى الفن حين همس في أذن توفيق: «حفل الزفاف هذا لا تنقصه سوى اللافتات». لقد كنا في المنصة، وكنت أشاهد ذلك الحضور المتنوع والحافل بشخصيات من مختلف المشارب الفكرية والسياسية التي شرفتنا بحضورها، فيما كان توفيق يطلعني عن بعد على أسمائهم ومناصبهم، واحدا واحدا، لأنني، كما قلت لك، كنت بعيدة عن عالم السياسة ووجوهها. الزواج من صحافي مسؤول عن مؤسسات إعلامية، في وضع مثل الوضع المغربي، يعد تضحية من المرأة. هل كنت واعية بذلك؟ عندما تزوجت من توفيق كان رئيس تحرير أسبوعية «الجريدة الأخرى»، وأنت تعلم أن وتيرة الاشتغال في جريدة أسبوعية تكون مخففة مقارنة بالجريدة اليومية. لقد كانت تلك الفترة مرحلة ذهبية في حياتنا، لكن طموح توفيق بلا حدود، فقد كان يحلم بأن يؤسس جريدته بخط تحريري يعبر عن مبادئه ومواقفه. ألم تطلبي يوما من توفيق تغيير مهنته؟ حدث ذلك مرة أو مرتين طيلة فترة زواجنا، مع العلم أنني كنت أعرف أن هذا الأمر غير ممكن، فتوفيق يتنفس شيئا اسمه الصحافة، ويحب مهنته بشكل غير طبيعي، وصراحة أحييه وأرفع له قبعة الاحترام والتقدير لأنني أشهد بأنه كان ملتزما وشغوفا وغيورا على مهنته. هل انتابك مرة إحساس بأن زوجك قد يُعتقل؟ مرارا. كنت أقرأ افتتاحيات توفيق النارية أحيانا، وأكون في مقر عملي، أتصل به، وعندما يجيبني أقول له: «يعني أنت لست في السجن؟». لقد كان توفيق يهيئني دائما لهذا اليوم، ويقول لي: «ضعي هذا اليوم في أجندتك لأنه سيصل»، وعندما اعتقل الصحافي حميد المهدوي، قال لي: «استعدي، جاء دوري»، لكن المفارقة الغريبة هي أن توفيق كان يرفض أن أزوره في السجن، وكان يقول لي: «إذا ما اعتقلت، فركزي اهتمامك على أطفالك فقط». كيف كان توفيق في المدة التي سبقت اعتقاله؟ توفيق كما يعرفه الجميع، الابتسامة لا تفارقه، ولا يمكن معرفة هل هو حزين أم قلق؟ توفيق يتقاسم معك الأشياء الجميلة فقط، ولا ينهكك بمشاكل عمله أو محاكماته الكثيرة، فبمجرد أن يدخل البيت، كان يترك كل أعبائه خارجا، فتجده طفلا يمرح مع الأطفال، يلعب ويقفز ويشاهد الأفلام الكرتونية، ولم يشعرني أبدا بأنه متوجس أو خائف أو حزين، بل كان ينشر السعادة في البيت بمجرد دخوله. احكي لنا عن تفاصيل رحلتكما إلى الدوحة، والتي منع خلالها زوجك توفيق بوعشرين من دخول التراب القطري، فيما سمح لك أنت بذلك؟ يوم 15 دجنبر 2017، توجهنا إلى الدوحة بعدما حصلنا على التأشيرة. كانت الأمور كلها طبيعية، إلى أن وصلنا إلى مطار «حمد»، كانت الساعة تتجاوز منتصف الليل، على ما أذكر. طلب منه موظف العبور أن ينتظر قليلا حتى يتأكد من بعض الأمور، كان الموظف يتصل بشخص ما، بعدها دعانا إلى صالة الانتظار. تأخر الموظف في تقديم جواب. كان توفيق هادئا جدا، ولم يكن ينتابه أدنى شك في أنه سيمنع من دخول التراب القطري، كان يقول لي إنها مجرد إجراءات عادية ربما لمعرفة سبب دخولي إلى قطر. بعد ذلك طلب منه التوجه إلى مكتب شرطة المطار، فيما بقيت أنا في مكاني. ثم عاد، وفهمت أنه يجب أن يغادر التراب القطري لأن هناك تعليمات بعدم دخوله. لم يعطني تفاصيل أكثر، فقد أخذ طائرة أخرى وتوجه إلى باريس. هل فكر توفيق حينها في مغادرة المغرب نهائيا؟ لا. هذه آخر فكرة يمكن إن تخطر على بال توفيق. للتذكير، فكل أصدقائه الموجودين خارج المغرب كانوا ينصحونه بمغادرة البلد، وأنا بدوري كنت أطلب منه ذلك مرارا، لكنه كان يستغرب ويقول لي: «ولمن سنترك هذا الوطن إذا فر كل واحد بجلده؟». اليوم أزوره في السجن، وأسأله: «هل ندمت لأنك لم تهاجر؟»، فيجيبني: «بلادي وإن جارت على عزيزة.. وأهلي وإن ضنوا على كرام». قبل اعتقال توفيق بوعشرين، كان هناك من يروج أخبارا بشأن علاقة تربطه بمسؤولين قطريين. ما حقيقة هذه العلاقة؟ توفيق صحافي وله علاقات كثيرة مع شخصيات من مختلف الجنسيات، سعودية، موريتانية، تونسية، قطرية، كويتية، مصرية… فما الغرابة في أن يكون له أصدقاء من قطر؟ أما ما يروج عن تمويله من لدن القطريين فهو عار من الصحة تماما. وأكبر دليل عليه، هو كيف تكون له علاقات مع مسؤولين كبار في الأراضي القطرية ويمنع من دخولها؟ ألا ترين أن الخط التحريري لتوفيق بوعشرين ألب عليه الكثير من الخصوم؟ دون شك. أولا، نجاح توفيق وعصاميته وكفاحه جعلت بعض زملائه في المهنة، خصوصا الذين يعانون نقصا في منسوب الاستقلالية والمهنية، يناصبونه العداء والحسد. ثانيا، خطه التحريري جر عليه الكثير من العداوات والخصوم داخل الدولة والفاعلين السياسيين. وقد كان توفيق واعيا بهذا الأمر. لكن، للأمانة، فإن توفيق كان يفصل بين علاقته بشخص وما يكتبه عنه. أذكر مرة أنه كتب افتتاحية نارية عن حميد شباط، فاتصل به وكانت مكالمتهما كلها قفشات وضحك. أما توفيق، فكان يتعرض لسب وقذف رهيبين، خصوصا على صفحات بعض جرائد مواقع التشهير، وكان يقابل ذلك بترديد لازمة: «لا تصارع خنزيرا في الوحل فتتسخ أنت ويستمتع هو». احكي لنا عن الليلة التي سبقت اعتقال زوجك توفيق بوعشرين. كيف كان خلالها؟ وما الذي قاله لك؟ كان عاديا للغاية، ثم التحق بعمله صباحا، واتصل بي كعادته في الزوال ليطمئن على الأطفال، إلى أن سمعت خبر اعتقاله، على الساعة الخامسة والنصف مساءً. كيف استقبلت خبر اعتقاله؟ طبعا استقبلته بصدمة، خاصة بعدما علمت عبر القناتين التلفزيتين بعد 72 ساعة من اعتقاله بالتهم التي وجهت إليه. صليت ركعتين، وتضرعت خلالهما إلى لله: «ربنا أفرغ علينا صبرا وارزقنا الثبات والقوة». كان همي الأول والأخير هو أن أحمي أولادي وأرعى نفسيتهم. كيف تعاملت مع حملة التشهير بتوفيق بوعشرين والتي دشنها الإعلام العمومي؟ لا يمكن أن أنسى ما قامت به التلفزتان العموميتان في حقي وحق أطفالي الذين لا ذنب لهم. تساءلت حينها: أين الهاكا؟ أين المجلس الوطني لحقوق الإنسان؟ أين قرينة البراءة؟ أما حملات التشهير الأخرى، فلم أهتم بها لأنني انتقائية في قراءاتي، ولا أتابع كل ما ينشر في الجرائد، ولا أزور كل المواقع. وبعد اعتقال توفيق أصبحت أكثر حرصا على الانتقائية، لأنني أعرف أن المعركة نفسية أولا وأخيرا، لذلك، أوليها ظهري لأن اهتمامي في مكان آخر. كيف أخبرت ابنتك بموضوع اعتقال والدها؟ لا أنكر أن ذلك كان أصعب امتحان مررت به منذ اعتقال توفيق. كيف تبرر لأبنائك غياب أبيهم؟ لكن من فضل لله علينا ولطفه بنا، أن ابنتي فاجأتني عندما قالت لي يوما: «بابا إنسان ناجح، بابا بطل، وما أراه على اليوتوب يضحكني، لكن كيف أبلغ بابا بأنني فخورة به؟». كان كلامها بلسما لجراحي، كما كان أول نصر حققه توفيق على من أرادوا، باعتقاله، كسر همته وقامته. عندما كانت ابنتي تُسأل، قبل اعتقال أبيها، عن اسمها، كانت تجيب: «اسمي ندى»، وبعد اعتقال توفيق أصبحت تقول: «أنا ندى ابنة توفيق بوعشرين». لقد أصبحت ندى أكثر فخرا واعتزازا بتوفيق، وهي لا تتوقف عن كتابة رسائل له، تعبر له فيها عن مشاعرها. الحمد لله. ما الذي قاله لك توفيق حين زرته أول مرة في سجنه؟ في الزيارة الأولى بدا لي أن توفيق يجتاحه مزيج من المشاعر الغريبة. كان متأثرا لأنني أحسست بالحسرة جراء دخوله السجن، فتمالكت نفسي وقلت له: «be strong»، الحياة لا تقبل الضعفاء، وهذا امتحان يجب أن ننجح فيه. وكذلك كان. الحب لا تهزمه الأحقاد، والحق لا يعلو عليه الباطل.
سمعت أنك لم تُفاجئي كثيرا بالحكم الصادم الصادر في حق توفيق ب12 سنة سجنا؟ «قل أتعبدون من دون لله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ولله هو السميع العليم»، أنا عقيدتي هي أن ما تعرض له توفيق ابتلاء، ونحن المسلمون نرحب بالمحن كما نرحب بالمنح، وما صبرنا إلا بالله. 12 سنة أو 20 سنة هي مجرد أرقام، لكن الرقم الحقيقي هو عند لله عز وجل، الذي سيأذن بفرجه، ولا حول ولا قوة إلا به. ما هو تقييمك لحجم التضامن مع توفيق بوعشرين من لدن أصدقائه؟ أنا سعيدة بحجم التضامن الواسع الذي حضي به توفيق، وهذا من فضل لله. و”إن ينصركم لله فلا غالب لكم”. راهن البعض على أن تنقلبي على زوج متهم بالخيانة والاغتصاب والاتجار بالبشر… كيف تشكلت قناعتك بأن توفيق بريء من التهم المنسوبة إليه؟ أولا، أنا لا أعرف لماذا شكل موقفي استثناءً؟ فقبل أن أحكم على توفيق يجب أن أكون منطقية، حيث إن كل الدلائل كانت تقود إلى أن اعتقاله كان غير قانوني، بل ولأهداف أخرى غير التي جاءت في صك الاتهام. لقد اعتقل توفيق في استعراض أمني هوليودي، بناء على شكاية مجهولة، ثم زج به في السجن دون المرور عبر قاضي التحقيق، وباقي القصة يعرفها الجميع. ولن أزيد على ما قالته كل القامات والمنظمات الحقوقية في بلدنا وفي العالم، وآخرها القرار الأممي المطالب بإطلاق سراح توفيق فورا وتعويضه عن ذلك. للأسف، مازالت جهات مسؤولة تحاول استغلال النساء اللواتي لا حول لهن ولا قوة، في تصفية الحسابات السياسية مع توفيق حتى بعد الحكم عليه ب12 سنة سجنا، فبعدما انكشف أمر هذه الجهات عندما ضبطت متلبسة بنسف ندوة صغيرة في باريس كانت ستتطرق إلى الخروقات التي شابت اعتقال ومحاكمة توفيق، وأصبحت فضيحتها «عالمية»، ها هي تلك الجهات نفسها تقوم بتسفير النساء المغلوبات على أمرهن إلى جنيف، وتقديمهن على أساس أنهن ضحايا بوعشرين، لكن الفريق الأممي أجاب تلك النساء باحترام وتقدير لمشاعرهن، مؤكدا لهن أن اختصاصه هو الاعتقال التعسفي، وأكد في قراره، الذي أسسه على رد الحكومة المغربية، أن اعتقال الصحافي توفيق بوعشرين غير قانوني. ودعني أقول لك أمرا، أنا متأكدة أن الزمن مهما طال سيكشف الحقيقة، وأظن أن أغلب تلك النساء عندما يعدن إلى بيوتهن يبكين بحرقة لأنه زج بهن رغم أنوفهن في حرب لا ناقة لهن فيها ولا جمل. لذلك فإنني أعتبر أن من جرجرهن إلى هذا الملف، مخيرا إياهن بين شهادة الزور أو السجن، هو من اغتصبهن ولايزال يغتصب إرادتهن، ويستغل ضعفهن أمام آلة جبارة. من ناحية أخرى، أنا زوجة شكلت قناعتها ببراءة زوجها من أمور تخصها وإياه. أجرى توفيق في يوليوز 2015 عملية جراحية دقيقة، وطيلة فترة نقاهته، التي دامت شهرا، لم أفارقه، وكنت أنا من يتكفل بعلاجاته، كما كان هناك ممرض يتردد يوميا على البيت لمتابعة وضعه الصحي. فكيف أصدق أنه كان في اليوم نفسه واللحظة ذاتها معي في البيت، وأيضا في مكتبه بالدار البيضاء؟.