«الاستبداد لا يتيح الفرصة إلا للفنانين المتملقين الذين يتغنون بأمجاد الحاكم الملهم، المنضوين في جوقة المسبحين بحمده. الاستبداد لا يطيق وجود فنان يغرد خارج سرب الخنوع والتملق، يشدو بهموم أمته وآلام المستضعفين. إذا لم يكن الفن موقفاً، فلا يعدو أن يكون ترفا، فالحقُ والخيرُ لا ينفصلان عن الجمال»، كلمات دونها الفنان المغربي، رشيد غلام، على صفحته على الفايسبوك، في تعبير عن موضوع طالما ظل موضع جدل؛ طبيعة العلاقة التي يمكن أن تجمع الفنان بالسلطة. علاقة يراها البعض على حد السيف، ذلك الحد الفاصل بين فنان ينتصر لإنسانيته، وفنان «يخون» إنسانيته حينما ينتصر لمواقف تجمل «القبيح» وتشوه «الجميل»، على رأي المخرج المسرحي الروسي، رومان فيكتيوك، الذي حاول، غير ما مرة، التطرق إلى موضوع الفنان والسلطة في عدد من مسرحياته، من بينها مسرحية «حفلة ماركيز دي ساد التنكرية»، إذ قال رومان، معلقا على المسرحية في أحد تصريحاته الصحافية، «إن الإنسانية لم تعد القيمة لمفهوم الضمير، وأصبحت تقدم الأفكار التي تمليها عليها السلطة على أنها أفكارها وقضاياها. لقد أدرك الإنسان، على مدى تاريخه الطويل، أن الحقيقة سوف تجذب العقاب، لذلك، تعلم الناس الكذب». يرى الكثيرون أن العديد من الفنانين، بين عشية وضحاها، غيروا من أساليب خطاباتهم الفنية، ولينوها بعدما كانت ذات لهجة نقدية، خاصة في فن «الراب»، الذي عرف في بداياته بلهجته المنتصرة لمعاناة الشعب ومشاكله، واعتبر، في فترة من الفترات، فنا للتنفيس بالنسبة إلى الشباب المغربي والعربي، قبل أن يحذو بعض مغنيي هذا النوع الموسيقي الشبابي حذو السلطة، ويختاروا المشي في ركابها، بعدما ظلوا زمنا طويلا يقدمون أنفسهم ناطقين بهموم الشباب وتطلعاته إلى الحرية. من هذا المنطلق، يبقى التساؤل مطروحا: ما طبيعة العلاقة التي تجمع الفن بالسلطة؟ كيف يمكن أن يصبح الفنان أحيانا أداة طيعة في يد السلطة تسخره حيث تشاء؟ كيف تتحول هذه القوة الناعمة إلى أداة من أدوات التأثير على الرأي العام، أو توجيه انتباهه إلى شيء ما، أو صرفه عن شيء آخر؟ الاستبداد صنع نخبا فنية على مقاسه «من طبيعة الأنظمة الشمولية الاستبدادية توظيف جميع الأذرع الموجودة في المجتمع، من إعلام ونخب ثقافية وفنية، وحتى الوجوه المعروفة رياضيا، في خدمة هذا الحكم الشمولي، عبر تدجين الرأي العام بتربيته على الولاء والطاعة»، يقول الفنان المغربي المقيم في لندن، رشيد غلام، معتبرا أن الفن عموما في الأنظمة العربية، على الخصوص، لا يُرى على أن له دورا آخر غير الإلهاء والإغواء والتمييع، «فالنظرة التي حكمت الفنان العربي عبر التاريخ هي أنه مجرد سلعة للترفيه وفقط». من هذا المنطلق، أصبح الفنان في العالم العربي يوظف على أنه بوق للسلطة، حسب غلام، يتحدث بأفكارها ويتغنى بها. وفي معرض حديثه عما بعد الربيع العربي، قال الفنان المغربي اللاجئ في بريطانيا إن الربيع العربي كشف المستور، وعرى حقيقة عدد من الفنانين الموالين للسلطة وللأنظمة العربية، حيث ظهروا على أنهم مجرد مرتزقة للأنظمة السياسية، وصناعة للأخيرة على مدى سنوات من الاستبداد، «إذ عمدت الأنظمة العربية إلى صناعة نخب فنية بمقاييس معينة، وكانت مساندة لها إبان الحراك العربي، عبر تسخيرها لتخويف الناس من الفوضى ومن المصير المجهول والمظلم». لكن، ما مدى قوة وتأثير هذه القوة الناعمة، المسخرة من لدن السلطة، على الرأي العام؟ وما مدى قدرتها على تشكيله؟ في معرض إجابته عن السؤال، اعتبر غلام أن المجتمعات العربية، على العموم، لم تعد تتأثر بشكل كبير بخطاب الفنانين، سواء وُظفوا من لدن السلطة أم لا، «لأنهم أضحوا، بالنسبة إلى هذه الشعوب مجرد آلية للترفيه فقط، وبالتالي، فهم لا يملكون سلطة تكوين الرأي العام». من يتبع هذه الفئة من الفنانين، غالبا، هم طبقة من الغوغائيين، وهم الموجودون أكثر، حسب غلام. السلطة لا تؤمن بوجود فنان مثقف الفن، بالنسبة إلى غلام، هو أداة لترجمة آمال الشعب وتطلعاته نحو الحرية، والتطرق إلى معاناته، والعمل على توجيه الرأي العام إلى القيم الكبرى، «بيد أن السلطة لا تؤمن بوجود فنان مثقف، ولا تؤمن بوجود المثقف المخالف أصلا، وحتى إذا كان مثقفا، عليه أن يكون منضويا تحت جناح السلطة وسائرا في ركابها»، يقول غلام، مضيفا: «فأي صوت مخالف، ويخرج عن دائرة الولاء، يعتبر صوتا نشازا يجب أن يخمد، ويجب أن يسكت، وأن يقتل، كما وقع في عدد من الدول العربية، كما هنالك العديد ممن مُنعوا وحوصروا وسجنوا في المغرب، كما وقع للحاقد». وأضاف غلام أن الفن في تاريخ الوطن العربي التصق بالسلطة، وأن الفنانين كانوا دائما ندماء الملوك والأمراء، علما أن وظيفة الفن، بالأساس، هي التغني بآمال الشعوب، وبالقيم المطلقة؛ للحرية والعدل، والوقوف في وجه الاستبداد، «ومع الأسف، فإن العديد من الفنانين يعتقدون أن الفنان عليه أن يبقى مهرجا، ليس لديه أي مشروع ثقافي أو فني»، يقول رشيد غلام. الفنان جزء من المجتمع، ولا يمكن أن يبقى بمعزل عما يعتمل فيه من قضايا، حسب الفنان المغربي الممنوع من دخول التراب الوطني، فالفنان ابن بيئته، والفنان بالأساس لا يستلهم فنه من وراء الطبيعة، بل يستلهمه من هذا المجتمع، «ويفترض ألا يكتفي فقط بالتغني عن الحب الضائع والمعشوقة الجميلة، بل الفنان وجد ليحاكي آمال الناس وتطلعاتهم إلى الجمال والحرية والخير والحق، فإذا انتفت هذه الوظيفة، أصبح الفن آلة من آلات التمييع». وفي ظل الأزمات التي عصفت بالعالم العربي ككل، خاصة في ما يتعلق بحرية التعبير، ظهر ما يسمى بفن التنفيس، الذي حاول مقاربة بعض القضايا بحرية نسبية من أجل تلميع صورة البلد، والإيحاء بوجود حرية التعبير، لكن هذا الفن لم يصل إلى مستوى تعرية الظالم وتوجيه الشعب إلى الوقوف في وجهه، حسب غلام، «ولنا في ذلك نماذج في عدد من الدول، مثل دريد لحام في سوريا، ومحمد صبحي في مصر، وفي المغرب كانت هنالك محاولات في هذا الاتجاه، على غرار ناس الغيوان»، يقول الفنان المغربي، معتبرا أن هذا الفن لم يتعدَّ دوره أن يكون فنا للتنفيس فقط. ترويض الرأي العام «ندرس ملف دعاية غير مباشرة لمهرجان موازين، وهي دعاية موجهة، بغرض ترويض الرأي العام، وأنت من بين الشخصيات العامة المحددة في هذا الملف. المطلوب هو أن تأخذ صورة دعائية للمهرجان، وتعبر عن فرحتك بذلك، والمقابل سيكون كما تشاء، لدينا ميزانية تقارب 20 ألف دولار»، كانت هذه هي المقدمة التي سقط في فخها عدد من الفنانين المغاربة ضمن سلسلة معنونة ب«ترويض الرأي العام»، للإعلامي واليوتوبر المغربي المقيم في الديار الأمريكية المعروف بصدام درويش. جرى إعداد السلسلة بالموازاة مع دعوات إلى مقاطعة المهرجان، ضمن حمى حملة المقاطعة التي شهدها المغرب خلال الأشهر الماضية. وفي تقديمه إياها، يقول صدام درويش إنه أراد إثبات أن هنالك من قد يقبل بممارسة البروبغندا الموجهة وترويض الرأي العام لحساب جهة ما، «مستغلا ثقة الجمهور، لأن هذا الجمهور، في آخر المطاف، ليس إلا أرقاما على ورق»، وغالبا ما يكون عرضة لمحاولات ترويضه أو تغيير قناعاته. في حوار له مع «أخبار اليوم»، قال صدام درويش إن الغرض من سلسلته كان هو أن يبرز للرأي العام أن هناك العديد من المشاهير في عالم الفن ممن يتاجرون بجماهيرهم، التي تصبح مجرد أرقام على ورق بالنسبة إلى هؤلاء الفنانين حينما يتعلق الأمر بخدمة أجندات معينة ترمي إلى التأثير على تلك الجماهير مقابل أموال تعرض عليهم. يذكر أن الفنان الوحيد الذي نجا من هذا الفخ، والذي رفض العرض، هو الفنان المغربي سعيد موسكير، رغم المقابل المادي المغري الذي عرضه عليه «هادي نصار»، وهو الاسم المستعار الذي اختاره صدام درويش لصاحب شركة الدعاية الوهمية التي خلقها من أجل إنجاز السلسلة. وقد قال الفنان المغربي، سعيد موسكير، وفي حواره مع صاحب السلسلة، إنه فضل احترام الرأي العام المغربي خلال تلك الفترة، والذي شابه غضب عارم تجاه النسخة الماضية من المهرجان العالمي موازين. وأثارت السلسلة ضجة واسعة لدى الرأي العام المغربي، الذي صدمته ردود فعل بعض الفنانين الذين قبلوا مهمة ترويض الرأي العام بخصوص مهرجان موازين مقابل مبالغ مالية كبيرة عرضها الإعلامي المغربي عليهم، خاصة أن البعض منهم كانوا يقدمون أنفسهم ناطقين بهموم الشباب ويتغنون بمشاكله وطموحاته. علما أن صاحب السلسلة أكد غير ما مرة وبشكل متعمد، خلال اتصاله بالفنانين المعنيين، أن الدعاية هي دعاية موجهةAn Oriented Propagnda» »، في محاولة منه لجعل العرض مشبوها بما يكفي كي يعطي المتصل به «فرصة سانحة وواضحة، لكي لا يقبل، لكن حالت النتائج دون ذلك»، يقول صدام في مقدمة سلسلته. ويضيف صدام في تعريفه السلسلة: «لم يكن هدفي من هذه الفكرة أن أفضح شخصا أو أن أحرجه، الهدف كما وضحت هو إثبات أن الرأي العام قد يروض ويسيطر عليه من لدن جهات مختصة في هذا المجال، لذلك، لا تثق بكل ما تراه وتسمعه أو حتى ما تشاهده». أداة للتخدير والتأثير يرى الناقد الفني، مصطفى الطالب، أن الفنان ابن بيئته، وأن إبداعه مرتبط بهذه البيئة الاجتماعية، ومن الطبيعي أن يلتزم الفنان بقضايا مجتمعية، وهذا هو الأصل والمبدأ بالنسبة إلى أي مبدع يتمتع برؤية واضحة. وقال الناقد الفني معلقا عن الموضوع: «مع الأسف، بعض الجهات السياسية تستغل الرموز الفنية من أجل التأثير على الرأي العام لأن الفن يخاطب الوجدان والأحاسيس، وهو ما يجعل منه أداة سهلة للتأثير»، معتبرا أن هنالك صناعة فنية تتمثل في وجود قنوات عالمية ومليارات الدولارات تدور في فلك الصناعة الفنية، وبالتالي، «إذا كانت الصورة تعادل ألف كلمة، فأغنية واحدة اليوم أكثر تأثيرا من مجموعة من الخطابات والكتابات»، حسب الطالب. وأضاف المتحدث: «هناك دول تتخذ من الفن أداة للتخدير والتأثير، وهو الغالب، وهناك من الدول التي تحترم نفسها وتحترم الفن»، معتبرا أن استغلال الفنانين وتوظيفهم كان منذ الأزل وليس وليد اليوم. وبخصوص فن الراب الذي يعتبر من أكثر الأنواع الموسيقية التي عرفت بلهجتها النقدية وبالتغني بالطموحات والآمال، فإنه اليوم فقد الكثير من بريقه، وخبا نجمه، حسب الناقد الفني، إذ لم تعد لهذا الفن الأهداف نفسها والمنطلق ذاته الذي كان ينطلق منه سابقا. «بدايات فن الراب في المغرب عرفت بالمطالبة بالحرية وانتقاد المجتمع والسياسيين وبعض الرموز الثقافية، وكانت لفناني الراب نظرة نقدية في المجتمع الذي يعيشون فيه، وهذا هو الفن الذي يعتبر النقد البناء من أهدافه الأساسية»، يقول الناقد الفني. وعن الفنانين والنجوم الأجانب الذين يجري استقطابهم من أجل حضور مناسبات معينة، تساءل الطالب: «ماذا يفعل هؤلاء الفنانون فيما بعد؟ فهم يأخذون الأموال ويذهبون، فهل يخدمون مصالحنا؟ أو هل يخدمون قضايا إنسانية؟ ثم، هل يواصلون العمل، مثلا، على تلميع صورة المغرب؟». «فعلى سبيل المثال، يستقطب مهرجان موازين فنانين عالميين لإحياء سهرات، بصرف النظر عن قيمة الفن الذي يقدمه هذا الفنان أو ذاك، ويأخذون أموالا طائلة مقابل فنانين مغاربة يحصلون على الفتات»، يقول الطالب. وخلص الناقد الفني إلى أنه على الفنان الحفاظ على استقلاليته المعنوية والفكرية، «لأن الإيديولوجيا تقتل، والجانب السياسي يقتل الإبداع، وعلى الفنان أن يبقى حرا مستقلا». الفن والقوى السياسية في رأي الفنان والممثل المغربي، رشيد فكاك، فإن السلطة السياسية قد تستغل الفن بكل أنواعه، خاصة في شقه البصري، عبر بعض الأغاني، مثلا، كما قد تكون هناك قوى سياسية تسعى من خلال الفن إلى نشر رؤية أحادية الجانب تدافع عن مصلحة جهة ما أو العكس. بيد أن فلسفة الفن لا تحضر بشكل كبير في أجندات اهتمام القوى السياسية، حسب فكاك. يعزز هذا الطرح أن البرامج السياسية لهذه الأحزاب لا تضم الشأن الثقافي، وبالتالي، فهي لا تعتبره فاعلا مهما وأداة وازنة للتواصل مع المجتمع عموما. بعيدا عن التوظيف السلبي للفن لخدمة السياسة، يرى فكاك أن الفن يمكن أن يخدم السياسة في حال كانت الأهداف بناءة ومشروعة، على غرار تأليف بعض الأغاني الوطنية من قبيل «صوت الحسن»، التي ألفت خلال المسيرة الخضراء في سبيل استرجاع الأرض السليبة وتقوية وحدة الشعب. أما التوظيف السلبي للفن من قبل السلطة لترويض الرأي العام وتوجيهه حيث تشاء، فليس مسألة جديدة، بل يعود إلى سنوات طويلة، حيث لجأت إلى هذا الأسلوب عبر التاريخ العديد من الدول والأنظمة، يقول الممثل المغربي، مستشهدا بما فعلته النازية في عهد هتلر، وكيف جرى توظيف السينما وغيرها من الأنواع الفنية آنذاك لتوحيد الشعب الألماني والتغني بالعرق الآري. من جهته، اعتبر الفنان المغربي، نعمان لحلو، أن العديد من الفنانين الذين سمحوا لأنفسهم بأن يوظفوا سياسيا ولغرض ما، فقدوا الكثير من بريقهم وقيمتهم، مستشهدا بالحصار الذي شنته أخيرا دول خليجية على قطر، وكيف وُظف بعض الفنانين للتحريض ضد قطر بعدما كانت لهم مكانة محترمة في الساحة الفنية العربية. وفي هذه النقطة قال لحلو: «لا أريد الدخول هنا في اعتبارات سياسية، لكن هؤلاء الفنانين فقدوا الكثير من قيمتهم حينما سمحوا بتوظيفهم لأغراض سياسوية»، وأضاف قائلا: «صحيح أن الفن يمكن أن يكون انعكاسا للسياسة والمجتمع والاقتصاد، لكن العكس غير صحيح، وإلا سيضيع الفن وسيضيع الفنان». وحسب وجهة نظر الفنان والباحث الموسيقي، نعمان لحلو، يجب ألا يوظف أي شيء في الفن إلا الفن ذاته، على اعتبار أن الفن «ليس تعبيرا عن كل شيء جميل، وإنما هو تعبير جميل عن كل شيء، حسب رأي جورج جرداق الشاعر اللبناني الكبير». وأشار لحلو إلى أن الفنان لا بد أن يدرك أين يضع صورته، «فأنا دائما أقول أينما وضعت نفسك تجدها». فدور الفنان هو أن يجمع لا أن يفرق، ويمكنه أن يتناول القضايا السياسية، ولكن بطريقة انتقادية، لا أن ينتصر لجهة على حساب أخرى، حسب رأي الفنان المغربي نعمان لحلو. الفن والفن المضاد لا يقل سلاح الفن قوة وتأثيرا عن باقي الأسلحة الأخرى، فما يميزه أنه يخاطب الوجدان والأحاسيس، فهو بمثابة تلك القوة الناعمة التي قد تواجه في بعض الأحيان بالكثير من القوة «الخشنة»، كالسجن والموت والمنفى وغيرها من الأساليب، كما وقع لعدد من الفنانين عبر التاريخ، ممن وقفوا في وجه السلطة بخطاباتهم الفنية، وفي هذه النقطة اعتبر الكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو، في كتابه «Enactments of Power»، أن قوة الفنان تكمن في أدائه المتمثل في أعماله الفنية أو الأدبية أمام الجمهور، وما تحمله تلك الأعمال من رسائل وأفكار، فيما تكمن قوة السلطة في أداء القوة من خلال ممارسة سلطاتها، وردع كل ما ترى فيه تهديدا لمصالحها. واعتبر الكاتب الكيني أن أداء القوة بالنسبة إلى السلطة قد يتأتى عبر أشكال عديدة تتمثل في الرقابة والمصادرة أو العنف، من خلال السجن والتعذيب والنفي والموت. وقسم هذه القوة إلى صنفين؛ صنف مادي يتمثل في الإجراءات التي تتخذها السلطة ضد الفنان، كالتعذيب الجسدي والقتل، وصنف غير مادي يتجلى في التحكم، من خلال إجراءات الرقابة وتجريده من أحد أكثر أسلحته قوة، وهو جمهوره، عبر عزله عنه في حال كانت تهمته انتقاد السلطة. وأشار الكاتب الكيني إلى أن السلطة تلجأ أيضا إلى تشجيع بعض المواد الفكرية والثقافية التي تصل إلى العامة، من خلال آليات عديدة كالإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية. وتتمثل الرعاية هنا في تبني وتفضيل عمل فني معين تراه السلطة متماشيا مع خدمة مصالحها، أو غض الطرف عن عمل آخر إن وجدته غير ضار بتلك المصالح على الأقل. وبهذا السلوك تعمل السلطة -يقول وا ثيونغو- على تغذية وتنمية الأصوات التي تمتدحها وتسير في فلكها، على عكس سلاح الرقابة الذي تشهره في وجه من تريد إخراسه عبر أساليب الحذف والمصادرة لأي صوت معارض للسلطة. وفي إشارة منه إلى تعارض سلطة الفنان وسلطة السلطة، ذكر الكاتب الكيني أنه في الوقت الذي يدعو فيه الفنان إلى إعلاء قيم العدالة والمساواة والحرية، تسعى السلطة إلى فرض قيم التحكم والاستبداد والانصياع التام. وفي السياق ذاته، تسعى العديد من الأعمال الفنية والثقافية إلى غرس مشاعر الوطنية الزائفة والولاء الأجوف للسلطة، والتي يمكن توظيفها شكلا من أشكال الفن المضاد. في سياق متصل، يقول هاور بيكر، السياسي والدبلوماسي الأمريكي وعضو مجلس الشيوخ بين سنتي 67 و85، في كتابه «عوالم الفن»: «إن السلطة تهتم دائما باتجاه العامة نحو الحشد من أجل الحراك الجماعي»، والتالي، فإن بعض الأعمال الفنية، على غرار الأناشيد الثورية، تولد أحاسيس ومشاعر لدى العامة تحثهم على القيام بحراك ثوري ضد السلطة، لكن، في المقابل، توجد أنواع أخرى من الفن، كبعض الأغاني الوطنية التي من شأنها أن تعزز المعتقدات والمنظومات الطبقية السائدة.