الجزء الرابع من المرافعة هل كانت النيابة العامة خصما شريفا في هذا الملف؟ منذ جلوسي في قفص الاتهام بتاريخ 8 مارس 2018، وأنا أستمع إلى السيد ممثل النيابة العامة، الأستاذ جمال الزنوري، يردد أنه خصم شريف، وأنه يُخاصم الأفعال وليس الأشخاص، وأنه سيساعد القضاء في الوصول إلى الحقيقة، وأنه مع مجريات البحث والاستماع أمام المحكمة سيرتب النتائج إذا ظهرت له براءة المتهم، فسيعلن ذلك. وإذا ثبت له العكس، فسيطالب بإدانته، وأنه يمثل الحق العام وضمير المجتمع، وأنه يحترم القانون وليس أداة سياسية، ولا أداة انتقام من المتهم ولا من غيره، لا بسبب مهنته ولا بسبب آرائه، وأن مهنته خارج الملف، وأن النيابة العامة في نسختها الجديدة مستقلة، وجاءت للدفاع عن القانون وضمان المحاكمة العادلة… وأتمنى أن أكون أمينا في نقل أقوال السيد الوكيل العام للملك، فقد كنت أريد على مدار أكثر من 80 جلسة (من المحاكمة الابتدائية) أن أصدق كلام أقوال السيد الوكيل العام للملك، لكن أفعاله لم تتركني أفعل ذلك، فكما يقول الأمريكيون: “لا تسمع إلى أقوالي، لكن انظر إلى أفعالي”. لقد تبين أن النيابة العامة لم تتصرف بمقتضى التعريف أعلاه، بل كانت خصما بلا أي نعت آخر. أين التلبس؟ أولا، منذ أول قرار اتخذته النيابة العامة، أي يوم عُرضت عليها، بدأ تسييس الملف، حيث اختارت النيابة العامة يوم 8 مارس، الذي يتزامن وعيد المرأة، كأول جلسة لانطلاق هذه المحاكمة، لإعطاء انطباع بأنني أنتهك حقوق النساء وأن النيابة العامة تريد أن تعطي هدية للنساء في عيدهن العالمي، لكن خاب الظن، فلا جمعية نسائية واحدة في المغرب انطلت عليها هذه الخدعة أو انزلقت لتكون حطبا لإحراقي، سوى جمعية برتغالية ادّعى المحامي كروط أنها راسلته، وحبذا لو أعطانا عنوانها واسمها. ثانيا، إن أول جملة قلتها للسيد الوكيل العام للملك، يوم دخولي إلى مكتبه، في الساعة الثالثة من يوم 26 فبراير 2018، بعد انتهاء الحراسة النظرية: “يا سيدي، أنا لا أطلب سوى شيء واحد، أن تبسطوا يد القانون على هذا الملف الذي وقعت فيه مجازر عند الفرقة الوطنية للشرطة القضائية”. لكن، اكتشفنا جميعا أن النيابة العامة حاولت، بكل ما أُوتيت من قوة وخبرة وسلطة، أن تغطي على الأخطاء الفظيعة التي ارتكبتها الفرقة الوطنية، بل حاولت إضفاء شرعية ومشروعية على أعمال غير شرعية قامت بها الفرقة الوطنية، مع أن وظيفة النيابة العامة هي أن تحمي المسطرة وقواعدها. كما أن من وظيفة الأمن أن يراقب الأمن، بل من وظيفة القضاء أن يراقب الأمن، لحفظ حرية المواطنين وحقوقهم، والأكثر من هذا، ادّعى السيد الوكيل العام الملك أن هناك حالةَ التلبس، ثم تراجع وقال بوجود خطأ في المطبوع، ولن يترتب أي جزاء عن هذا الخطأ، وتابعني بحالة التلبس، ثم أرسلني إلى سجن عكاشة، قبل أن تتدخل جهات أخرى وتحولني إلى سجن عين البرجة. تفادي التحقيق.. ثالثا، لقد جنح السيد الوكيل العام للملك إلى الاستعمال المعيب لسلطة التكييف التي بحوزته، وألبس الوقائع جريمة لا تمت إلى المنطق وصنعة التكييف بأي صلة، فذهب إلى الاتجار بالبشر، بعدما وضع ضُباط الفرقة الوطنية عبارات وألفاظ الاتجار بالبشر في فم المصرحات، وجلهن لا يعرفن شيئا عن هذا القانون ولا سمعن به حتى، ولكنهن عثرن على عبارات الحاجة والهشاشة وسلب الإرادة. وقمة المفارقة أن السيد الوكيل العام للملك لما وجد امرأة حاملا، وهو يتابع لفائدة الشك، كان عليه أن يدخلها تحت مقتضيات ظرف التشديد الذي جعل العقوبة في 30 سنة، وهو ما يوجب المرور وجوبا إلى مكتب قاضي التحقيق، والحال أن السيد الوكيل العام عدل عن هذا الأمر، حتى لا ينفرط عقد هذا الملف الهش عند قاضي التحقيق، وحتى يُسارع إلى رفع السرية عنه، وحتى يسابق الزمن الإعلامي الزمن القضائي، كما أشار إلى ذلك السيد النقيب الأستاذ عبد اللطيف أوعمو. لقد تصرف السيد الوكيل العام للملك بطريقة بعيدة عن نص القانون، أما روحه فوحده الله يعلم أين رحلت، وهذه ليست سياسة جنائية، بل هي سياسة بلا وصف جنائي أو قانوني. رابعا، لم ترفع النيابة العامة يدها عن الملف، حتى عندما دخل إلى غرفة الجنايات، وأصبح في عهدة الهيئة الموقرة، وهكذا جرى الزج بعفاف برناني في قفص الاتهام، بعدما طعنت بالزور في محاضر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وكان الأولى بها، على الأقل، انتظار الانتهاء من هذه القضية، لأن الحكم على عفاف برناني أثّر على الملف، وجعل المصرحات خائفات، إذا بقيت النيابة العامة واضعة يدها على الملف، حتى وصل إلى المحكمة، وجرى التحقيق مع عائلة النقيب السيد محمد زيان، في محاولة للمس بحقوق الدفاع، وتم الاستماع إلى زوجتي من أجل التأثير على نفسيتي واستقرار أسرتي، علاوة على البيانات الصحافية والندوات التي نظمتها هذه النيابة، في خروج سافر عن الأعراف والتقاليد، وأدبيات القضاء الواقف الذي يرفع يده عن الملف بمجرد دخوله إلى قاعة المحكمة، اللهم فيما تعلق بالمرافعات والطلبات والملتمسات أمام الهيئة لا خارجها. تناقض النيابة.. خامسا، لقد اعترضت النيابة العامة عن عشرات الأسئلة التي وجهها دفاعي إلى المطالبات بالحق المدني، في المواجهة التي وقعت أمام هيئة المحكمة، واعتبروا أن هذا لم يكن له سبب منطقي، أو قانوني، إلا لحرماني من إحدى وسائل الدفاع، وهي التواجهية أمام المطالبات بالحق المدني، بعدما جرى حرماني من هذا الحق أمام الشرطة القضائية، وحرماني منه أمام قاضي التحقيق. لقد اعترض السيد الوكيل العام أمام المحكمة على أسئلة عديدة: فهل يعترض السيد الوكيل العام للملك عن مساءلة ضحية حول اللباس الذي كانت تلبسه؟ وغير ذلك كثير. سادسا، إن تناقضات النيابة العامة كانت بلا حدود، وآخرها أنها أخرجت مارية مكريم من الملف، وصدقت أقوالها بأنها ليست هي السيدة التي تظهر في الفيديو، وهذا أمر لا أعترض عليه، ولكن الاعتراض هو عندما استعملت النيابة العامة، معيارا مزدوجا، إذ صدقت أقوال مكريم، لكنها كذّبت أقوال عفاف برناني، وحنان باكور، وأمل الهواري، رغم أن هؤلاء نفين أن يكن قد ظهرن بالفيديوهات، وهذا تناقض يكشف أسلوب النيابة العامة في إدارة هذا الملف، وهو أسلوب سياسي، وليس قانونيا، وتظهر سياسته حتى للأعمى وحتى للأحول، بتعبير المحامي كروط. كاريكاتورية الاتجار بالبشر وبخصوص حكاية الاتجار بالبشر، فإنه أكبر من قناة صاحبه. إذ تنبع خطورة وحساسية عمل القاضي في كونه يطبق نصا وضعه غيره، أي المشرّع (هنا تدخل القاضي رئيس الجلسة وأشار بأن الكلمة الأخيرة ليست مرافعة، وأن كل هذه النقاط أثارها الدفاع وأفاض فيها. بعدها تدخل النقيب محمد زيان وأشار إلى أن الكلمة الأخيرة يمكن أن يأخذها المتهم أو دفاعه ويمكن أن تكون مرافعة، قبل أن يتابع توفيق بوعشرين مرافعته قائلا): لقد جلست هنا تسعة أشهر واستمعت إلى كل ما قيل بغثّه وسمينه، وليس في نيتي تكرار ما قيل، وإن كانت كلمة المتهم الأخيرة، حسب ما أفهم، هي آخر شيء يجب أن يقع في أذن المحكمة، ومهما كان رأي القاضي، فهو مضطر للحكم في النوازل تحت سقف القانون، ولهذا جاءت إصلاحات سنة 2002 التي أدخلت على قانون المسطرة الجنائية، وألزمت القاضي الجنائي بتضمين ما يبرر قناعاته ضمن حيثيات الحكم الذي سيصدر، وقبلها لم يكن القاضي الجنائي ملزما في النص القديم بهذا الدور. فإذا كانت النيابة العامة، في نازلة الحال، قد اشتطت في عملية إلباس الوقائع النصوص القانونية التي تلائمها، وعمدت إلى إخراج قانون الاتجار بالبشر، وإعطائه مفهوما واسعا فضفاضا لتبرير الاعتقال، وتبرير محاكمتي أمام الرأي العام المحافظ، في حقل الأخلاق المليء بالألغام، فإن السلطة التي أعطاها المشرّع للمحكمة، هي إعادة تكييف الوقائع، فإذا دخلتم إلى الجوهر ووجدتم مبررات قانونية ومنطقية لعبور الشكل، فلا بد من الانتباه إلى هذا المتلقي. لقد أُعطي مفهوم واسع وفضفاض لقانون الاتجار بالبشر من قبل النيابة العامة وأطراف الخصومة المدنية، سيجعل، والحالة هذه، من جرائم القانون الجنائي، كلها اتجارا بالبشر، فكل فساد انتخابي سيصبح اتجارا بالبشر، وكل نزاع شغل سيصبح تجارة بالبشر، وكل نصب واحتيال سيصبح اتجارا بالبشر، وكل حوادث السير يمكن تكييفها على أساس أنها اتجار بالبشر، مادام السائق يستغل الحاجة والهشاشة والضعف وعدم إمكانية تغيير الضحية لوضعه، وبهذا سيصبح قانون الاتجار بالبشر ناسخا لكل فصول القانون الجنائي، وسيصير مثل قانون التجديف في الذات الإلهية بأوروبا، في القرون الوسطى. القانون له مبتدأ وخبر، لفظ ومعنى، ودال ومدلول، وتفسيره وحتى تأويله محكوم بقواعد التفسير المتعارف عليها، وهي أسباب النزول والأعمال التحضيرية لميلاد القانون بحثا عن إرادة المشرع، فعندما توجد صعوبة في فهم مدلول النص القانوني، نتيجة حدته أو غموضه أو إبهامه، فإن الرجوع إلى مسودة التشريع، أمر ضروري، لمعرفة النية الحقيقية للمشرّع، وبعدها يرجع إلى ما يسميه الفقهاء “الإسناد التاريخي للنص”، أي السياق الذي أملاه، وهنا أحال دفاعي على كل الأوراق التحضيرية للقانون، كما أحال على الوزير الذي قدم للبرلمان نص القانون، وهو وزير الجالية، واستحضر الدفاع حتى مخاوف السادة المشرعين أثناء وضع هذا النص لخطورة سوء استعماله فيما لم ينزل لعلاجه من جرائم، كأنهم كانوا يطلبون عقد هذه المحاكمة من وراء حجب الغيب. إن جريمة الاتجار بالبشر جريمة عبر- وطنية، بالأساس، أطرافها متعددة ووراءها منفعة مادية، وإثباتها يحتاج إلى شروط غائبة تماما في هذا الملف، وإلا سنسقط في الكاريكاتور، كأن تصبح حاجة كوثر فال إلى نشر خبر عن نشاط اجتماعي حاجة موجبة إلى إعمال قانون الاتجار بالبشر، وتصبح هشاشة صفاء زروال، هي الحصول على تذكرة طائرة.