لماذا اختار العروي، بعد مسار عمري طويل، أن تكون وصيته الفكرية التي يتوج بها إنتاجه الفكري والمعرفي الغزير، عبارة عن تأملات في الكتاب العزيز؟ ما دلالة ذلك عند مفكر كبير ظل وفيا لشعاره الخالد «التاريخانية»، باعتبارها مفتاح تحررنا من التأخر التاريخي، والتحاقنا بركب التقدم الحضاري والرقي الإنساني، الذي ليس شيئا، سوى تحقيق الغرب في ديارنا؟ وماهي المسوغات التاريخية والقيمية التي تجعل العروي يعتبر الإسلام الأول هو مهد هذا الغرب والحضارة الغربية المعاصرة؟ ولماذا اختار العروي أسلوب الرسالة لبث بنود وصيته هذه، التي وسمها ب»عقيدة لزمن الشؤم»؟ ولماذا اختار النطق على لسان امرأة؟ هل لأن المرأة ، بحكم ما تكابده من أشكال المنع والميز، في عالمنا، أقرب إلى الحقيقة كما يعتقد؟ هذه وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي سنحاول إثارتها ونحن نتأمل في «عقيدة» العروي التي استخلصها من معايشته للقرآن الكريم. يؤكد العروي أن تجربة إبراهيم الخليل تجربة حقيقية، وليست قصة مختلقة أسطوريا؛ أخبارها متواترة عند أهل الكتاب، بشكل يكاد يكون متطابقا؛ من دون أن يعني ذلك أن كل الشعوب والأمم قد علمت بها؛ كما أنه من العادي أن نجد أقواما آخرين قد سمعوا بها وأنكروها، وهذا الإنكار، في نظر العروي، أمر عادي، هو أيضا، وطبيعي. إن ما يهم مفكرنا هو “ماذا عنا نحن”؟ نحن، الذين نعيش ما بعد التجربة الإبراهيمية، حيث لم يخلف إبراهيم وارثا واحدا يكون نسخة له، بل ترك ورثة متعددين؛ كما أن الشعوب الأخرى لم تقبل الشعب الإبراهيمي ولم تتخذه إماما، بل اكتفت بمراقبة طقوسه وسماع دعواه، تارة باستغراب، وتارة بإعجاب وحيرة. لقد دعا إبراهيم ربه فاستجاب له، وجاء بعده أنبياء كثيرون، دون أن يرتفع الشك وتنتهي حالة الحيرة والريبة، بل، على العكس من ذلك، تنوعت أشكالها وتكاثرت أسبابها. وفي هذا الصدد، تساءل العروي قائلا: “.. بعد نداء إبراهيم ظل الإنسان على حاله، ظلوما جسورا، طوال قرون، فلماذا يتغير اليوم بغتة بتجديد النداء”؟ (السنة والإصلاح ص 115). إنه لا حل للخروج من وضعية التيه هذه إلا بتجديد الوعد الإبراهيمي، والعودة إلى الأصل الإبراهيمي؛ وذلك ما وقع فعلا مع بعثة نبي الإسلام محمد، الذي أعاد للتجربة صفاءها ونقاءها الأولي، ولم يحد على براءتها الأصلية، مستخلصا منها العبرة كاملة، تجربة الواحد الأحد، الذي “(…) لا يحضر، لا ينكشف، لا يتجسد، لا في الطبيعة ولا في شعب مميز ولا في أسرة ولا في فرد، بل في كلمة تسمع، تقرأ، تتلى”. (السنة والإصلاح ص 70) يجزم العروي جزما قاطعا بأنه تم استهلك جل وسائل الهداية من دون فائدة، ولم تبق من وسيلة للتأثير على هذا الإنسان “الظلوم الجسور”، إلا وسيلة واحدة، وهي الكلمة، التي تستطيع وحدها تحقيق المعجزة اليوم في عصرنا الراهن، كلمة تفتح القلب وتنفذ إلى الفؤاد، وترغم الإنسان الجحود على إعادة تجربة النبي محمد (ص)، وهذه الكلمة، طبعا، هي القرآن بما هو نطق وكلام ودعاء، وبما هو آية وحياة ونور، أو بتعبير العروي “من لم يحيه القرآن فهو إلى الأبد ميت!” (السنة والإصلاح ص 115). لقد اختزلت تجربة نبي الإسلام محمد الماضي بهدف نفيه، تماما كما فعل أب الأنبياء إبراهيم الخليل، والنفي لا يعني هنا الإقصاء التام للماضي، بل التجاوز مع المحافظة كمرحلة تمهيدية، أو بتعبير العروي ك”غواية تقود إلى الهداية”. (السنة والإصلاح ص71) وإذن، فالإسلام هو الذي أنقذ عقيدة التوحيد من براثين الشرك، من خلال النص/ الكتاب الذي جسد الواحد في كلمة تقرأ، ولا يعني العروي بالنص هنا كتابة جامدة، بل كتابة مقروءة، أو بعبارة أدق قرآنا (السنة والإصلاح، ص 73). إن القرآن ليس كتابا كباقي الكتب، و”إنما هو قراءة الكتاب الأم عبر صيغه المختلفة وتشكيلاته المتوالية”(السنة والإصلاح ص 73)، إذ لا يكون القرآن، في نظره، ذكرا إلا عندما يقرأ ويتلى. وهنا يتوقف عند قضية “أمية” النبي محمد، الذي لم يكن يكتب، لأنه حسب تأويل العروي، لا يملك لا الوقت ولا الإذن للكتابة، حتى لا يغفل شيئا مما يلقى إليه؛ وهو بذلك يسجل موقفا مخالفا لذاك الذي تبناه محمد عابد الجابري، في كتابه “مدخل إلى القرآن الكريم”، وأثار من حوله ضجة كبيرة. سيتبنى العروي الموقف “السلفي” السائد، حول دلالة لفظ الأمي، أي أن محمدا كان أميا، وهو لم يكن مخيرا في ذلك، بل كان الأمر مفروضا عليه. ولا يقف العروي عند هذا الحد، بل يعتبر إبراهيم الخليل كان أيضا نبيا أميا ! وإذا كان لا بد لنا من تمييز بين أمية محمد وأمية إبراهيم، فهي أن الأخير اختار الأمية ولم تكن حالة مفروضة عليه، كما هو حال خاتم الأنبياء؛ فإبراهيم، بالنسبة إلى العروي حينما هاجر الحضارة، وضع “نفسه حتما قبل الكتابة”. (السنة والإصلاح، ص 74).