تقدم الاحتجاجات في الجزائر دروسا لا تنضب لشعوب الجوار التواقة إلى الحرية والديمقراطية، وللأنظمة المستبدة التي تسكنها أوهام القوة والتماسك، يمكن الوقوف على أحدها لأهميته القصوى في السياق القائم، ويتمثل في قدرة حراك الشارع، خلال فترة زمنية قصيرة لا تتعدى خمسة أسابيع، على تفتيت النظام. في يوم 3 مارس الجاري، قدم الرئيس بوتفليقة ملف ترشحه أمام المجلس الدستوري، مدعوما من لدن مراكز قوى ظلت تحكم بجانبه على مدى 20 عاما، تتجلى في الجيش، الائتلاف الحزبي بقيادة جبهة التحرير الوطني، رجال الأعمال، والإدارة، وهي القوى التي اصطفت حينها خلف بوتفليقة من أجل ولاية خامسة، مقابل وعود زعم أنها ستقود الجزائر إلى «الجمهورية الثانية». رفض الحراك الشعبي خطة بوتفليقة في مسيرات ضخمة يوم 8 مارس، فاضطر بعد يومين من ذلك إلى طرح خطة بديلة ترمي إلى تمديد ولايته الحالية (تنتهي يوم 27 أبريل 2019) إلى سنة أخرى، على الأقل، مقابل تنفيذ البنود المعلنة نفسها، لكن الرد الشعبي جاء مزلزلا مرة أخرى في مسيرات 15 مارس، والذي طالبه بالرحيل فورا، ودون أي محاولات للالتفاف. مع اتساع الحراك الشعبي الرافض للخطة الأولى ثم الثانية، أدركت القوى الملتفة حول بوتفليقة أن نهايته باتت وشيكة، وبدأت في القفز من مركب السلطة. لقد شرع النظام في التفكك والتفتت تحت ضغط الشارع. أولى معالم التفتت بدأت في صفوف منتدى رؤساء المؤسسات، والذي يرأسه رجل الأعمال والملياردير، علي حداد، الذي صنعته السلطة، حيث استقال رجل الأعمال يسعد ربراب وآخرون، وشلوا منتدى رجال الأعمال الذي ظل أداة في يد سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس المريض. كما تعرضت جبهة التحرير الوطني للتفتت بدورها، حيث أعلنت بعض القيادات اصطفافها إلى جانب الحراك ضد منسق الحزب الذي عيّنه بوتفليقة دون انتخاب، ومازالت جبهة التحرير الوطني قيد التفتت، حتى الآن، وربما التفكك النهائي. وتعرض الائتلاف الحزبي الحاكم بدوره للتفتت قبل أيام، حيث دعا حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يرأسه أحمد أويحيى، الذي أقاله بوتفليقة من رئاسة الحكومة قبل أسبوعين، إلى استقالة بوتفليقة من رئاسة الجمهورية استجابة لحراك الشارع. لم يكن الجيش الجزائري بعيدا عن هذه التحولات، فالمواقف الحادة والعنيفة التي عبّر عنها قائد الأركان، أحمد القايد صالح، في بداية الحراك الشعبي، حتى إنه حذر من تكرار السيناريو السوري، تخلى عنها تماما، في الوقت الذي ابتعد فيه شخصيا تدريجيا عن بوتفليقة، من خلال التعبير عن مواقف متتالية ترمي إلى استمالة رضا الشارع. لقد أدرك الجيش، ربما متأخرا بعض الوقت، أن ظهوره إلى جانب بوتفليقة لم يعد كافيا لحسم الصراع، وأن شرعيته الشعبية في تآكل كلما تأخر أكثر في تبني الحياد بشأن الصراع بين الشارع وما تبقى من النظام المفتت. هكذا، إذن، استطاع الحراك الشعبي في الجزائر، في مرحلة أولى، عزل النظام عن الشعب، ثم في مرحلة ثانية تفتيت النظام نفسه، وعزل مراكز القوى عن بعضها البعض، ويظهر أن جماعة بوتفليقة باتت في عزلة الآن، وبذلك انتقلت خيوط اللعبة إلى مربع آخر طرفاه الجيش، من جهة، والحراك الشعبي من جهة ثانية. في هذا السياق نفهم «دعوة» رئيس أركان الجيش، القايد صالح، يوم 26 مارس الجاري، إلى تطبيق المادة 102 من الدستور، والتي تسمح للمجلس الدستوري بإعلان أن الرئيس بوتفليقة عاجز عن تولي مهامه الرئاسية، وبالتالي، ينبغي إعفاؤه من منصبه، وتولي رئيس مجلس الأمة مهام الرئاسة بالنيابة، إلى حين تنظيم انتخابات رئاسية جديدة خلال أشهر، لكن السؤال المزعج هو: ماذا لو رفض الحراك الشعبي دعوة رئيس الأركان في مسيرات اليوم؟ مما لا شك فيه أن الجيش قد اختار التضحية برموز النظام الممثل في بوتفليقة وجماعته، لصالح بقاء الدولة الجزائرية، لكن التحدي الأكبر اليوم أن إجبار بوتفليقة على الرحيل يحدث في ظل غياب إطار سياسي واضح أو بديل، ما يعني حدوث فراغ مؤسساتي محتمل، قد يدفع الجيش إلى تولي السلطة، تلافيا لانهيار الدولة، وهو الخيار الذي بات يزعج المعارضة والشارع، لأنه يفتح الباب على المجهول مرة أخرى.